تقدير موقف

بين ترمب وبوتين.. لمن ينتصر أردوغان؟


  • 19 مارس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: express

تواجه تركيا -حاليًا- تحولًا إستراتيجيًّا تتمتع فيه بمزايا لا تُمحي عددًا من المخاطر. ورغم المكاسب التي حققتها في سوريا، فإن أنقرة لا تزال عالقة في الحرب الدائرة بأوكرانيا. ومع التقارب الروسي الأمريكي، تخشى تركيا استعادة النفوذ الروسي في البحر الأسود، في وقت لا يزال تحالفها مع الغرب في طور التطور. ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، تميل التكهنات إلى تزايد فرص اتجاه الاحتواء أو تجميد الصراع؛ ما يمثل اختبارًا لازدواجية السياسة التركية في التعامل مع طرفي الصراع، خاصةً في ظل الديناميكيات الجديدة لإدارة ترمب التي فضلت الرياض لاستضافة تقاربها مع موسكو في البحث عن حل للحرب عن أنقرة، يأتي هذا في إطار توسع جهود النظام السعودي لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع تجاهل أنقرة على نحو كبير، إذ تظهر في المقام الأول على أنها حليف لحماس؛ ما يقوض الطموح التركي لريادة المنطقة.

الدور التركي في الحرب الروسية الأوكرانية

اضطلعت تركيا بدور مزدوج خلال الحرب الروسية الأوكرانية؛ فمن ناحية، دعمت أنقرة بقوة حق الدفاع عن النفس، وسلامة أراضي أوكرانيا، وزودت كييف بطائرات بدون طيار وأسلحة أخرى، وحرمت الطائرات الحربية الروسية المتضررة الموجهة إلى سوريا من حقوق التحليق، وفي الوقت نفسه، ضاعفت تركيا أيضًا التزاماتها تجاه روسيا، وخاصة في مجالات التجارة، التي شهدت زيادة ملحوظة منذ عام 2022، وانطبق هذا على نحو خاص على الطاقة، التي شكلت النصيب الأكبر من المعاملات، وتضع تركيا الآن في المرتبة الثالثة من حيث استهلاك الوقود الأحفوري الروسي في العالم، وقد عزز هذا الارتفاع في التجارة العلاقات بين أنقرة وموسكو، حتى إن روسيا شكلت ما يقرب من 40٪ من النفط والغاز المستورد إلى البلاد في عام 2022، وأكثر من 50٪ من إجمالي واردات البلاد من الفحم، كما امتنعت أنقرة عن الانضمام إلى العقوبات الغربية على موسكو.

ولم تكتفِ تركيا بتلك التحركات؛ بل سعت أن يكون لها دور دبلوماسي في الحرب الروسية، واستضافت اجتماعًا بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في مارس (آذار) 2022، لإجراء محادثات ثنائية بشأن تطورات الحرب الدائرة. فضلًا عن تلك المحاولة، توسطت أنقرة في مبادرة الحبوب في البحر الأسود قبل أن تتعاون مع رومانيا وبلغاريا لتطهير المنطقة من الألغام العائمة، واستكمالًا لهذا النهج جمعت أنقرة رؤساء المخابرات الأمريكية والروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 لمناقشة التهديدات النووية، وحاولت خلال الأعوام الثلاثة الماضية أداء دور الوسيط في الحرب للحفاظ على مكانتها الإقليمية.

ومع دخول الصراع بين روسيا وأوكرانيا عامه الرابع، استعرض وزير الخارجية التركي هاكان فيدان جهود بلاده للتوسط في اتفاق سلام بين الجانبين، وجدد تعهد أنقرة باستضافة محادثات من أجل وقف إطلاق نار دائم، وفي 24 فبراير (شباط) المنصرم، صوتت تركيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح القرار الذي يؤكد دعمها لأوكرانيا والالتزام بسلامة أراضيها، وهو النص الذي حاولت الولايات المتحدة، إلى جانب روسيا وبيلاروس وكوريا الشمالية معارضته؛ مما أثار صدمة حلفائها.

وأعاد هذا التصويت الأوروبي موقف أنقرة إلى بداية الحرب عندما دعمت إدانة الجمعية العامة التدخل الروسي في مارس (آذار) 2022، ومع ذلك، فإن أهميته مختلفة هذه المرة؛ نظرًا إلى التحول في الموقف الأمريكي بعد عودة دونالد ترمب إلى السلطة، حيث استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فولوديمير زيلينسكي في تركيا بعد مواجهة قاسية مع دونالد ترمب وجيمس فانس؛ ما عزز الصورة التركية الداعمة لكييف لدى الاتحاد الأوروبي.

غير أن التزام تركيا تجاه أوكرانيا ليس التزامًا حصريًّا أو مطلقًا، فبعد أيام قليلة من زيارة زيلينسكي لأنقرة، استضاف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان نظيره الروسي سيرجي لافروف، مؤكدًا رغبة تركيا في إنهاء الصراع في أوكرانيا، ما يشير إلى عزم تركيا على الحفاظ على العلاقة التي بنتها بعناية مع روسيا على مدى العقود الثلاثة الماضية، ولعل موقف تركيا يكتسب أهميةً أكبر؛ نظرًا إلى أن وقف إطلاق النار الذي يسعى ترمب إلى فرضه قد يكون في مصلحة موسكو، التي أعلنت موافقة مبدئية على فكرة إنهاء الأعمال العدائية، لكنه يحتاج إلى ضمانات بأن أي اتفاق من شأنه القضاء على الأسباب الجذرية لتلك الحرب، وهو ما اعتبره الرئيس الأوكراني تلاعبًا من شأنه المماطلة في التوصل إلى اتفاق.

انعكاسات الحرب الروسية على الاقتصاد التركي

ألقت الحدود البحرية المشتركة لتركيا مع روسيا وأوكرانيا في البحر الأسود بتداعيات مباشرة للحرب على الاقتصاد التركي، ففي حين شعرت معظم دول العالم بتأثير الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تعرض الاقتصاد التركي لضربة قاصمة بناءً على موقعه الجغرافي الفريد، كشفت أبرز ملامحها فيما يلي:

  • تجارة البحر الأسود: بلغت صادرات تركيا إلى روسيا نحو 5.77 مليار دولار، وبلغت الواردات 28.95 مليار دولار، فيما مثل النفط والغاز الطبيعي 50% من واردات تركيا، ومع أنها ليست طرفًا كاملًا في العقوبات المفروضة على روسيا، فإن تركيا امتثلت للعقوبات المفروضة على البنوك الروسية والقيود المفروضة على الصادرات إلى روسيا. ومع أن أوكرانيا كانت مصدرًا رئيسًا للحبوب إلى تركيا، فإن مستويات التجارة بين تركيا وأوكرانيا كانت أقل بكثير من مستوياتها مع روسيا تاريخيًّا، إذ يعد خط البوسفور الطريق الرئيس لسفن الحاويات التي تنقل الحبوب؛ لذا أبرمت تركيا اتفاقية مع أوكرانيا في عام 2022 للمساعدة على ضمان استمرار التجارة، ومع ذلك، انخفضت حركة السفن التجارية في البحر الأسود وعلى طول خط البوسفور؛ مما أثر في شحنات الحبوب لتركيا.
  • سلسلة التوريد التركية: أثر استمرار الحرب الروسية الأوكرانية في سلسلة التوريد التركية مع أوروبا وآسيا، كما انعكس الصراع على طرق النقل والخدمات اللوجستية؛ مما جعل من الصعب والمكلف على الشركات التركية التجارة مع دول أخرى في أوروبا وآسيا، حيث كانت تركيا تتمتع في السابق بمزايا كبيرة في نقل الشاحنات بأسعار تنافسية، وتكاليف عمالة معقولة مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي، ولكنها مع دخول العام الرابع للحرب أصبحت تمتلك طرقًا محددة ومحظورة؛ مما يقلل عائدات الخدمات اللوجستية كثيرًا.

وفي السياق نفسه، أثرت الحرب بشدة في مضيق البوسفور الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط؛ إذ أدى توقف التجارة في مواني روسيا على البحر الأسود، وحصار روسيا للمواني الأوكرانية، إلى جعل هذا المضيق وجهة خطيرة ومنخفضة الربح لشركات الشحن، وبالإضافة إلى انخفاض سعة الشحن، ارتفعت تكاليف الوقود والتأمين على الشحنات، وقد أدى هذا إلى ارتفاع الرسوم على الشحنات التي تمر عبر المنطقة.

  • تجارة الغاز: تستورد تركيا 98% من احتياجاتها من الغاز، ويأتي معظمه من روسيا، وتعد موسكو أنقرة موقعًا مستقبليًّا ومركزًا لتجارة الغاز من أجل توريد الغاز المستخرج من روسيا إلى القارة الأوروبية وخارجها. غير أن الحرب الدائرة أدت إلى تعقيد الأمور، إذ تشعر تركيا بضغوط من روسيا من جهة، ومن الغرب من جهة أخرى، ومن الجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يشتري الغاز الروسي حتى مع زيادة الإنتاج في أماكن أخرى، منها أذربيجان والنرويج؛ ما يعني أن التجارة في النفط الروسي لم تستبعد بعد؛ ومن ثم فإذا نجحت تركيا في ترسيخ مكانتها كمركز مهم لتجارة الغاز، فقد يكون هناك مجال أمام المنتجين الأمريكيين لتصدير إمداداتهم من الغاز عبر تركيا.
  • الصادرات التركية: ظهر التأثير الأكبر والمباشر للحرب الروسية على أوكرانيا في صادرات تركيا؛ إذ صدرت أنقرة إلى أوكرانيا بنحو 3 مليارات دولار، وإلى روسيا بنحو 6 مليارات دولار، لكن مع إغلاق روسيا المجال الجوي والبحري لأوكرانيا، فإن تركيا خسرت صادراتها إلى أوكرانيا، خاصةً أن محاولة إيصال المنتجات التركية إلى أوكرانيا بواسطة الطرق البرية عبر رومانيا وبولندا غير مضمونة؛ لذلك تحاول الحكومة التركية توجيه المنتجات الزراعية التركية التي كانت تصدّرها إلى روسيا وأوكرانيا إلى السوق المحلية، من أجل خفض أسعار الغذاء، وخفض التضخم، لكن ذلك وإن كان له أثر إيجابي فإنه يؤدي إلى خسارة المصدّرين عائداتهم من العملة الصعبة، وجزءًا كبيرًا من أرباحهم.

مستقبل العلاقات التركية الأمريكية

تشير الاعتماديات الطويلة الأمد في مجال الطاقة إلى أن تركيا وروسيا ستظلان شريكتين وثيقتين في المستقبل المنظور، يرتبط هذا بتخفيف روسيا ضغوطها على تركيا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وحاجتها إلى أنقرة لتوطيد علاقة موسكو بحكومة الشرع.  في مقابل هذا، لا تزال الولايات المتحدة حاضرة بقوة في المشهد السوري، فبينما تشير رغبة ترمب في الانسحاب، وقرب نجاح عملية السلام الجارية مع الأكراد إلى احتمال سحبه القوات الخاصة الأمريكية من روج آفا، فإن هناك في المقابل مؤشرات على أن بعض مستشاري ترمب ينظرون إلى الأكراد في سوريا والعراق كموطئ قدم إستراتيجي، أو حتى كنقطة ضغط في الشرق الأوسط، ويكتسب هذا المنظور أهمية خاصة؛ نظرًا إلى مشاركة إسرائيل فيه، التي تشعر بقلق متزايد إزاء تنامي نفوذ تركيا في سوريا.

وبالإضافة إلى الصراع في سوريا، فقد أدى وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض إلى تعميق الخلاف التركي الأمريكي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لا سيما أن أردوغان كان من أوائل القادة الذين أعربوا صراحةً عن معارضتهم للنهج الأمريكي في حل الصراع في غزة، مُصرحًا بأن الولايات المتحدة على المسار الخطأ، ومُدينًا بشدة خطة تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن؛ ومن ثم تُفاقم هذه التطورات الأخيرة الشكوك المحيطة بعلاقات تركيا مع الولايات المتحدة بعد عودة ترمب، ولعل المشهد الفاصل لهذا الخلاف تجلى في تجاهل دعوة الأتراك إلى الوساطة في الصراع الأوكراني، وتولي السعوديين هذا الدور؛ مما عزز صعودهم الدبلوماسي على حساب تركيا.

 ورغم توقع أنقرة انتهاء الصراع في أوكرانيا، فإنها لا ترى أن التوصل إلى حل من خلال المفاوضات الأمريكية الروسية وحدها يصب في مصلحتها، ويعود هذا إلى عدة أسباب، منها -أولًا- اعتقاد صانعي السياسات الأتراك بأن الحلول الدائمة للصراعات تتطلب مراعاة المصالح الأمنية للجهات الفاعلة الإقليمية، بدلًا من اتفاق تفرضه القوى العظمى دون مشاركتها. وثانيًا: نيات أنقرة تجاه أوكرانيا، التي لا تقدم فرصًا اقتصادية من خلال إعادة الإعمار بعد الحرب فحسب؛ بل تضطلع أيضًا بدور مهم في خطط تركيا لتوسيع قطاعها الدفاعي، وأخيرًا: المخاوف من أن هذا القرار قد يشجع روسيا، خاصة إذا أدى ذلك إلى الاعتراف بالمكاسب الإقليمية الروسية في أوكرانيا، ما يمكّن الاتحاد الروسي من إعادة بناء قدراته العسكرية بسرعة أكبر، وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير ميزان القوى في البحر الأسود لصالح موسكو.

الخاتمة

ومن هذا يمكن القول إن تركيا استطاعت انتهاز فرصة الحرب الأوكرانية لتُعيد تأكيد دورها ومكانتها في المشهد العالمي بأنها فاعل لا يمكن الاستغناء عنه، حتى إن قامت بسياسات مغايرة لتلك المطلوبة من جانب حلفائها الغربيين، خاصةً في ضوء التحركات الدبلوماسية الدقيقة التي انتهجتها منذ الأيام الأولى للحرب، بل من المتوقع أيضًا أن تظل تركيا في المستقبل القريب، وسيطًا لا غنى عنه في المثلث (الأوكراني- الروسي- الغربي)، غير أن هذا الدور يشوبه بعض الغموض، خاصة من جانب موسكو التي أجّلت حتى الآن انضمام أنقرة إلى مجموعة البريكس، ولم تُقدر تصرفات تركيا الأخيرة في سوريا، كما يتذكر الروس أن التزام تركيا الصارم بتطبيق اتفاقية مونترو في المضايق أعاقهم كثيرًا في البحر الأسود، ولكن إذا أُسقطت حكومة زيلينسكي ستنجح روسيا في السيطرة على الشاطئ الأوكراني كله، ما يعني إحكام سيطرتها على البحر الأسود، وهو ما يمثل تهديدًا جديدًا لتركيا، وفي هذه الحال ستكون تحت سيطرة روسيا قواعد بحرية في سيفاستوبول، وشبه جزيرة القرم، وطرطوس، ما قد يغير قواعد معادلة النفوذ الإقليمي بين موسكو وأنقرة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع