يبدو أن تآكل نفوذ الولايات المتحدة وقوتها لا يقتصر فقط على إفريقيا والشرق الأوسط، وكثير من المناطق في آسيا، وحتى أوروبا؛ بل امتد إلى المنطقة التي كانت واشنطن تعتبرها دائمًا “حديقتها الخلفية”، وهي أمريكا الجنوبية، فالنتيجة الوحيدة للصورة الجماعية التي جمعت زعماء المنتدى الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ “أبيك APEC” في ليما، عاصمة بيرو، هي أن الحضور والزخم الأمريكي لم يعد قائمًا لدى شعوب دول أمريكا اللاتينية وقادتها كما رسمه وخطط له الرئيس الخامس للولايات المتحدة جيمس مونرو، في مبدأ مونرو الشهير، في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1823، الذي كان يسعى إلى الحفاظ على “علاقة خاصة” و”هيمنة حصرية” لواشنطن على قرارات كل دول أمريكا اللاتينية والجنوبية ومقدراتها، بعيدًا عن القوى الأوربية آنذاك. ففي الصورة الجماعية لمنتدى “أبيك”، وقف الرئيس الأمريكي جو بايدن في “الصف الأخير”، ليس هذا فحسب؛ بل وُضِعَ على أحد جانبي “الصف الأخير”، وليس في المنتصف أو في قلب الصورة الجماعية التذكارية، في حين كان هناك ترحيب خاص من جانب رئيسة بيرو دينا بولوارتي بالرئيس الصيني شي جين بينج، وباقي زعماء العالم في القمة التي تجمع الدول على جانبي المحيط الهادئ، وضمت قادة 21 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تمثل نحو 60 % من الناتج الإجمالي العالمي.
هذا التهميش لمكان الرئيس الأمريكي ومكانته في الصورة الجماعية الختامية لمنتدى “أبيك” كشف عن عمق الفجوة بين الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، وجيرانها في أمريكا الجنوبية من جانب آخر، فشعوب أمريكا الجنوبية تكشف من خلال هذه المواقف رفضها للسلوك الأمريكي القائم على التدخلات السياسية والعسكرية في دول أمريكا الجنوبية، وحصار كثير من شعوب القارة بالعقوبات الأمريكية، مثل الحصار الأمريكي الطويل على كوبا، والضغوط التي لا تحتمل على فنزويلا، ومحاولة التشكيك في شرعية بعض الأنظمة الحاكمة في دول القارة التي كان ينبغي أن يكون لواشنطن معها أفضل العلاقات التي تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
على الجانب الآخر من الصورة نرى احتفاء بالصين، واحترامًا كاملًا لروسيا في الجزء الجنوبي من النصف الغربي للكرة الأرضية، ففي الوقت الذي يقدم فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه على أنه “الواعظ الأخلاقي”، يدعم -في الوقت نفسه- التمرد والانقلابات العسكرية، في حين تعمل روسيا والصين بإيجابية كبيرة لمساعدة شعوب أمريكا الجنوبية على تجاوز حالات الفقر والجوع وفق حديث رئيسة تشيلي، وبينما الرئيس الأمريكي غارق في شرح “أستاذية واشنطن” في تعليم الآخرين حقوق الإنسان، وتحالف القيم والديمقراطية على النمط الغربي والأمريكي، نرى الرئيس الصيني يفتتح مع نظيرته دينا بولوارتي أكبر ميناء في أمريكا الجنوبية، وهو ميناء تشانكاي العملاق في شمال ليما، وهو أول ميناء ممول بالكامل من الصين في المنطقة، ويضم نحو 15 رصيفًا بحريًّا تستوعب جميع السفن العملاقة التي تحمل آلاف الحاويات، وهو ما يسهم في تعزيز التجارة، وتقصير المسافة بين دول وشعوب أمريكا الجنوبية والدول الآسيوية، وفي مقدمتها الصين؛ ولهذا سوف يعمل هذا الميناء العملاق -الذي بلغت تكلفة إنشائه نحو 3.5 مليار دولار- على تسهيل وصول البضائع والسلع بمليارات الدولارات من أمريكا الجنوبية إلى باقي دول العالم، وهو ما يقول إننا أمام مقاربتين مختلفتين تمامًا؛ مقاربة أمريكية تلفظها دول أمريكا الجنوبية، ومقاربة جديدة تقودها الصين وروسيا، فما العوامل التي أسهمت في “تآكل” النفوذ الأمريكي في أمريكا الجنوبية وتراجعه؟ وفي المقابل، لماذا تحظى روسيا والصين “بمقبولية كبيرة” لدى حكومات “الحديقة الخلفية” للولايات المتحدة الأمريكية وشعوبها؟
التدقيق في طبيعة التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمر بها أمريكا الجنوبية يكشف بوضوح أن القارة تشيح بوجهها عن ساكني البيت الأبيض، سواء أكانوا ديمقراطيين أم جمهوريين، ووجدت لها حلفاء وأصدقاء في تجمعات ومنظمات وأسواق جديدة وفاعلة على المستويين الإقليمي والدولي، مثل البريكس وأبيك، وهو ما تكشف عنه كثير من المؤشرات، ومنها:
أولًا- شراكة اقتصادية عادلة
ترفض غالبية الدول في أمريكا الجنوبية الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على اقتصادات دول القارة، التي استمرت قرونًا، وباتت هذه الدول تبحث عن “شراكة عادلة”، دون شروط سياسية أو إملاءات خارجية؛ ولهذا سعت دول أمريكا الجنوبية إلى تنويع علاقاتها الاقتصادية مع قوى وتكتلات جيو- سياسية، وجيو- اقتصادية خارج نصف الكرة الغربي، خاصة مع الصين وروسيا والهند. وتكشف أرقام التجارة البينة لدول أمريكا الجنوبية عن تراجع حجم التجارة مع الولايات المتحدة لمصلحة الصين، فالصين تغلبت على الولايات المتحدة تجاريًّا واستثماريًّا، وأصبحت الشريك التجاري الأول لأمريكا الجنوبية، وتتوقع وزارة الخارجية الصينية أن يصل حجم التجارة بين الجانبين إلى نحو 500 مليار دولار بنهاية عام 2024، منها نحو 150 مليار دولار بين الصين والبرازيل، وهناك توقعات أن يصل حجم التجارة بين الصين ودول أمريكا الجنوبية عام 2035 إلى نحو 700 مليار دولار، كما أن الصين -وليس الولايات المتحدة- هي المستثمر الأول في أمريكا الجنوبية، خاصة في مجالات الصناعة والتعدين والبنية التحتية، وبلغت الاستثمارات الصينية في أمريكا الجنوبية عام 2021 نحو 400 مليار دولار، ويشترك عدد كبير جدًّا من دول القارة في المشروع الصيني الإستراتيجي “الحزام والطريق”. كما أن الصين لديها رؤية أوضح في توقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع دول القارة، في حين تحاول الولايات المتحدة فرض سياستها من خلال العقوبات الاقتصادية، أو فرض مزيد من الرسوم والحواجز الجمركية.
ثانيًا- تحول جيوسياسي
من يعرف شعوب أمريكا الجنوبية يتأكد له أنها شعوب لا يمكنها أن تقبل بالتبعية أو التدخلات الخارجية؛ ولهذا رفضت هذه الدول جرها إلى معاداة روسيا مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، واتخذت قرارها المستقل بعدم قطع علاقاتها مع روسيا، أو الانضمام إلى العقوبات الأمريكية والغربية على موسكو، ولعل انضمام البرازيل إلى تكتل البريكس الذي تقوده روسيا والصين خير دليل على النزعة الاستقلالية لدول أمريكا اللاتينية بعيدًا عن التبعية الأمريكية، خاصة في دول مثل كوبا وفنزويلا، وهو أمر تجني الصين وروسيا ثماره بعد أن حققتا نتائج “جيو- سياسية” جيدة، خاصة عندما دعمت دول أمريكا الجنوبية روسيا والصين في المنتديات والتجمعات الإقليمية والدولية، خاصة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن.
ثالثًا- ثقة بالتعاون العسكري الروسي والصيني
ما زال للولايات المتحدة حضور عسكري في أمريكا الجنوبية من خلال القواعد العسكرية الأمريكية في خليج غوانتانامو، وكوبا، وسوتو كانو، وهندوراس، وهناك قدرة لواشنطن في الوصول العسكري إلى 9 دول في أمريكا الجنوبية في شكل حضور محدود في بعض المطارات العسكرية، والمواقع الأمنية، ومواقع الرادار والمكاتب العسكرية.
ومع ذلك، نجحت روسيا والصين في تقديم نموذج للتعاون الأمني والعسكري يكون بديلًا عن النمط الأمريكي القائم على “التدخل في الشؤون الداخلية” لدول أمريكا اللاتينية، ويأخذ الوجود العسكري الروسي والصيني “الشكل الناعم” من خلال زيادة مبيعات الأسلحة والذخيرة لهذه الدول، خاصة المدرعات والطائرات والأسلحة الثقيلة، وعززت روسيا والصين حضورهما العسكري من خلال التدريبات الدورية والبعثات التعليمية العسكرية إلى الأكاديميات العسكرية الروسية والصينية التي نجحت في خلق ثقافة عسكرية مشتركة مع النخب العسكرية في أمريكا الجنوبية، فعلى سبيل المثال، تشكل المبيعات العسكرية من روسيا والصين لفنزويلا جزءًا رئيسًا من تسليح البلاد، كما أن رؤية روسيا والصين القائمة على احترام القانون الدولي وسيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى باتت تحظى بدعم المؤسسات العسكرية في أمريكا الجنوبية.
رابعًا- رفض “تسليح الدولار”
أدت سياسة العقوبات الأمريكية على كثير من دول أمريكا الجنوبية إلى رفض شعبي لسياسة “تسليح الدولار” التي تنتهجها واشنطن ضد كثير من دول أمريكا الجنوبية؛ ولهذا تميل دول أمريكا الجنوبية إلى التعامل “بالعملات الوطنية” في التجارة الدولية بما يضعف سيطرة الدولار وهيمنته على التعاملات التجارية الدولية، ولعل نموذج التعامل بالعملات الوطنية بين البرازيل وكل من روسيا والصين في تجمع البريكس خير شاهد على تلهف دول أمريكا اللاتينية إلى التخلص من سياسة الدولار وهيمنته وعسكرته وتسليحه.
خامسًا- عالم متعدد الأقطاب
تعد دول أمريكا الجنوبية من أكثر مناطق العالم التي دفعت ثمن سيطرة “القطب الواحد” على مقدرات النظام الدولي منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991؛ ولهذا عبرت كثير من دول أمريكا الجنوبية عن دعمها الكامل للعدالة في العلاقات الدولية من خلال تدشين “عالم متعدد الأقطاب” يضمن عدم التدخل الغربي والأمريكي في الشؤون الداخلية لدول أمريكا الجنوبية، وهي الدول التي دفعت ثمنًا باهظًا نتيجة للأحادية القطبية، فما زالت كثير من هذه الدول تعاني التدخلات السياسية والعسكرية للبيت الأبيض، وهو ما أدى إلى كثير من الخلافات الحدودية والانقلابات الداخلية التي عطلت التنمية والازدهار في أمريكا الجنوبية.
الثابت أن واشنطن باتت تدفع ثمن أفعالها في مختلف أقاليم العالم، ولعل الازدراء الذي عومل به الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمة “أبيك” خير مثال على “التحول الكبير” في مواقف دول العالم، ومنها دول أمريكا الجنوبية التي تتبنى مقاربات تقول إن هذه الدول بدأت بالفعل تعاقب واشنطن على أفعالها.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.