في لفتة استثنائية، اعتذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًّا للرئيس الأذري إلهام علييف في قمة رابطة الدول المستقلة، في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، عن إسقاط طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية الأذربيجانية فوق غروزني -بالخطأ- مما أسفر عن مقتل ٣٨ مدنيًّا في أواخر عام ٢٠٢٤، لكن مصادر أذربيجانية وغربية نفت هذا الادعاء، مجادلةً بأن أنظمة الرادار الروسية المتطورة تستطيع بسهولة تحديد هوية الطائرة، بل زعم البعض أن موسكو تعمدت تغيير مسار رحلة الطائرة لإخفاء أدلة على هجوم صاروخي روسي، مما تسبب في سقوطها فوق بحر قزوين.
يكشف هذا عن تحول تدريجي في نهج روسيا تجاه أذربيجان في ظل جملة من التطورات ارتبطت بمحادثات السلام بين أرمينيا وأذربيجان بوساطة تركية تُوجت في واشنطن بإعلان مشترك بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي أعلن نهاية الصراع الذي دام 35 عامًا، وتضمنت الاتفاقية بندًا يسمح لشركة أمريكية بتشغيل ممر زانجيزور 100 عام، في إطار ممر ترمب للسلام، مع خطط محتملة لإنشاء قواعد جوية وبحرية على طول بحر قزوين، مما يمنح حلف شمال الأطلسي نفوذًا في هذه المنطقة الإستراتيجية. جاء هذا بالتزامن مع التوجه السياسي الجديد لأرمينيا، والضعف التدريجي لإيران، وتنامي طموحات الصين في طرق التجارة، ومحاولات أذربيجان العلنية للتوسع خارج نطاق نفوذ روسيا التقليدي، مع توثيق ركائز المحور التركي الإسرائيلي الأذري، وتلك المؤشرات تدفع إلى رسم خريطة نفوذ جديدة في جنوب القوقاز.
تحتل أذربيجان موقعًا محوريًّا في الحسابات الإستراتيجية الروسية، إذ تمثل أحد أهم مفاتيح التوازن في منطقة القوقاز الجنوبي، فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، سعت موسكو إلى الحفاظ على نفوذها في الجمهوريات السوفيتية السابقة بوصفها عمقًا جيوسياسيًّا لأمنها القومي، وكانت أذربيجان جزءًا أساسيًّا من هذا التصور، غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحولات جوهرية في البيئة الإقليمية، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتبدل موازين القوى في جنوب القوقاز، وصعود أذربيجان كقوة إقليمية صاعدة، وهو ما أعاد صياغة العلاقة بين موسكو وباكو من علاقة هيمنة أحادية إلى علاقة تفاعلية قائمة على المصلحة المتبادلة والمرونة التكتيكية.
وفي هذا السياق، يشكل الموقع الجغرافي لأذربيجان أهم عناصر أهميتها لروسيا، فهي تمثل حلقة الوصل بين الفضاء الروسي ومنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، إذ تقع على حدود مباشرة مع روسيا عبر داغستان، وتطل على بحر قزوين الذي يُعد ساحة تنافس بين موسكو وطهران وتركمانستان، كما تتيح أذربيجان لموسكو إمكانية الوصول إلى الممرات التجارية الحيوية، وعلى رأسها الممر الدولي الشمالي- الجنوبي الذي يربط روسيا بإيران والهند عبر الأراضي الأذربيجانية. هذا الممر أصبح أكثر أهمية بعد العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، لأنه يوفر لها منفذًا إستراتيجيًّا لتجاوز القيود المفروضة على تجارتها عبر أوروبا. فضلًا عن هذا، تمثل أذربيجان جزءًا من شبكة ممرات الطاقة والسكك الحديدية العابرة للقوقاز، التي تربط آسيا بأوروبا؛ لذلك فإن أي تحول في توجهات باكو السياسية ينعكس مباشرة على قدرة موسكو على تأمين طرقها اللوجستية، والحفاظ على نفوذها في محيطها الجنوبي.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، كانت روسيا الفاعل الأمني الأكثر تأثيرًا في جنوب القوقاز، لكن التطورات الأخيرة، وفي مقدمتها انسحاب قوات حفظ السلام الروسية من ناغورني كاراباخ عام 2024، كشفت تراجع قدرة موسكو على فرض إرادتها العسكرية في الإقليم، ومع صعود القدرات العسكرية الأذربيجانية بدعم تركي، أصبح ميزان القوة يميل بوضوح لصالح باكو، مما جعل روسيا تعيد تقييم سياستها الأمنية تجاهها. ورغم هذا التراجع النسبي، لا تزال موسكو تنظر إلى أذربيجان بوصفها شريكًا مهمًّا في تأمين حدودها الجنوبية ضد تهديدات التطرف العابر للحدود، كما تظل أنظمة السلاح الروسية، المنتشرة في الجيش الأذربيجاني منذ الحقبة السوفيتية، عامل ترابط فني وعسكري يصعب تجاوزه.
فضلًا عن هذا، تُعد أذربيجان أحد أهم الفاعلين في سوق الطاقة الإقليمية بفضل احتياطياتها من النفط والغاز، وموقعها كممر لأنابيب الطاقة باتجاه أوروبا وتركيا. ومع أن روسيا منافس مباشر لها في مجال تصدير الطاقة، فإن موسكو تدرك أن التعاون مع باكو يخدم مصالحها على المدى الطويل، فالشركات الروسية، وعلى رأسها لوك أويل وغازبروم، تنخرط في مشروعات للطاقة داخل أذربيجان، سواء في مجال الاستكشاف أو النقل، كما أن التكامل في البنية التحتية للطاقة بين البلدين يساعد روسيا على الالتفاف على العقوبات الغربية، من خلال إعادة تصدير بعض المنتجات، أو استخدام المواني الأذربيجانية كمنافذ بديلة.
شهدت العلاقات الروسية الأذربيجانية تحولًا واضحًا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، حيث بدأت أذربيجان تتبنى سياسة أكثر استقلالية عن موسكو، بعدما كانت تنسق معها ضمن إطار التحالف الأمني الذي جمع جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي، لكن مع تراجع القدرات الروسية في المجال الأوراسي، بدأت باكو تعيد تعريف موقعها كقوة إقليمية صاعدة، وقد أثار هذا التحول توترًا في العلاقة مع موسكو، لعل شواهده برزت فيما يلي:
إن التقارب بين أذربيجان وتركيا وإسرائيل ليس جديدًا، لكن الشكل الذي يتخذه في الآونة الأخيرة يحمل دلالات إستراتيجية متغيرة، ويؤثر تأثيرًا ملموسًا في ديناميات العلاقة مع روسيا، فمنذ استعادة باكو سيطرتها على ناغورنو كاراباخ، تعززت ثقة أذربيجان بقدراتها العسكرية والدبلوماسية، ما دفعها إلى تعميق شراكاتها الجديدة، التي وضعت موسكو أمام تحدٍّ يتمثل في تراجع نفوذها التقليدي، وإعادة صياغة الأدوار الإستراتيجية في القوقاز الجنوبي.
ومع تنامي التعاون مع تركيا وإسرائيل، ظهرت أذربيجان كلاعب وسيط إستراتيجي قادر على إطلاق مبادرات دبلوماسية بين خصوم إقليميين، ولعل أبرز مثال على ذلك استضافة باكو جولات من المفاوضات بين أنقرة وتل أبيب بهدف تخفيف التوترات المتعلقة بملف سوريا منذ سقوط بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، هذا الدور الوسيط يعزز مكانتها الدولية، ويمنحها هامش مناورة أكبر تجاه موسكو، حيث تُصبح لباكو قدرة على المزج بين الشراكات الجديدة مع الحفاظ على بعض القنوات الرسمية مع روسيا.
غير أن تنامي تزويد إسرائيل لأذربيجان بأسلحة وتقنيات متطورة، إلى جانب التعاون العسكري التكتيكي مع تركيا، عزّز قدرة أذربيجان في النزاعات المحلية والإقليمية، ما يقلل اعتمادها على تركيا فقط، أو على الأسلحة الروسية التقليدية؛ ومن ثم يتحول دور روسيا إلى طرف يجب أن ينافس أو يفاوض على شروط الشراكة العسكرية والتقنية، وهذا التغير يعني أن موسكو قد تضطر إلى تقديم عروض تنافسية أفضل، أو استخدام دبلوماسيتها على نحو أكثر مرونة لتبقى شريكًا مرغوبًا فيه لدى باكو.
بالإضافة إلى هذا، فإن تعزيز التعاون التجاري والطاقوي بين أذربيجان وتركيا وإسرائيل يشكل تهديدًا اقتصاديًّا مباشرًا لموسكو، لا سيما فيما يرتبط بتصدير الغاز الأذربيجاني إلى سوريا عبر تركيا، والتعاون في مجالات الطاقة والتكرير. هذا التوسع يعطي لباكو مصدر دخل متنوعًا، ووزنًا اقتصاديًّا متزايدًا؛ ما يقلل قدرة موسكو على التحكم في شبكة الطاقة الإقليمية، أو استغلالها كنقطة نفوذ في ظل العقوبات الغربية.
وفي الإطار الجيوسياسي الأوسع، قد تُعد الشراكة الأذربيجانية الإسرائيلية عامل استقرار؛ فهي تُكمل الموقف الإستراتيجي التركي في القوقاز، وتتماشى مع أجندة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الرامية إلى احتواء روسيا وإيران، لكن في المقابل، تُؤجج هذه الشراكة أيضًا المخاوف الإقليمية؛ إذ ترى طهران في هذا التعاون تهديدًا وجوديًّا، في حين تراه موسكو علامة أخرى على التعدي الغربي على ما لا تزال تراه جوارها القريب، ومع تزايد ترابط الامتداد الجيوسياسي بين الشرق الأوسط والقوقاز، تضع شراكة أذربيجان مع إسرائيل باكو في قلب قوس إقليمية جديدة تربط أنقرة وتل أبيب وواشنطن، هذا المحور الثلاثي لا يُغير معادلة القوة التقليدية فحسب؛ بل يُرسخ أيضًا مكانة أذربيجان بوصفها لاعبًا محوريًّا في تشكيل البنية المستقبلية للأمن الأوراسي.
مما سبق يمكن القول إن أن الأهمية الإستراتيجية لأذربيجان لدى روسيا لم تتراجع؛ بل تغيرت طبيعتها، فروسيا لم تعد قادرة على فرض معادلتها الأمنية في القوقاز، وأذربيجان لم تعد ترى نفسها جزءًا من المجال الروسي؛ بل تحولت إلى شريك إقليمي فاعل يفرض على موسكو التعامل معه بمنطق المصالح لا السيطرة، حيث تتمثل الأهمية اليوم في أبعاد جديدة تتجاوز الجغرافيا والطاقة إلى الممرات التجارية، والمجال الرقمي، والدبلوماسية الإقليمية المتعددة الأقطاب. ورغم الضغوط التي تواجهها روسيا في محيطها الجنوبي، تظل أذربيجان ركيزة ضرورية لأمنها القومي، وممرًا إستراتيجيًّا نحو الخليج وآسيا الوسطى؛ ومن ثم فإن الحفاظ على هذا الدور يتطلب من موسكو إعادة تكييف سياستها الخارجية وفقًا لمتغيرات البيئة الإقليمية، وهو ما سيحدد مستقبل العلاقة الروسية الأذرية خلال العقد المقبل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير