
في ظل الضغوط الأمريكية المتواصلة على الهند بسبب استيرادها النفط الروسي، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نيودلهي، في زيارة رسمية من 4 إلى 5 ديسمبر (كانون الأول) 2025، حيث استقبله رئيس الوزراء ناريندرا مودي شخصيًا في المطار، في إشارة واضحة إلى عزم نيودلهي على تعميق العلاقات الثنائية رغم التحذيرات الغربية (قام كذلك وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار بزيارة رسمية إلى موسكو في الفترة من ١٩ إلى ٢١ أغسطس/ آب ٢٠٢٥). لم تكن هذه الزيارة مجرد بروتوكول دبلوماسي؛ بل تحمل رسالة سياسية واقتصادية صريحة: الهند لن تتراجع عن شراكتها الإستراتيجية مع روسيا؛ بل تسعى إلى تحويلها من علاقة قائمة بشكل شبه حصري على النفط الخام إلى شراكة اقتصادية متنوعة ومستدامة قادرة على الصمود أمام العقوبات والضغوط الجيوسياسية. وخلال القمة السنوية الهندية- الروسية الـ23، أكد الزعيمان التزامهما بتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والدفاع والتجارة، مع توقيع مذكرات تفاهم جديدة لتوسيع الشراكة الاقتصادية، في سياق يعكس التحول الجيو- اقتصادي الذي يشهده العالم المتعدد الأقطاب.
تأتي هذه الخطوة في سياق معقد؛ فمن جهة، ارتفعت مشتريات الهند من النفط الروسي ارتفاعًا دراماتيكيًا منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لتصل في بعض الأشهر إلى أكثر من ٤٠٪ من إجمالي وارداتها النفطية، مما جعلها أكبر مشترٍ للنفط الروسي المنقول بحرًا بعد الصين. ومن جهة أخرى، فإن الولايات المتحدة تواصل من خلال وزارة الخزانة ووزارة الخارجية التحذير من “عواقب” محتملة على الكيانات الهندية التي تتعامل مع القطاع النفطي الروسي، في إطار إستراتيجيتها لتضييق الخناق على إيرادات موسكو. لكن نيودلهي، بدلًا من التراجع، اختارت مسارًا معاكسًا: تحويل الضغط الخارجي إلى دافع داخلي لتنويع الشراكة وتعميقها، وهذا هو جوهر التحول الذي نشهده الآن، خاصة مع تأكيد بوتين خلال الزيارة جاهزية روسيا لتوريد “شحنات وقود غير منقطعة” إلى الهند رغم الاعتراضات الأمريكية.
منذ استقلال الهند عام ١٩٤٧، شكلت روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً) شريكًا إستراتيجيًا رئيسًا. كانت العلاقة في البداية عسكرية وسياسية على نحو أساسي، لكنها بدأت تأخذ بعدًا اقتصاديًا ملحوظًا منذ الستينيات مع مشروعات الصناعة الثقيلة، ومحطات الطاقة النووية، ومصفاة النفط في باراديب. ومع ذلك، ظل الحجم الإجمالي للتجارة الثنائية متواضعًا عقودًا طويلة، حيث لم يتجاوز ١٠ مليارات دولار حتى عام ٢٠١٥. الطفرة الحقيقية بدأت بعد عام ٢٠٢٢؛ ففي غضون ثلاث سنوات فقط، قفزت التجارة الثنائية من نحو ١٣ مليار دولار إلى أكثر من ٦٥ مليار دولار في السنة المالية ٢٠٢٤- ٢٠٢٥، ومن المتوقع أن تتجاوز ١٠٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠٣٠ إذا استمرت الوتيرة الحالية.
هذا النمو الكبير لم يكن نتيجة تخطيط طويل الأجل؛ بل كان استجابة سريعة للظروف الجيوسياسية: العقوبات الغربية دفعت روسيا إلى البحث عن أسواق بديلة، وارتفاع أسعار الطاقة العالمية دفع الهند إلى البحث عن مصادر رخيصة ومستقرة، لكن هذا النمو كان مشوهًا بوضوح: نحو ٨٥-٩٠٪ من الصادرات الروسية إلى الهند نفط خام ومنتجات بترولية، في حين تتركز الصادرات الهندية في الأدوية والمنتجات الزراعية والآلات. هذا الاختلال الكبير جعل العلاقة عرضة للصدمات الخارجية، وهو ما أدركته كلتا الحكومتين مبكرًا.
من هنا جاءت الرغبة المشتركة في “إزالة الطابع النفطي” عن العلاقة (de-oil the relationship) وخلال السنتين الأخيرتين، شهدنا خطوات ملموسة في هذا الاتجاه:
أولًا: آليات الدفع البديلة
واجهت التجارة عقبة كبرى تتمثل في العقوبات على البنوك الروسية واستبعادها من نظام سويفت. استجابت الهند وروسيا بسرعة غير معهودة بتفعيل تسوية المعاملات بالروبية والروبل. وبحلول منتصف ٢٠٢٥، أصبح أكثر من ٩٥٪ من المعاملات النفطية تتم بهذه العملات، مما قلل الاعتماد على الدولار، وخفض تكلفة التحويلات بنسبة تصل إلى ٨-١٢٪. كما أُنشئت قنوات دفع خاصة بين بنك التنمية الهندي (EXIM Bank) وبنوك روسية محددة غير مشمولة بالعقوبات الثانوية حتى الآن.
ثانيًا: اتفاقيات التجارة الحرة
في أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠٢٤، وقّع الجانبان اتفاقية تجارة حرة محدودة النطاق مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، ودخلت حيز التنفيذ في يوليو (تموز) ٢٠٢٥. تخفض الاتفاقية التعريفات الجمركية على أكثر من ٨٥٪ من السلع، وتشمل فتح السوق الروسية أمام المنتجات الزراعية الهندية (الأرز، والفواكه، والشاي) والمنسوجات والمنتجات الجلدية، مقابل فتح السوق الهندية أمام المعادن والأسمدة والمنتجات الكيماوية الروسية.
ثالثًا: الطاقة النووية والغاز الطبيعي المسال
في ديسمبر (كانون الأول) ٢٠٢٤، وقّعت شركة غازبروم وشركة (GAIL) الهندية اتفاقية لتوريد ٢.٥ مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًا لمدة ٢٠ عامًا بدءًا من ٢٠٢٧. كما اتُّفق على بناء ٦ وحدات نووية جديدة في كودانكولام بتقنية روسية (VVER-1200)، بتمويل روسي ميسر.
رابعًا: الممر البحري الشمالي- تشيناي فلاديفوستوك
في سبتمبر (أيلول) ٢٠٢٥، دُشنت أول رحلة تجارية تجريبية عبر الممر الشمالي الروسي (Northern Sea Route)، مما يقلص زمن الشحن بين مومباي وسانت بطرسبورغ من ٤٠ يومًا إلى ٢٤ يومًا فقط. وتخطط الهند لاستثمار ٥٠٠ مليون دولار في تطوير ميناء فلاديفوستوك وميناء تشيناي كمحورين لوجستيين.
خامسًا: التعاون الصناعي والتكنولوجي
إنتاج مشترك لمسحوق الألمنيوم عالي النقاء في ولاية أوديشا باستثمارات روسية (روسال)، ومصنع لإنتاج لقاح سبوتنيك في هيماشال براديش بقدرة ٣٠٠ مليون جرعة سنويًا، واتفاقيات لتصنيع قطع غيار طائرات “سوخوي” و”ميغ” محليًا في ناشيك وكورابوت. ومشروع مشترك لتطوير بطاريات الليثيوم- أيون باستخدام تقنية روسية ومواد خام هندية.
رغم هذا الزخم، فإن بناء شراكة اقتصادية “دائمة” يواجه عقبات جوهرية:
أولًا: الضغوط الأمريكية المتصاعدة
حتى ديسمبر (كانون الأول) ٢٠٢٥، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أكثر من ٥٠ سفينة وشركة تأمين تشارك في نقل النفط الروسي فوق سقف السعر (٦٠ دولارًا)، وهددت واشنطن صراحة بتطبيق عقوبات ثانوية على مصافي التكرير الهندية إذا استمرت في معالجة نفط روسي من مصادر مشمولة بالعقوبات. هذا التهديد يضع البنوك والشركات الهندية في موقف حرج.
ثانيًا: الاختلال التجاري المستمر
رغم التنويع، لا يزال العجز التجاري الهندي مع روسيا كبيرًا (نحو ٥٠ مليار دولار سنويًا). وما دام النفط هو المحرك الرئيس، فإن أي تغير في أسعار الطاقة، أو تشديد للعقوبات، قد يؤدي إلى انهيار التوازن.
ثالثًا: البنية التحتية واللوجستيات
الطرق البرية عبر آسيا الوسطى، مثل ممر (INSTC)، تعاني تأخيرات كبيرة بسبب العقوبات على إيران، ومشكلات الجمارك في كازاخستان. والممر الشمالي يبقى موسميًا، ويتطلب استثمارات ضخمة في كسارات الجليد، وأنظمة الملاحة.
رابعًا: المنافسة الصينية
روسيا تعتمد اعتمادًا متزايدًا على الصين بوصفها سوقًا رئيسة للطاقة والسلع. وفي حالة تحسن العلاقات الروسية- الغربية مستقبلًا، قد تجد موسكو أن من الأسهل التعامل مع بكين بدلًا من الهند؛ بسبب القرب الجغرافي، والقدرة الشرائية الأعلى.
لكي تكون الشراكة الاقتصادية بين الهند وروسيا “دائمة”، يجب أن تستوفي ثلاثة شروط أساسية؛ أولًا: التنويع الحقيقي، إذ يجب أن تنخفض نسبة النفط في الصادرات الروسية إلى الهند إلى أقل من ٥٠٪ بحلول ٢٠٣٠، وهذا يتطلب نجاح المشروعات الصناعية المشتركة، وتفعيل الاستثمارات الروسية في قطاعات الدفاع، والطاقة المتجددة، والتعدين. ثانيًا: الاستدامة المالية، يجب تطوير نظام دفع مستقل تمامًا عن الدولار، ربما عبر عملة رقمية مشتركة، أو توسيع استخدام منصة (SPFS) الروسية مع ربطها بالبنوك الهندية. ثالثًا: التوازن الجيوسياسي، إذ يجب أن تثبت الهند قدرتها على الصمود أمام الضغوط الأمريكية دون المساس بمصالحها الإستراتيجية مع الغرب (كواد، وشراء أسلحة أمريكية، وتعاون تكنولوجي)، وهذا يتطلب دبلوماسية دقيقة جدًا.
أخيرًا، يمكن للهند وروسيا بناء شراكة اقتصادية دائمة، لكن ليس بالمعنى التقليدي للتحالفات الاقتصادية الغربية أو الصينية. ستكون هذه الشراكة “دائمة بقدر ما تظل الضغوط الغربية قائمة”، وستتخذ طابعًا براغماتيًا قائمًا على المصلحة المتبادلة وليس على القيم المشتركة، أو الرؤية الطويلة الأمد. وما نشهده اليوم ليس مجرد استجابة لأزمة عابرة؛ بل بداية تحول جيو- اقتصادي عميق: الهند تسعى إلى تأمين احتياجاتها الطاقوية والدفاعية بعيدًا عن الاعتماد الأحادي على الغرب، وروسيا تبحث عن شركاء جنوبيين قادرين على كسر عزلتها. وفي هذا التقاطع، تتشكل شراكة ليست مثالية، لكنها واقعية، ومرنة، وربما أكثر قدرة على الصمود مما يتوقع الكثيرون. وقد لا تكون العلاقة الهندية- الروسية “تحالفًا” بالمعنى الكلاسيكي، لكنها بالتأكيد أصبحت “علاقة لا غنى عنها” لكلا الطرفين، في عالم متعدد الأقطاب يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير