صباح الاثنين، 14 يوليو (تموز) 2025، شهدت العاصمة الأوكرانية كييف حدثًا غير اعتيادي؛ فقد وصل إليها في زيارة غير معلنة الجنرال كيث كيلوج، المبعوث الخاص لترمب للتسوية الأوكرانية، المعروف بمواقفه المتشددة ضد روسيا.
وغير الاعتيادي في هذه الزيارة أنها سوف تستمر أسبوعًا كاملًا، والأكثر إثارة هو تزامنها مع تسريبات مكثفة من داخل واشنطن بشأن قرب (أكتبُ هذه السطور في موسكو 14/7، الساعة 13:36) إعلان حاسم من دونالد ترمب بشأن روسيا، يترافق مع استعدادت أمريكية متقدمة لإرسال منظومات دفاع جوي تشمل صواريخ “باتريوت”، فضلًا عن صواريخ هجومية -على الأغلب “أتاكمز”- إلى أوكرانيا.
وحسبما أتابع، لا يُقرأ هذا الثلاثي من التحركات، أي زيارة كيلوج، وإعلان ترمب المرتقب، وصواريخ “باتريوت” -من وجهة النظر الروسية بالطبع- بوصفه مجرد تصعيد تكتيكي، بل يُنظَر إليه على أنه محاولة أمريكية لتعديل شروط التفاوض المستقبلية مع موسكو، وذلك عن طريق إعادة ضبط التوازانات الميدانية لصالح كييف -ولو مؤقتًا- لا سيما في ظل التقدم المطلق للقوات الروسية على مدار أشهر.
وإذا بدأت بزيارة كيلوج، فيمكنني القول -من واقع ما أفهمه من الموقف الروسي تجاهه- إن الروس لا ينظرون إلى كيلوج بوصفه مبعوثًا عاديًا، بل هو رجل “مهمات خاصة”، وقد اختير بعناية لإدارة ملف بالغ الحساسية يرتبط بتقاطع الأمن الأوروبي والعقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة التي تتنبناها وتعتنقها إدارة ترمب.
ووفقًا لما تقوله مصادر مقربة من الكرملين، فإننا لكي نفهم طبيعة زيارته هذه المرة، خاصةً أنها تمتد أسبوعًا، وهؤلاء جميعًا، أي كيلوج ومن سيلتقيهم، أناس مشغولون، أي إنه لم يأتِ لكي يتنزه أو يسمع أحاديث بروتوكولية فارغة؛ ولذلك لا بد أن نقرأ فيها ثلاث رسائل ضمنية؛ أولاها أن إرسال شخصية عسكرية، لا دبلوماسية ولا سياسية إلى كييف، يعني أن هناك تحولًا في الإشراف الأمريكي على مسار الحرب، بحيث من المتوقع أن ينظم كيلوج عملية التنسيق المباشر بين المخابرات العسكرية الأمريكية ومكتب زيلينسكي، دون المرور عبر قنوات الخارجية الأمريكية، وبالمناسبة كان أندريه يرماك مدير مكتب زيلينسكي هو الذي في استقباله لدى وصوله إلى كييف.
ثانيًا: من واقع التحليلات الروسية التي قرأتها، يبدو أن موسكو ترى زيارة كيلوج حركة تمهيدية لادخال أوكرانيا في مرحلة ما يعرف بالضغط المزدوج، والمقصود به زيادة الضغط عسكريًّا على روسيا، وسياسيًّا على زيلينسكي، نحو القبول بتسوية أمريكية الطابع.
فوفقًا لتقرير نشرته صيحفة “نيزافيسيمايا غازيتا”، فإن كيلوج قد يكون المبعوث الذي يفترض به تنفيذ مرحلة انتقالية نحو اتفاق وقف إطلاق نار، لكن بشروط أمريكية صريحة تضمن دورًا مباشرًا لواشنطن في مستقبل أوكرانيا.
أما الرسالة الضمنية الثالثة، التي يجب قراءتها في زيارة كيلوج، فتشير إلى أنه من المتوقع أن يكون كيلوج قد وصل حاملًا مقترحات أولية لإعادة فتح قنوات تواصل استخبارية مع موسكو.
وبالحديث عن إعلان ترمب المرتقب، فمن واقع ما صدر ويصدر من تصريحات عن الكرملين بهذا الخصوص، من الواضح أن بوتين يتعامل معه على أنه ليس أكثر من مناورة إعلامية، أو قد يكون هناك اتفاق ضمني بينه وبين ترمب.
وإذا نحينا جانبًا حالة الهوس الإعلامي بالإعلان المرتقب من ترمب بشأن روسيا، فمن وجهة نظري، أنه لن يخرج عن سيناريوهين لا ثالث لهما، وهذا ليس بقراءة فنجان؛ بل من واقع قراءة هادئة للواقع الموضوعي بشأن هذا الملف.
السيناريو الأول -في رأيي- واعتمادًا على مواقفه السابقة، يبدو لي أن كل ما يقوله ترمب بهذا الخصوص ما هو إلا مناورة أمريكية لرفع سقف التفاوض، فقد يعلن ترمب مساعدات إضافية لأوكرانيا، أو فرض عقوبات رمزية على روسيا في محاولة لابتزاز موسكو دبلوماسيًّا، دون نية حقيقية للتصعيد العسكري الكامل.
والكرملين يتعامل مع هذا الاحتمال بحذر؛ لأنه يرى أنه امتداد لسياسية “حافة الهاوية” التي مارستها الإدارات الأمريكية السابقة منذ عام 2014.
أما السيناريو الثاني المحتمل، فحسبما قرأته من تحليلات روسية معتبرة في هذا الخصوص، تشكل لديَّ انطباع أن المحللين الروس يعتقدون وجود خطط لدى ترمب لعرض “صفقة وقف إطلاق نار مشروط”، وما يدعم هذا الاعتقاد لديهم -في رأيي- هو تلميحات لمسؤولين أمنيين سابقين في إدراة ترمب إلى أن “الولايات المتحدة تحتاج إلى إنهاء هذه الحرب وحرب الشرق الأوسط لتوجيه تركيزها نحو آسيا”، وهذا السيناريو يتسق مع زيارة كيلوج، وقد يُعلَن في خطاب إعادة تحديد الأولويات الأمنية، المتوقع قريبًا.
أما مسألة توريد صورايخ ومنظومات “باتريوت”، فتتعامل معه موسكو بجدية، ولكن من دون تهويل، فمسؤولو وزارة الدفاع الروسية صرحوا أن أي نشر لأنظمة “باتريوت” سيتم التعامل معه بوصفه تحركًا عدائيًّا مباشرًا، وهذا سيجعل البنية التحتية الغربية داخل أوكرانيا هدفًا مشروعًا للقوات الروسية،وهذا ما دأب العسكريون الروس على إعلانه في كل مرة يدور فيها الحديث عن واردات أسلحة غربية متطورة إلى أوكرانيا.
ومن واقع ما اطلعت عليه من تعليقات بهذا الشأن، تشير التقارير الاستخباراتية الروسية إلى أن الولايات المتحدة قد ترسل هذه المنظومات إلى منطقة لفوف (لفيف)، أو غرب دنيبرو؛ بهدف حماية ممرات الإمداد العسكرية الغربية من استهدافات الطيران الحربي الروسي، خاصةً بعد نجاح روسيا في قصف عشرات المستودعات في الغرب الأوكراني وتدميرها.
وبالطبع إن تم بالفعل توريد صواريخ “باتريوت” أو “أتاكمز” إلى أوكرانيا، فإن الرد الروسي سيكون -في اعتقادي- باستخدام صورايخ كينجال أو إسكندر- إم، أو حتى استخدام استعراضي جديد لصاروخ أوريشنك الرهيب، وكلها صواريخ ذات قدرة فائقة على اختراق أنظمة الدفاع الجوي الغربية.
وبعد كل ما تقدم، يطرح السؤال التالي: هل نحن أمام مرحلة يمكن وصفها بمرحلة ما قبل التسوية؟
من واقع ما أقرؤه في تصريحات النخبة الروسية وتعليقاتها، يبدو لي أنها بدأت تفكر جديًّا في استثمار التحرك الأمريكي الترمباوي الأخير لبداية مسار تفاوض غير مباشر، بشرط أن تتم التسوية دون شروط إذلالية لموسكو، ومن أهم المؤشرات التي تعزز هذا الطرح أن ترمب مثلًا لا يربط استمرار دعم أوكرانيا بتحقيق نصر ميداني، كما كان يقول بايدن، أو كما يصر الأوروبيون على قوله في تصريحاتهم؛ ولكن من أجل “الحفاظ على ميزان القوى حتى يتسنى التفاوض”.
نقطة ثانية مهمة في رأيي، فعلى الرغم من “كره” الروس لكيلوج، وعدم ترحيبهم به، بل عدم استقباله -ولو مرة واحدة- منذ تعيينه في هذا المنصب، فإنه مع ذلك من أشد المعارضين لتوسع الناتو، ويرى أوكرانيا ملفًا خاصًا كُلف به ويجب حله بمقاربة براغماتية.
مسألة إرسال صورايخ “باتريوت” قد تكون مجرد غطاء تفاوضي، وليس نية تصعيد، خاصةً إذا نُشرت دون مرافقة أمريكية مباشرة، أي دون أن يكون الجنود والمهندسون الأمريكيون هم من سيشرفون على تشغيلها.
لكل ما سبق، يمكننا أن نقول إنه قد يحدث تصعيد محدود إذا تم توريد منظومات بارتريوت، من خلال رد روسي لا يكسر قواعد الاشتباك القائمة حاليًا تمامًا.
كما نفترض كذلك أن يكون غرض كل هذا “العرس” الإعلامي الذي مهد له ترمب (أستاذ التشويق، في رأيي) من أجل فرض مسار تفاوض غير مباشر، على غرار نموذج كوريا، أي تفاوض روسي أمريكي غير معلن لوقف القتال مقابل مناطق عازلة مثلًا.
ولكن لا يمكننا أيضًا أن نلغي إمكانية وقوع السيناريو الأسوأ -وإن كان مستبعدًا- وهو الانزلاق نحو المواجهة، وذلك إذا دخل مع صواريخ “باتريوت” مستشارون عسكريون أمريكيون، واستهدفهم الجيش الروسي استهداًفا مباشرًا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.