المقدمة
تتلاعب تركيا بإستراتيجيات متعددة متعارضة في وقت واحد، من التعاون مع دمشق للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى حث زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان بالتحدث في البرلمان التركي وإعلان نهاية المنظمة، ثم الدعم الخفي الآن للمعارضة السورية في عمليتي “فجر الحرية” و”ردع العدوان”، ونجاح هيئة تحرير الشام ـباعتبارها قائد تلك العمليات- في السيطرة -حتى الآن- على حلب وإدلب وحماة، ليتكبد نظام بشار الأسد أكبر خسارة ميدانية منذ سنوات؛ ومن ثم تثير المواجهات المسلحة بين النظام السوري وقوات المعارضة مخاوف من إعادة إشعال الحرب الأهلية لسنوات إضافية، وإنهاك أطرافها وداعميهم، وتعزيز مشروعات التقسيم. وفي هذا الإطار، طرحت عملية “ردع العدوان” المتزامنة مع عملية “فجر الحرية” في السابع والعشرين والثلاثين من نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم عدة تساؤلات عن دلالات الهجوم، وهل يشكل تهديدًا لبقاء نظام الأسد؟ ولماذا ينسحب الجيش من ميادين الحرب ضد الفصائل المعارضة؟ وكيف تستغل أنقرة تلك المواجهات لتعظيم مكاسبها في سوريا؟ وما المحددات التي تشكل مستقبل تركيا في سوريا؟
تحليل المعركة الحالية بين النظام والمعارضة
شنت المعارضة السورية تحت قيادة هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة المدعومة من تركيا هجومًا مفاجئًا في شمال غرب سوريا، ويمثل هذا التطور أول تحول في خط المواجهة لمناطق النفوذ الثلاث في سوريا منذ نحو خمس سنوات؛ ما يفرض عددًا من الدلالات المحورية لتفكيك التشابك المحيط بالوضع الراهن، تتمثل في:
- دلالة المنفذ: أدار عملية “ردع العدوان” تحالف الفتح المبين الذي ظهر أول مرة في مايو (أيّار) 2019، ويضم هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير المدعومة من تركيا، وجماعة جيش العزة، ومجموعات من الحزب التركستاني، غير أن النظام السوري يعتبر هيئة تحرير الشام المسؤول الأول عن العملية، وهي جماعة إسلامية مسلحة تشكلت في يناير (كانون الثاني) 2017 نتيجة اندماج فصائل جهادية عدة، وكانت معروفة سابقًا بـ”جبهة النصرة”، وكانت تابعة لتنظيم القاعدة في سوريا قبل الانفصال عنه في يوليو (تموز) 2016، ويقود الهيئة أبو محمد الجولاني، الذي كان يقود جبهة النصرة قبلها، والتي ينصب هدفها على تحرير سوريا من نظام الأسد، بالتعاون مع مقاتلين من بلدان آسيا الوسطى، وخاصة طاجيكستان.
- دلالة التوقيت: عمليتا “ردع العدوان” التي أطلقت في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، والعملية الموازية “فجر الحرية” التي أعلنها الجيش الوطني في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) ضد قوات النظام السوري، ووحدات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية، رغم حملهما لعنصر المفاجأة للنظام، فإن معظم التقارير تشير إلى أنهما نتاج خطة مدروسة أُعد لها منذ شهور، إذ ترجع حساسية توقيت العملية إلى عدة عوامل، يرتبط أولها بـانشغال داعمي النظام السوري؛ حيث تنصب اهتمامات روسيا على ساحتها الأساسية في أوكرانيا، في حين أنهكت الحرب الإسرائيلية قوات محور المقاومة التابعة للجمهورية الإسلامية، أما ثانيها فيعود إلى حرص هيئة تحرير الشام على شن هجوم استباقي بعد أن حشد نظام الأسد قواته في المناطق التي تسيطر عليها الهيئة، إذ ارتفعت وتيرة القصف والمسيرات الانتحارية في تلك المناطق في الشهور الماضية.
ولعل العامل الثالث المتعلق بالاستياء الواسع النطاق تجاه أبي محمد الجولاني، قائد الهيئة؛ لتخليه عن الثورة -على حد تعبير أتباعه- يؤثر تأثيرًا مباشرًا في الإطار التنظيمي للهيئة، وينبئ بانشقاقات قريبة في صفوف التنظيم. أما العامل الأخير في هذا السياق فيرتبط بالقلق قبيل عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض من تغيير ترتيبات الأوضاع تغييرًا يقوض المكتسبات الميدانية للمعارضة السورية.
- دلالة الميدان: تكمن أهمية العملية في حلب ليس لكونها ثاني أكبر مدينة سورية فقط؛ بل لأن دخول المعارضة حلب يعد أول معركة تقلب موازين القوى لمصلحة المعارضة بعد ثماني سنوات من معركة 2016 التي استعاد فيها النظام السوري السيطرة على المدينة بالكامل.
وتأتي رمزية سيطرة المعارضة على مدينة إدلب في أنها تخضع لهدنة بوساطة تركية وروسية وفقًا لاتفاق “سوتشي“ منذ عام 2020. ورغم انتهاك وقف إطلاق النار عدة مرات في المدينة، فإنه صمد -إلى حد كبير- قبل أن ينهار في العملية الأخيرة. فضلًا عن هذا، يعد نجاح مسلحي المعارضة في تطويق حماة -رابع أكبر مدينة في سوريا- وقطع طريق دمشق حلب الدولي، والسيطرة على طريقين هما (M4 وM5) يربطان حلب بكل من دمشق واللاذقية، علامة فارقة في تاريخ المواجهات بين النظام والمعارضة، ورسالة واضحة بتراجع قدرات الجيش السوري أمام الفصائل المسلحة، خاصة أن سقوط مدينة حماة في قبضة قوات المعارضة السورية يعني الوصول إلى حمص؛ مما يفتح الباب أمام مدن الساحل والعاصمة السورية دمشق.
- دلالة الهدف: ارتكز مقصد العملية على توجيه ضربة استباقية لقوات النظام وداعميها من القوات الروسية والإيرانية، وفي هذا السياق أسفر الهجوم الذي قادته هيئة تحرير الشام على الفصائل المدعومة من إيران عن قتل أحد كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني، كيومرث بورهاشمي، في أثناء المواجهات بين قوات النظام والمعارضة.
- دلالة الرد: كشف التقدم الميداني السريع للفصائل المعارضة، وانسحاب الجيش من حلب وإدلب وحماة، تحت ذريعة “إعادة الانتشار والتموضع”، عن تراجع جاهزية الجيش السوري، وفشله في صد هجوم المعارضة المسلحة دون دعم روسي، من الممكن أن يقلب الوضع لمصلحة الأسد كما حدث في بداية الصراع، كما أن عنصر المفاجأة، وتمدد القتال على أكثر من جبهة في الوقت نفسه، شتتا أهداف الجيش السوري.
- دلالة الصورة: لا تطمح هيئة تحرير الشام من خلال تلك العمليات إلى المكاسب الميدانية، وإسقاط نظام الأسد فحسب؛ بل إن الهدف الأسمى لها يرتبط بتحسين الصورة المرتبطة بالهيئة، ونفي أي شبهات إرهابية عنها، وإضفاء الصبغة السياسية عليها، وهو ما بدأ من زعيم الهيئة الجولاني، الذي كشف عن اسمه الحقيقي لأول مرة “أحمد الشرع“؛ بهدف الترويج لصورة مختلفة عنه أمام القوى السياسية المحلية والدولية، حيث شكّل إدارة مدنية أطلق عليها حكومة الإنقاذ، استطاعت -إلى حد كبير- تأمين الخدمات الأساسية للسكان هناك، كالكهرباء والماء والاتصالات والتعليم، وأسس مدارس لتخريج العسكريين وضباط الشرطة.
- دلالة التكتيك: استطاعت المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام السيطرة على ثلاث مدن محورية في سوريا من خلال الاعتماد على منظومة عسكرية متكاملة بوجود أكاديمية عسكرية، وقيادة مركزية، ووحدات متخصصة سريعة الانتشار، بما في ذلك المشاة والمدفعية، والعمليات الخاصة، والدبابات والطائرات بدون طيار، والقناصون، ووصل الأمر إلى تصنيع الأسلحة على يد تلك الفصائل من دبابات وناقلات جنود مدرعة، بل أنظمة مضادة للطائرات أيضًا، إلى جانب منظومة بانتسير الصاروخية الروسية الصنع بعد استيلائهم عليها في أثناء الاشتباكات.
مكاسب تركيا من انتصار المعارضة
يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستغل التطورات الحالية في المنطقة لإرساء ديناميكيات جديدة على الأرض، على غرار تحركاته الإستراتيجية في ناغورنو كاراباخ وليبيا؛ ومن ثم تتضح مصالح أنقرة من هجمات المعارضة الأخيرة فيما يلي:
- استغلال الحرب الإسرائيلية: تقف إيران على شفا حرب شاملة مع إسرائيل، في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان؛ ما أنهك محور المقاومة في لبنان وسوريا والعراق المدعوم من الجمهورية الإسلامية، وهو ما استغله أردوغان لإعادة إشعال التمرد ضد بشار الأسد.
- انشغال روسيا بحربها على أوكرانيا: تراهن أنقرة على عدم قدرة موسكو على التدخل بعمق مرة أخرى في سوريا، خاصة بعد نقل روسيا معظم أنظمة دفاعها الجوي والطائرات المقاتلة، وغيرها من الأصول العسكرية الرئيسة من سوريا إلى أوكرانيا، رغم أهداف روسيا الإستراتيجية في سوريا، التي من أهمها أكبر القواعد العسكرية الروسية في حميميم، التي تتجاور مباشرة مع قلب ميادين المواجهة في حلب وإدلب.
- الضغط في سبيل التطبيع: يهدف الهجوم المباغت للمعارضة السورية إلى الضغط على الرئيس السوري الذي رفض مقابلة الرئيس التركي ما لم تنسحب قواته من الأراضي السورية، وهو ما رفضه أردوغان على نحو صارم؛ ومن ثم فإن ردة الفعل الضعيفة لحلفاء سوريا قد تكون وسيلة لإرغام النظام على التفاوض من موقع ضعيف، في ظل غياب أي مؤشر للدعم من إيران وروسيا.
- عودة اللاجئين: تستضيف تركيا نحو 3.2 مليون لاجئ سوري من أصل عدد سكانها البالغ 85 مليون نسمة -وفقًا لبيانات الأمم المتحدة- وأثيرت تقارير عن رغبة أنقرة الجادة في إعادتهم إلى سوريا ضمن عميلة التطبيع التركي السوري المنشودة؛ ومن ثم فإن عمليات المعارضة الحالية تعني احتمال عودتهم الطوعية إلى حلب، وهو ما سيكون أسهل بكثير من محاولة إعادة توطينهم قسرًا في المناطق الآمنة الخاضعة للسيطرة التركية في الريف الشمالي لسوريا.
- ضمان الوجود التركي في الصيغة المستقبلية لسوريا: تؤدي أنقرة دورًا محوريًّا في شمال سوريا، حيث تقدم الدعم العسكري والاستخباراتي للفصائل السورية المعارضة بهدف حصولها على موطئ قدم في الترتيبات المستقبلية في دمشق؛ ما يشير إلى أن أنقرة ليست مهتمة باندلاع حرب كبرى تمحو كل التفاهمات السابقة مع روسيا في سوريا؛ بل إنها تريد إحكام السيطرة على الأسد، وعلى كل الاتفاقيات المقبلة.
- تقويض الأكراد: اغتنمت جماعات المعارضة المدعومة من تركيا الفرصة لطرد المقاتلين الأكراد من معاقلهم المتبقية في شمال غرب سوريا، وخاصة جيب تل رفعت شمال حلب، من خلال عملية “فجر الحرية”؛ ومن ثم فإن أردوغان قد يتطلع إلى تطويق قوات سوريا الديمقراطية، التي تتكون في الغالب من الأكراد السوريين من وحدات حماية الشعب؛ لدحر أي ركائز لقيام دولة كردية مدعومة من الولايات المتحدة على حدودها، خاصة مع قرب عودة ترمب إلى البيت الأبيض.
مستقبل التدخل التركي في سوريا
لا شك أن الهجوم الأخير للمعارضة السورية سيسفر عن إعادة تشكيل ديناميكيات الصراع السوري؛ ما يمثل وضعًا مرتفع الأخطار والمكاسب لأنقرة؛ ومن ثم يرتهن مستقبل تركيا في سوريا بعدد من المحددات، من أبرزها:
- محدودية دعم الحلفاء: في الأيام الأولى لعمليات الفصائل المعارضة، اكتفت روسيا وإيران بإدانة العمليات، حيث اعتبرتها موسكو انتهاكًا لسيادة سوريا، فيما وصفت طهران العمليات بأنها مخطط أمريكي إسرائيلي للسيطرة على سوريا، لكن بعدما اقتربت هيئة تحرير الشام من السيطرة على حلب، شنت طائرات مقاتلة روسية غارات جوية، وهو الهجوم الأول للطيران الروسي على المدينة منذ مساعدة قوات الحكومة السورية على استعادتها عام 2016.
وبالتوازي مع هذا، كثف النظام الإيراني محاولاته لمواجهة الصراع، ولحث تركيا على التفاوض من أجل استعادة سيطرة النظام السوري، وهو ما كشفت عنه جولات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في دمشق وأنقرة، في حين ترددت الفصائل المدعومة من إيران في دفع عناصرها إلى الاشتباكات بين قوات الأسد والمعارضة؛ ففي حين أعلنت فصائل تشمل “كتائب حزب الله” العراقية، و”لواء فاطميون” دعمها لبشار، نفت هيئة الحشد الشعبي -نفيًا قاطعًا- دخول قواتها إلى سوريا.
- الدور الإسرائيلي: تخشى أنقرة أن تتعاون إسرائيل مع وحدات حماية الشعب لمواجهة دور إيران في سوريا؛ ما قد يوفر دعمًا سياسيًّا من شأنه أن يقوض موقف تركيا في سوريا، كما تتزايد المخاوف بشأن التعاون بين روسيا وإسرائيل لكبح جماح النفوذ التركي المتزايد، وهي الخطوة التي قد تغير ميزان القوى بالكامل في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
- التدخل الأمريكي: أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية بعد أيام من الاشتباكات استهدافها جماعات إيرانية وسورية مسؤولة عن هجمات ضد القوات الأمريكية في محافظة دير الزور شرقي سوريا، في ضربة محدودة في إطار الدفاع عن النفس؛ ومن ثم فإن إدارة ترمب المقبلة سوف تضطر إلى التعامل مع عدد من السيناريوهات بشأن مستقبل سوريا فيما يرتبط بتنامي نفوذ إيران في سوريا أو تراجعه، وكيف يمكنها التحالف مع روسيا ضد القوة التركية المتوغلة في شمال سوريا.
- العلاقة الشائكة مع هيئة تحرير الشام: تجمع أنقرة والهيئة علاقة معقدة وصعبة، حيث تحاول تركيا منع توسع هيئة تحرير الشام في المنطقة الأمنية في شمال غرب سوريا التي أنشأتها لنفسها، في الوقت الذي تدعمها لمحاربة القوات الكردية المهددة لنظام أردوغان.
الخاتمة
لا تخلو المناورة التركية في سوريا من أخطار جلية، مرتبطة بأن سيطرة المعارضة السورية على ثلاث مدن كبرى، كحلب وإدلب وحماة، يُلزم أنقرة أن تتعهد برأس مال اقتصادي وسياسي ضخم في سوريا للحفاظ على هذا التقدم؛ ومن ثم ستحتاج أنقرة إلى تقديم الدعم العسكري والأمني المستمر، بما في ذلك إعادة تسليح تلك الجماعات، ولعل أهم من ذلك أن استدامة هذه المكاسب لا تزال محل شك؛ فمن غير المرجح أن يقبل النظام السوري وحلفاؤه تلك الخسارة دون رد، وهو ما قد يغير موازين اللعبة في سوريا، ويقلب مكاسب تركيا إلى خسائر إذا لم تتمكن أنقرة من استغلال التدخل الروسي المتواضع، والتردد الإيراني، وهشاشة الدور الأمريكي، وضعف محور المقاومة، لإعادة تشكيل خريطة سوريا وفق شروط أردوغان.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.