منذ اندلاع المرحلة الساخنة من الصراع الروسي الأوكراني بإطلاق بوتين للعملية العسكرية الخاصة، لا يكاد يمر أسبوع واحد من هذه السنوات الثلاث ونصف الماضية إلا وتحدث مفاجأة ميدانية جديدة. هذا الأسبوع أيضًا لم يكن استثناء، فقد أعلنت وارسو، 10 سبتمبر (أيلول) 2025، إسقاط مسيرات قالت إنها روسية فوق أراضيها.
هذا الاتهام البولندي قد يشكل نقطة انعطاف في مسار الحرب الأوكرانية، فهذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها عضو في الناتو تعامله المباشر مع أهداف روسية داخل مجاله الجوي. فبالنسبة لوارسو، من واقع إلحاحها في التصريحات الرسمية على اتهام موسكو، تعد هذه الواقعة دليلًا على تمدد الصراع؛ ولذلك ترى أن هناك ضرورة لتعزيز المظلة الأطلسية.
أما موسكو، فقد اختارت -كالعادة- إستراتيجية النفي المبرر، فوزارة الدفاع الروسية أكدت أن الضربات اقتصرت على أوكرانيا، وأن مدى المسيرات المستخدمة لا يسمح ببلوغ بولندا، ثم أبدت استعدادها للتشاور مع الجانب البولندي بهذا الشأن.
الكرملين بدوره اكتفى بإحالة السؤال الذي وجه إلى المتحدث باسمه دميتري بيسكوف للتعليق على هذه الحادثة إلى وزارة الدفاع الروسية، وهذه الإحالة من جانب الكرملين -في رأيي- ليست مجرد إحالة تقنية فحسب؛ بل هي أداة خفض تصعيد، تنزل الواقعة من منصة أو درجة الخصومة السياسية مع الناتو إلى مستوى حدث عملياتي تختص به المؤسسة العسكرية.
وهذا التصرف يعكس رغبة موسكو في احتواء الموقف ومنع تحوله إلى ذريعة لتصعيد أطلسي، غير مطلوب في اللحظة الحالية لموسكو؛ فهي لا تريد أن تجر إلى مواجهة مباشرة مع الحلف، لكنها حريصة في الوقت نفسه على إظهار أنها لا تستدرج إلى اعتراف قد يستخدم ضدها؛ لذا يبقى الحدث -على هذا النحو- محصورًا في خانة سوء تقدير عملياتي لا أكثر، في أسوأ الأحوال.
بالتوازي مع هذا الحدث الذي لم ينته بعد، انطلقت الجمعة 12 سبتمبر (أيلول) 2025 المناورات الروسية البيلاروسية تحت عنوان “الغرب- 2025” في ميادين غرب روسيا وبيلاروس وبحر البلطيق، بالقرب المباشر من الخاصرة الشرقية للناتو.
ومع أن هذه المناورات كانت مجدولة ومقررة مسبقًا، فإن تزامنها هذا مع حادثة بولندا قد يضخم رسائلها؛ فعسكريًّا يمكن القول إنها اختبار لقدرة دولة الاتحاد (روسيا وبيلاروس) على إدارة عمليات مشتركة في مواجهة سيناريوهات أطلسية محتملة. أما سياسيًّا، فهي بلا شك -من وجهة نظري، وفي هذه اللحظة تحديدًا- بعد تعثر مسار المفاوضات ومساعي ترمب لعقد لقاء بوتين- زيلينسكي؛ ومن ثم تراجع آمال الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار، تبدو رسالة ردع روسية تقول موسكو من خلالها إنها ليست في موقع دفاعي؛ بل قادرة على استعراض القوة في لحظة توتر قصوى.
إذن، من الواضح أن الطرفين يوازنان على خيط رفيع؛ بولندا تسعى إلى تكريس صورة التهديد الروسي لكسب مزيد من الدعم، وتوجيه إشارات إلى واشنطن بضرورة البقاء في أوروبا، وروسيا تعرض مناورة واسعة النطاق، لكنها تنكر أي استهداف لبولندا.
الأخطر في كل هذه المسألة أن حوادث مماثلة قد تنزلق بسهولة إلى سوء تقدير يفرض مواجهة غير محسوبة النتائج والعواقب لكل الأطراف. لهذا السبب، أعتقد أن السيناريو الأكثر واقعية في حالة هذه الحادثة هو الاحتواء، وسيتم هذا السيناريو -من وجهة نظري- على النحو التاليي: تشديد دفاعات الناتو قرب روسيا، وعن طريق الاستعراض، كقرار الرئيس الفرنسي ماكرون الخميس 11 سبتمبر (أيلول) إرسال مقاتلات فرنسية إلى بولندا “لتعزيز قدراتها الدفاعية”.
في الوقت نفسه سوف تستمر موسكو في الإنكار، وإجراء مناورات تنتهي بلا صدام مباشر، لكن مع ذلك سيبقى باب التصعيد مفتوحًا إذا تكررت حوادث الحدود.
في السياق التصعيدي نفسه، يأتي الهجوم المسيراتي على موسكو في الأيام ذاتها، حيث أسقطت الدفاعات الروسية، الجمعة 12 سبتمبر (أيلول) تسع مسيرات حول العاصمة، ليسلط هذا الأمر الضوء على مساعي أوكرانيا هي أيضًا لإثبات أن يدها الطويلة قادرة على بلوغ موسكو، وأنها قادرة على إنهاك منظومة الدفاع الجوي الروسية عن طريق موجات متكررة.
في المقابل، يرد الروس بتأكيد فاعلية أنظمهم الدفاعية، مع قبول ضمني بأن الحرب لم تعد محصورة في جبهة دونباس، أو خاركوف، ومناطق أوكرانيا، بل باتت تصل إلى عاصمة الدولة الروسية نفسها.
وختامًا نقول إن هذا التوسع في ساحة الاشتباك بين روسيا والغرب يرفع احتمالات الانزلاق؛ فمسيرة تفقد السيطرة فتسقط داخل بولندا، أو اعتراض فوق الأراضي البلطيقية، يؤدي إلى شظايا على منشآت مدنية، وتنزلق الأمور إلى وضع سيكون صعبًا معه حتى على العقلاء من الطرفين التحكم في مسار الأمور. وهكذا فعلًا يقول لنا التاريخ كيف تتوسع الحروب. ومن هنا تبرز حساسية الموقف لموسكو؛ فهي تريد الحفاظ على صورة قوة قادرة على الردع، لكنها لا ترغب في منح خصومها ذريعة لاتهامها بتوسيع الحرب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.