إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

روسيا وكوريا الشمالية وتأسيس نظام دولي مضاد للهيمنة الغربية

تحالف الظلال المشرقة


  • 23 يونيو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: hromadske

في لحظة فارقة من التحولات الجيوسياسية العالمية، تأتي الذكرى السنوية الأولى لتوقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين روسيا وكوريا الشمالية في 19 يونيو (حزيران) 2024، لتؤكد أن العالم قد دخل فعليًّا طورًا جديدًا من توازن القوى، تتصدّره تحالفات غير تقليدية تتجاوز الأطر الكلاسيكية للتحالفات الأمنية والاقتصادية، فالعلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ لم تعد مجرد تفاعلات ظرفية فرضتها الحرب الأوكرانية أو العزلة المفروضة على الطرفين؛ بل تحوّلت إلى بنية إستراتيجية مرشحة لأن تكون أحد أعمدة النظام العالمي المتعدد الأقطاب.

إن ما يجمع روسيا وكوريا الشمالية اليوم ليس فقط المصالح المشتركة في مواجهة الضغط الغربي أو الحصار الاقتصادي؛ بل رؤية أعمق لعالم أكثر عدالة وتوازنًا في توزيع السلطة، ورفض واضح لهيمنة النموذج الغربي على القيم، والشرعية، والتدخلات العسكرية باسم الديمقراطية. في هذا السياق، تُعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيونغ يانغ، وتوقيعه على اتفاقية دفاع مشترك، لحظةً رمزية وإستراتيجية تعكس حجم التحول العميق في أولويات السياسة الخارجية الروسية، وفي رؤية كوريا الشمالية لمكانتها الجيوسياسية.

الاتفاقية.. إعلان مرحلة جديدة من التوازن العسكري

تنص المادة الرابعة من الاتفاقية الروسية الكورية على أن أي هجوم تتعرض له إحدى الدولتين سيُقابل برد عسكري مباشر من الطرف الآخر، وهو بند يوازي في قوته ما جاء في المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، ولكن بمضامين تعكس فلسفة دفاعية مضادة للهيمنة الغربية. دخول هذا البند حيز التنفيذ يعني أن بيونغ يانغ -بترسانتها النووية- أصبحت جزءًا عضويًّا من البنية الردعية الروسية، كما أن موسكو منحت شرعية ضمنية لامتلاك كوريا الشمالية قدرات نووية دفاعية.

يُقرأ هذا التحرك من زاويتين متداخلتين: الأولى أن روسيا لم تعد تخشى استفزاز الغرب بإقامة علاقات دفاعية مع دولة صنفتها الولايات المتحدة عقودًا “محور شر”، والثانية أن موسكو ترسل رسالة واضحة مفادها أن التحالفات لا تُبنى فقط على اعتبارات الليبرالية؛ بل على المصالح السيادية، والشراكات المستقلة عن الهيمنة.

كوريا الشمالية من “دولة منبوذة” إلى حليف مؤثر في المعادلة الأمنية الدولية

كوريا الشمالية، الدولة التي لطالما استُخدمت فزاعة في الدعاية الغربية، أثبتت أنها قادرة على إعادة تعريف حضورها الجيوسياسي، فقد تحوّلت من كيان محاصر إلى شريك فاعل يرسل آلاف الجنود للمساعدة على إعادة إعمار مقاطعة كورسك الروسية التي شهدت معارك ضارية مع القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب.

المفاجأة لم تكن في القدرات العددية للجنود الكوريين الشماليين؛ بل في أدائهم الذي وُصف بأنه تكتيكي ومتطور، خاصة في استخدام المسيرات وتقنيات الحرب الحديثة، ما يدل على حصولهم على تدريب تقني مشترك من جانب القوات الروسية. بهذا أصبحت كوريا الشمالية فاعلًا ميدانيًّا مباشرًا في صراعات القرن الحادي والعشرين، وليس مجرد مصدر للبيانات الاستخباراتية، أو الدعم الرمزي.

الاقتصاد.. مكاسب ضمنية وإستراتيجيات ما وراء الكواليس

بينما تتفادى موسكو وبيونغ يانغ الإفصاح عن المقابل المقدم لكوريا الشمالية مقابل هذا الدعم العسكري والبشري، تشير التقديرات إلى حصول بيونغ يانغ على تكنولوجيا متقدمة في مجالات الفضاء والمسيّرات والدفاع الجوي، فضلًا عن مساعدات اقتصادية وتجارية غير مباشرة، من بينها زيادة التبادل الغذائي، وتسهيلات لوجستية في المواني الروسية.

لكن الأهم أن كوريا الشمالية لم تدخل هذا التحالف من باب المصلحة الآنية فحسب؛ بل كمحاولة إستراتيجية لكسر طوق العزلة، والانخراط في شبكة تحالفات بديلة تضعها على قدم المساواة مع الدول التي تقرر مصير النظام الدولي الجديد.

الرد على الانتقادات الغربية.. من السيادة إلى الواقعية الجيوسياسية

أبدت الولايات المتحدة وحلفاؤها قلقًا بالغًا إزاء هذا التحالف، ووصل الأمر إلى اتهام موسكو بأنها “تشرعن” البرنامج النووي الكوري. في الواقع، فإن هذا القلق الغربي يعكس مأزقًا في فلسفة الردع الأمريكية، إذ إن موسكو لم تنتهك أي قانون دولي حينما أقامت تعاونًا سياديًّا مع دولة أخرى، بل كانت واشنطن هي من عرقل مرارًا أي تسويات في شبه الجزيرة الكورية، وأبقى بيونغ يانغ في دائرة العقوبات والضغط.

الرد الروسي، ممثلًا في تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف، ومندوب روسيا في مجلس الأمن، كان حاسمًا: لا أحد يملك الحق في تقييد سيادة الدول، أو تحديد تحالفاتها، كما أن نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية ليس هدفًا عقلانيًّا في ظل ما تتعرض له من تهديدات مستمرة.

تضع اتفاقية الشراكة بين روسيا وكوريا الشمالية اللبنة الأولى في تأسيس محور أوراسي بديل لحلف الناتو، يضم دولًا تتقاطع مصالحها في رفض التدخلات الغربية، ويُتوقع أن تنضم إليه دول أخرى كإيران، وربما الصين لاحقًا، في تحالف أمني- دفاعي يُعيد تعريف الأمن الجماعي على أسس غير غربية.

وتكمن عبقرية هذا التحالف في أنه لا يقوم على أيديولوجيا محددة، أو عقيدة مشتركة؛ بل على واقعية جيوسياسية مفادها أن زمن الهيمنة الأحادية قد انتهى، وأن الدول التي تملك القدرة على مقاومة الضغوط الاقتصادية والعسكرية الغربية، يمكنها أن ترسم خريطة بديلة للعالم.

كانت العقوبات الغربية على روسيا تهدف إلى عزلها، لكنها أدت إلى نتائج عكسية؛ فبدلًا من الانهيار، أصبحت روسيا أكثر مرونة وتحالفًا مع قوى كانت تُعد هامشية في النظام الدولي. كوريا الشمالية، بحكم تجربتها الطويلة في مواجهة العقوبات، وفّرت لروسيا نموذجًا في كيفية التكيف مع الضغوط وتحويلها إلى فرص.

ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو التعاون العسكري والتقني الذي تجلى في إرسال المسيرات والذخائر الكورية إلى الجبهات الروسية، وهو ما منح موسكو قدرة على الاستمرار في عملياتها، وتحييد النقص الناتج عن القيود الغربية.

تبعث موسكو وبيونغ يانغ من خلال هذا التحالف رسائل متعددة الاتجاهات؛ إلى بكين تقول: لسنا تابعين لمشروعك؛ بل لدينا مشروعنا الأوراسي المستقل. وإلى طهران: أنتِ لست وحدكِ في مواجهة العقوبات، بل إن هناك محورًا واسعًا قادرًا على الدعم والتكامل. أما إلى دول إفريقيا التي تواجه ضغوطًا غربية، فالرسالة واضحة: هناك بدائل للتحالفات الغربية، بشرط أن تكون السيادة أولوية، والمصلحة الوطنية هي البوصلة.

الاستنتاجات

تشير الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين روسيا وكوريا الشمالية إلى تحوّل عميق في بنية النظام الدولي، حيث تتقدم موسكو وبيونغ يانغ لبناء تحالف سيادي يتجاوز الإملاءات الغربية، ويفرض معادلة جديدة للقوة تقوم على الواقعية الجيوسياسية، لا على خطاب “حقوق الإنسان” المسيّس، أو معايير “الديمقراطية الانتقائية”. لقد أثبتت هذه الشراكة، في عامها الأول، أنها ليست مجرد تقارب عابر فرضته الحرب الأوكرانية؛ بل مشروع طويل الأمد لإعادة صياغة العلاقات الدولية، حيث تندمج القدرات النووية الكورية مع العمق الجيوسياسي الروسي في إطار من التكامل الدفاعي والسياسي. إنها رسالة مباشرة للعالم مفادها أن زمن الانصياع للقطب الواحد قد انتهى، وأن الدول التي اختارت أن تكون خارج دائرة الهيمنة الغربية قادرة على الصمود، والرد، والمبادرة، وصياغة تحالفات متحررة من منطق العقوبات والحصار، مستندة إلى مفهوم جديد للقوة: السيادة المطلقة، والمصلحة المشتركة، والتكامل في وجه الضغط. روسيا لا تتراجع، وكوريا الشمالية لم تعد معزولة، والعالم أمام ميلاد محور جديد، لا يسعى إلى المواجهة من أجل المواجهة؛ بل إلى فرض التوازن بوصفه شرطًا للسلام الحقيقي، والعدالة الدولية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع