تقدير موقف

تأثير هجمات "شبكة العنكبوت" وتفجير جسر القرم في مسار المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا

بين الردع والتفاوض


  • 4 يونيو 2025

شارك الموضوع

شهدت الحرب الأوكرانية تحولًا مهمًّا في أوائل يونيو (حزيران) 2025، حيث نفّذت أوكرانيا عمليتين نوعيتين داخل عمق روسيا؛ الأولى كانت عملية أُطلق عليها اسم “شبكة العنكبوت”، شملت هجومًا جويًّا بطائرات مسيّرة على أربع قواعد جوية روسية بعيدة جدًّا، امتدت من شرق سيبيريا حتى شمال غربي روسيا. أعلنت كييف أن هذه الضربات دمرت نحو 41 طائرة روسية متقدمة، بينها قاذفات إستراتيجية من طراز Tu-95 وTu-22M3، بقيمة خسائر مادية تُقدّر بنحو 6 إلى 7 مليارات يورو. امتازت العملية بالتخطيط المكثف؛ فقد قال زيلينسكي إنها استغرقت 18 شهرًا من الإعداد السري، واستُخدم فيها نحو 117 طائرة مسيّرة صغيرة انطلقت من شاحنات متنقلة داخل روسيا. في اللحظة المحددة، فتحت الشاحنات أبوابها وانطلقت الطائرات إلى أهدافها، متجاوزة الدفاعات الجوية تمامًا. وأكدت بيانات لاحقة أن حاكم منطقة إيركوتسك وجد شاحنة مشبوهة قرب إحدى القواعد أُطلِقَت المسيرات منها؛ مما دلّ على أن العملية أُعدّت داخل الأراضي الروسية نفسها. أعادت وسائل الإعلام وصف العملية بأنها ضربة “إستراتيجية مذهلة” للصناعة الجوية الروسية، مما أظهر ثغرة أمنية خطيرة في عمق المجال الجوي لروسيا، واستُخدِمت هذه الضربة لتأكيد قدرة أوكرانيا على فرض كلفة باهظة على موسكو، ولمطالبة الغرب بدعم إضافي في ضوء هذا الإنجاز.

في الأيام نفسها استهدفت أوكرانيا جسر كيرتش الإستراتيجي، المهم لروسيا، الرابط الوحيد البري بين روسيا وشبه جزيرة القرم، فقد أعلن جهاز الأمن الأوكراني زرع كميات كبيرة من المتفجرات تحت الماء عند أحد أعمدة الجسر. تسبب انفجار بأكثر من طن متفجرات في تصدّع هيكلي كبير في قاعدة الدعامة؛ مما دفع روسيا إلى إغلاق الجسر عدة ساعات، ثم إعادة فتحه بعد تأكيد سلامة هيكله. وصف جهاز الأمن الأوكراني العملية بأنها “استئناف لتقاليد” ضرب الجسر، بعد أن استهدفته كييف بمسيرات بحرية عامي 2022 و2023، مشيرًا إلى أنها أعدّت للعملية تحت الماء لأشهر. شكّلت هذه الضربة البحرية رسالة مزدوجة؛ فهي أثبتت قدرة أوكرانيا على تنويع طرق هجومها لتشمل البنى التحتية الحيوية الروسية، وأظهرت أن حتى نقطة عبور إستراتيجيّة كهذه لم تعد آمنة. لدى الصدور، اعتبرت موسكو أن الهجوم “إرهابي”، وكان رد فعلها الأول تسيير فرق تحقيق، وفحوصًا هندسيّة للجسر، قبل محاولة طمأنة المواطنين بعدم تسجيل إصابات بشرية. عسكريًّا ونفسيًّا، أرادت أوكرانيا من خلال هذين الهجومين تغيير قواعد اللعبة؛ فقد توسّعت ساحة القتال إلى ما وراء الخطوط التقليدية، مستهدفة حواضن القوة الروسية في العمق، وهو ما مثل ضربة معنوية كبيرة موسكو. وفي المقابل، دفع ذلك القيادة الروسية إلى الانشغال بإغلاق ثغرات أمنية، وتعزيز موقعها على الأرض.

التأثير العسكري والسياسي في مسار المفاوضات

على الصعيد العسكري، أدّى استهداف العمق الروسي إلى تبديل جزئي في موازين القوة على أرض المعركة بين روسيا وأوكرانيا ومن يدعم الجيش الأوكراني؛ فلم يعد بإمكان موسكو الاعتماد الكلي على هيمنتِها الجوية من دون مخاطر؛ إذ قلّص تدمير ثلث قاذفاتها الإستراتيجية إمكاناتها في شن ضربات جوية بعيدة المدى، مما أعطى أوكرانيا مجالًا أوسع لتنفيذ مزيد من الهجمات المحدودة والطويلة المدى. ومع ذلك، تظل الغلبة الروسية في الحرب التقليدية قائمة؛ فهي تملك قوات برية ضخمة، وصواريخ أرض-أرض ستظل قادرة على شن هجمات وانتقام واسع. ورغم هذه الفروق، اعتُبرت الضربتان بمنزلة دفعة معنوية كبيرة لكييف؛ فقد مكنت أوكرانيا من إثبات أنها أصبحت تمتلك أوراق ضغط عسكرية إضافية، في حين أظهرت كذلك أن روسيا قد تضطر إلى تغيير نمط قتالها. وعلى المدى القصير، بدا أن عملية “شبكة العنكبوت” زادت ثقة الأوكرانيين بأنهم قادرون على الوصول إلى أي هدف روسي (وإن كان بتكلفة عالية)؛ ما عزَّز روح الصمود الوطني فيها. في المقابل، لحقت بموسكو صدمة استخباراتية إلى حد أنها دفعتها إلى مراجعة خطط الحماية في القواعد، وتعزيز دفاعات أبراج الرادار.

سياسيًّا، كان لهذه العمليات آثار سريعة في المفاوضات؛ إذ استغلت كييف نجاحاتها العسكرية لاستعراض موقفها بأنها لن تقبل بسلام يخلو من تعويضات على الأرض، وأن التنازل الكامل غير وارد ما دامت موسكو في سدة الحكم. في الوقت نفسه، دفعت الضربات القيادة الروسية إلى رفع سقف مطالبها، إذ أصرّت على أن أي حوار يجب أن ينطلق من إيقاف الحرب وفق شروطها، وكرر مسؤولو الكرملين تصريحات مفادها أن أوكرانيا “ستدفع ثمنًا باهظًا”، وأن المفاوضات يجب أن تؤدي إلى تحقيق “النصر السريع” على الأرض. وقد باءت محادثات السلام الأخيرة، مثل جولة إسطنبول التي سبقها اندلاع الحرب، بالفشل في تحقيق أي اختراق حقيقي للسلام، مما يشير إلى جمود واضح في المفاوضات. مع ذلك، عمل الوسطاء الغربيون على إدارة الأزمة بحذر جديد، فرغم استخدام أوكرانيا هذه الضربات لإقناع الكونغرس والبرلمان الأوروبي بتسريع إرسال الأسلحة الثقيلة إليها، فإن العواصم الغربية أصرّت على ضرورة احتواء الصراع، وعدم السماح له بتوسيع الجبهات. وقد انعكس هذا في دفعات إعلامية غربية رسمية، أكدت حق أوكرانيا بالدفاع عن نفسها دون افتعال حرب إقليمية، وحذّرت في الوقت نفسه من مغبة القيام بخطوات قد تؤدي إلى مواجهة أوسع (خاصة فيما يتعلق بالأسلحة غير التقليدية). وعلى سبيل المثال، كرّرت واشنطن أن دعمها العسكري مستمر، وأنها لن تبعث قوات أرضية، مع التشديد على أن وقف الحرب المرتقب لن يبدأ إلا بانسحاب كامل للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية.

في المجمل، زادت هذه الضربات تعقيد المسار الدبلوماسي، فمع أن الغرب يعترف بجدية موقف أوكرانيا وحقها في الدفاع، فإن الضربات حفّزت روسيا على ردود أكثر تشددًا، كما زادت مخاوف الغربيين بشأن احتمال تحول الحرب إلى مواجهة أوسع؛ لذلك لا تزال المفاوضات رهينة واقع المعارك، فحتى الآن بات واضحًا أن أي نقاش جاد عن وقف إطلاق النار أو تسوية لن يكون ممكنًا ما لم تحقق إحدى الجبهتين مكاسب ميدانية ملموسة وتغييرًا في حسابات القتال. وفي هذه الحال يبقى السلام المؤجل مرهونًا بتحولات كبيرة، وهو موقف سبق تكراره في تجارب تاريخية كثيرة مشابهة.

رد الفعل الروسي والتحليل الإستراتيجي للحدث

واجهت روسيا الضربات بردود فعل جمعت بين التهوين الإعلامي والتصعيد العسكري. في أيامها الأولى، حاولت موسكو التقليل من الحدث، فأعلنت وزارة دفاعها أضرارًا محدودة في قاعدتين جويتين فقط، وادّعت صدّها محاولات مهاجمة قواعد أخرى، ولكن سرعان ما عادت إلى لهجة الإعلام الرسمي للهجوم، فوصفت الهجمات بأنها “إرهابية”، ودعت الشعب الروسي لدعم الرد المضاد. وعلى مستوى التصريحات الرسمية، خرجت روسيا ببيانات حادّة، فقال نائب رئيس مجلس الأمن ديمتري ميدفيديف إن أوكرانيا سترى “ثأرًا حتميًّا”، وشدّد على أنه لا سلام يذكر إلا تحت شروطه. وكرر عدد من المسؤولين أن استمرار القتال “لا يُرضي أحدًا سوى المنافقين”، وأن أوكرانيا “ستدفع الثمن” مقابل كل ضربة.

ميدانيًّا، سعت القيادة الروسية إلى الردّ بسرعة على الأرض، فبعد نحو يومين من الهجمات، شنت الطائرات الروسية غارات جوية مكثفة على قواعد أوكرانية، مستهدفة بنية كييف العسكرية، تلا ذلك قصف صاروخي للمنشآت الحكومية واللوجستية في مناطق مثل سومي ولوكريانكا (شمال شرق أوكرانيا)؛ ردًا مباشرًا على استهداف القرم. كما قصفت المروحيات الروسية مواقع متفرقة في شرق البلاد تحضيرًا لعمليات محتملة، في رسالة مفادها أن أي نقطة داخل أوكرانيا قد تكون هدفًا. ويبدو أن موسكو باتت تحضر لدوامة تصعيدية؛ إذ وردت تقارير عن استعدادها لتعبئة إنتاجية أكبر للأسلحة ووسائل الدفاع، بل قطع علاقات وخطط احتياطية لحماية نقاط إستراتيجية في حال تصعيد مماثل. وباختصار، يبدو أن موسكو اختارت إستراتيجية الرد بالمثل؛ فهي تُظهر أن كل خرق أمني أو ضربة نوعية سيواجه بردّ أكبر، مستفيدة من تفوقها الميداني الكمي الكبير لإطالة أمد الصراع.

داخليًّا، بدأ الكرملين تحقيقات موسعة لتوضيح كيفية الاختراق، فراجعت أجهزة الأمن إجراءات حماية المنشآت العسكرية، وأُخبر الرأي العام بأن محاسبة صريحة ستطول المسؤولين عن أي تقصير في كشف تحركات الطائرات المسيرة. في الوقت نفسه، استُخدمت الهجمات الجديدة لحشد الشارع خلف الخطاب الحربي؛ إذ بثّت القنوات الروسية دعوات موصولة للتضامن التام مع الجيش، ولتقديم التضحيات الوطنية من أجل “نجاح الردّ الثأري للجيش الروسي”. على نحو عام، حاولت القيادة الروسية استثمار الحادثة في توحيد الداخل الروسي، وبث فكرة أن روسيا تتعرض لـ”عدوان خارجي مدبّر من الغرب”؛ مما يعزز تقبل الإجراءات الأمنية والاقتصادية المشددة مستقبلًا.

استراتيجيًّا، تثار مخاوف ملحوظة من أن ينزلق النزاع إلى مستويات خطيرة، فقد نبّه خبراء غربيون سابقون أن ضرب أهداف إستراتيجية في روسيا يمكن أن يرفع “مستوى التهديد” إلى ما هو أبعد من الحرب التقليدية، معلنين -ضمنيًّا- أن موسكو قد تستخدم أسلحة نووية تكتيكية، أو تقنيات هجومية قاسية إذا شعرت بتهديد وجودي. وحتى هذه اللحظة، لم تستخدم روسيا أي تهديد نووي صريح، لكنها أكّدت أنها مستعدة لاستعمال جميع إمكاناتها العسكرية للدفاع عن نفسها. ووفق الموازين الحالية، قد تختار موسكو التركيز على حرب استنزاف طويلة، معتمدة على تفوقها العددي والاقتصادي، ومحاولة إرهاق أوكرانيا تدريجيًّا؛ وبذلك تصبح روسيا في موقع الانتظار حتى ترى إلى أي مدى يمكن لزعزعة استقرارها أن تُثني الغرب عن دعم كييف، أو تضعف الإرادة الأوكرانية.

دروس من التجارب التاريخية في خفض التصعيد وإنهاء الصراع

يمكن ربط التصعيد الجاري بروسيا بتجارب تاريخية مشابهة كانت تتطلب تغييرات جذرية لوضع حد للصراع:

  • جورجيا بعد حرب 2008 وسقوط مشروع ساكاشفيلي: اندلعت حرب قصيرة بين روسيا وجورجيا عام 2008 على خلفية مناطق أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فوقف القتال بهدنة روسية- أممية، وسيطرة روسية على هذه المناطق. بقي رئيس الوزراء الجورجي آنذاك (ميخائيل ساكاشفيلي) حتى 2012، لكن بعد فوزه بتحويل السلطة في الانتخابات، تبنّى بديله سياسة أكثر حذرًا تجاه موسكو، إذ عملت الحكومة الجديدة تدريجيًّا على تحسين العلاقات: أُعيد فتح بعض المعابر والحدود التجارية المغلقة، وتراجع الخطاب العدائي، في حين ظلت طموحات الانضمام إلى الناتو معلقة. نتيجة ذلك، خفت احتمال اندلاع مواجهة عسكرية جديدة، لكن الخلافات السياسية بشأن الأراضي لم تُحلّ جذريًّا. يُبيّن نموذج جورجيا أن تغيير القيادة أدى إلى تهدئة نسبية، لكن دون إنهاء المشكلات الجوهرية، بحيث استمر الاستقرار النسبي، مع أن الطرفين ظلّا على مواقفهما المبدئية في الصراع.
  • الشيشان بعد الحرب الثانية وصعود قديروف: شهدت الشيشان حربًا ثورية بين المتمردين الروس (1999- 2009) انتهت بسيطرة موسكو على الإقليم، ثم تلت ذلك خطوة مفصلية: عين الكرملين في عام 2003 المتمرد السابق أحمد قديروف رئيسًا للحكم الذاتي الشيشاني، ثم خلفه ابنه رمضان عام 2007. وحّد هذا الإجراء القوى المحلية الجديدة مع روسيا بالكامل؛ مما أنهى القتال المفتوح تقريبًا. بعد هذا التحوّل، خمدت المعارك الكبرى في الإقليم بفضل تماسك السلطة المحلية الموالية لموسكو، وإن استمرت بعض الهجمات الصغيرة من عناصر متفرّقة. يُظهر مثال الشيشان أن تغيير القيادة واختيار سلطة موالية قد يوقف الحرب بسرعة، لكن الثمن كان تولي حكم منفذ لسياسة أمنية قاسية، وبقاء الشكوك بشأن المستقبل السياسي للمنطقة.
  • كوسوفو بعد التدخل الدولي وتسوية الصراع: اختلف نموذج كوسوفو (1999) بعد تدخل الناتو لإنهاء حرب أهلية؛ فبعد وقف القتال بالقوة، وُضع الإقليم تحت إدارة أممية وقوات حفظ سلام دولية. وقد أُتيح بعدها عام 2008 إعلان استقلال كوسوفو بأغلبية سكانه (الألبان)، رغم رفض صربيا وروسيا ذلك. أسهم التدخل الدولي في وقف القتال العنيف بسرعة، وأرسى ظاهريًّا استقرارًا أمنيًّا نسبيًّا، وإن ظل الخلاف السياسي والقانوني قائمًا. ويبيّن هذا المثال أن التدخل الخارجي الحاسم من قوة عظمى يمكنه فرض هدنة على الأطراف، وإحداث تغيير سريع في واقع الصراع، لكنه غالبًا ما يترك قضايا الحدود والسيادة مفتوحة للمنازعات المطولة.
  • أفغانستان بعد انسحاب القوات الأجنبية وسقوط حكومة غني 2021: في سيناريو مغاير، أنهت قوى خارجية الحرب سريعًا من خلال تغيير جذري في القيادة؛ فعندما قرّرت الولايات المتحدة سحب قواتها بالكامل بعد عشرين عامًا من التدخل، انهارت الحكومة الأفغانية فجأة، وسيطرت طالبان على السلطة في أيام معدودة. وانتهت معظم العمليات المسلحة المفتوحة مع الغرب على الفور بعد انتقال السلطة، إذ استقرت المعركة على وقف العمل العسكري الدولي. ومع ذلك، خلَّف هذا التحوّل تحديات داخلية جديدة؛ إذ بدأت صراعات بين الفصائل، وظهرت أزمات اقتصادية وسياسية. يبيّن مثال أفغانستان أن الانسحاب المفاجئ للقوة الأجنبية قد يوقف الحرب التقليدية سريعًا، لكنه يمهّد لصراعات جديدة في بنية السلطة الداخلية.

تتفق هذه الأمثلة جميعًا على مبدأ عام؛ أن التهدئة تترافق في العادة مع تحويل في ميزان القوى،  سواء من خلال نهاية مفاجئة لحكم، أو تغيير في القيادة المحلية، أو تدخل من قوة خارجية. كما توضح أن السلام الناتج غالبًا ما يكون هشًا، ويستتبع تنازلات معنوية ومؤسسية طويلة المدى. وحتى الآن، تظل الحالة الأوكرانية استثنائية؛ فليس هناك ما يشير إلى أن النظامين الحاليين (الأوكراني والروسي) على استعداد لتغيير جذري؛ فالقيادة الأوكرانية ترى المقاومة مسألة وجود، والقيادة الروسية ليست مستعدة للتخلي عن مكاسبها؛ ومن ثم فإن تاريخ مثل هذه النزاعات يشير إلى احتمال واحد: إما أن يستمر التصعيد إلى حين الإحساس بتكلفة لا تُحتمل لأحد الطرفين، وإما أن يبرز حدث جذري (تغيّر حكومي كبير مثلًا) يقود إلى وقف المعارك قسرًا.

المواقف الغربية والدعم لأوكرانيا

تفاعل الغرب مع هذا التصعيد من خلال تأكيد قطيعة في مواقفه بين دعم أوكرانيا ومحاسبة روسيا، ففي الولايات المتحدة، جدد البيت الأبيض تأكيد حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، وأن المساعدات الأمريكية لن تنقطع، ومرّر الكونغرس -في وقت قياسي- حزم مساعدات ضخمة تضمنت صواريخ متقدمة ومدفعية، وأنظمة دفاع جوي، رغم خلافات حزبية بشأن الإنفاق الخارجي، واشتهر الخطاب الأمريكي بالربط بين هذه الضربات والدفاع المشروع، مع التأكيد أن أي مسعى لتحقيق السلام لن يتحقق إلا حين تلتزم روسيا بإنهاء غزوها. وفي الوقت نفسه، لاحظ بعض الخبراء العسكريين الأمريكيين (مثل المتقاعدين) أن هناك خطوطًا حمراء ربما لا ينبغي تجاوزها، مثل البنية النووية الروسية، لكن الإدارة الأمريكية فضّلت الاستمرار في دعم أوكرانيا دون إرسال قوات مباشرة، مركزةً على تقديم القدرات اللازمة، وتعزيز الجبهات العالمية ضد روسيا دون تحريض مواجهة كبرى. أظهر استطلاع أجرته إحدى المؤسسات الأمريكية أن نسبة دعم مساعدة أوكرانيا بقيت عالية نسبيًّا بين الديمقراطيين والمستقلين (فوق 70%)، فيما أبدى شريحة من الجمهوريين تحفظًا متزايدًا، خصوصًا في مواجهة الضغوط الاقتصادية الداخلية وشيخوخة المعركة. ومع ذلك، فإن غالبية الناخبين الأمريكيين حتى الآن لا يطالبون بوقف الدعم فجأة، لكنهم يصرون على تقييم مستمر لكفاءة المصروفات، ومدى تحسن الوضع الميداني.

في أوروبا، ظلّ موقف الاتحاد موحّدًا في دعمه لكييف، فقد ضاعفت بروكسل وكبار الدول الأوروبيّة الإمدادات العسكرية والتمويلات الاقتصادية لأوكرانيا، وأعلنت المفوضية خططًا ضخمة لإعادة البناء حتى بعد انتهاء الصراع. وفي لقاءات متعددة، كرّر قادة الاتحاد وقادة دوله أن أوكرانيا لن تُترك للمعتدي، وأن الإمداد سيستمر ما دامت روسيا تحتل أراضي شريكهم. مع ذلك، ساد حذر نسبي في بعض العواصم؛ فقد عبّر سياسيون ألمان وفرنسيون عن مخاوف من تصعيد عسكري قد يصل إلى مواجهة مباشرة، مؤكّدين -في الوقت نفسه- أنه لا بد من الضغط على روسيا من خلال العقوبات الاقتصادية بدلًا من وقف دعم أوكرانيا. وقد اتسم النقاش في الاتحاد بالتنسيق المستمر على مستوى المساعدات، مع مراعاة حصول كل دولة على تقويم داخلي لنفسها (خاصة في ضوء أزمة الطاقة والتضخم). وعلى العموم، تمسكت معظم الدول الأوروبية بالخط العام نفسه: تزويد أوكرانيا بجميع الوسائل اللازمة للدفاع عن أراضيها، مع استمرار سياسة الإسناد الأوسع لمؤسساتها السياسية والعسكرية.

أما الرأي العام الغربي، فقد تفاعل ببراغماتية؛ حيث أظهرت استطلاعات الرأي الأوروبية والأمريكية أن الغالبية تدعم مواصلة المساعدة العسكرية، ولا تزال ترى روسيا الطرف المخطئ، لكن نسبة كبيرة منها أيضًا باتت قلقة من طول أمد الحرب. في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، بلغت نسبة دعم الحكومة لأوكرانيا في استطلاعات الرأي نحو 60- 80%، ويعزف جزء من المواطنين نغمة القلق حيال التكلفة الاقتصادية للمعركة. وفي الولايات المتحدة، أكد استطلاع أن نحو نصف الأمريكيين يدعمون إرسال الولايات المتحدة كميات إضافية من الأسلحة، مقابل ثلث معارض، متأثرين بالصرف الداخلي، والتوجهات الحزبية. على نحو عام، لم ينتقل هذا الحياد النسبي أو التخوف الشعبي إلى تغيير الخطوط الأساسية، إذ ظلّت الأغلبية تتحمل فكرة الدعم الطويل الأمد، مع الشرط الضمني بأن يؤدي -في نهاية المطاف- إلى تحقيق أهداف السلام.

الخاتمة

أثبتت عمليتا “شبكة العنكبوت” واستهداف جسر كيرتش أن أوكرانيا استطاعت توسيع معركتها إلى ما وراء الحدود التقليدية للصراع الروسي الأوكراني، مضيفة بعدًا نوعيًّا جديدًا للحرب عن بعد، لكن هذه الخطوات لم تُسهّل التوصل إلى اتفاق؛ بل زادت الأمور تعقيدًا على المسرح الدبلوماسي؛ فبينما أضعفت الضربات بعض القدرات الروسية، فإنها -في الوقت نفسه- دفعت موسكو إلى التصعيد والتمسك بشروطها. واستنادًا إلى الخبرات التاريخية، يبدو جليًا أن أي خفض حقيقي للتصعيد لن يحدث إلا بوقوع تغيير جذري: إما في ميزان القوى العسكري، وإما في قيادة أحد الطرفين. وحتى ذلك الحين، سيبقى الغرب داعمًا لكييف، مع محاولة تجنّب مواجهة شاملة، وستظل أوكرانيا تدفع بقوة لتحقيق مكاسب ميدانية قبل أي مفاوضات. والسيناريو الأقرب حاليًا هو استمرار حرب الاستنزاف، حيث يكون السلام رهينًا بتقدّم كل جانب على الأرض، وسط غموض بشأن المصير النهائي للمفاوضات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع