تهدف سلسلة مقالات “تاريخ الترك” -بالأساس- إلى التعريف بتاريخهم، وربطه بحاضرهم، وصولًا إلى فهم العقلية التركية، وأزمة التاريخ والجغرافيا والهوية التي تعانيها الجمهورية التركية الحديثة، وانعكاس هذه الأزمات على تحركاتها الجيوسياسية في المنطقة، لنتمكن من خلق تصور يمكنا من العيش بجوارها في سلام، والتعاون على أسس جديدة تقوم على الندية، بعدما جمعت بيننا الجغرافيا والعلاقات التاريخية، وعدم إمكانية الغاء أي طرف للآخر من على الخريطة، وهو ما يستدعي دراسات مبنية على المهنية، لا الدعاية أو الدوافع الأيديولوجية.
سيطرت الدولة العثمانية على ما مجموعه اليوم نحو (42) دولة، وبلغت أوج اتساعها في عهد السلطان محمد الرابع، الذي حكم من عام 1648 إلى عام 1687، وأصبحت مساحتها أكثر من 15 مليون كم²، ولا يمكن لدولة بهذا الحجم الضخم، والمناطق والأعراق والأديان والمذاهب المختلفة الممتدة في القارات الثلاث (آسيا، وأوروبا، وإفريقيا)، وتحكمها سلالة من جد واحد مفترض لأكثر من 600 سنة، أن تعتمد -فقط وحصرًا- على القوة؛ فمها بلغت من قوة لا يمكنها حكم كل هذه الشعوب والأعراق، وبسط سيطرتها على هذه المساحة الشاسعة من الأراضي بسوى السياسة، وعقد اجتماعي بينها وبين هذه الشعوب.
مثلت الدولة التركية العثمانية قمة النضج السياسي والعسكري والحضاري لكل الدول والإمبراطوريات التركية السابقة لها. ويعود أصل العثمانيين إلى جدهم الأعلى سليمان شاه، قائد قبيلة قايي من الترك الغُز، وهم أكبر قبائل الترك، وغالبًا ما تكون الرياسة والسلطة فيهم كما سبق شرحه في المقال الأول من هذه السلسلة، بعنوان “تاريخ الترك“.
نزح سليمان شاه مع قبيلته من شينجيانغ (تركستان الشرقية) الواقعة الآن في جمهورية الصين الشعبية، ومات غريقًا وهو يعبر نهر الفرات في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان نزوحه مع قبيلته نتيجة للاجتياح المغولي للصين ومنطقة آسيا الوسطى، وقاد ابنه أرطغرل القبيلة، وتحالف مع سلاجقة الروم الترك في الأناضول، ومن بعده ابنه عثمان الأول الملقب بـ”الغازي”، الذي يعد أول سلاطين آل عثمان، منذ عام 1299.
شكّلت أسس تكوين الدولة العثمانية مصدر قوتها الرئيسة، وسبب بقائها كل هذه المدة، إلى جانب عدة عوامل أخرى سنتطرق إليها لاحقًا، حيث كانت مصادر التكوين الرئيسة لها كما يصفها المؤرخ العربي اللبناني د. وجيه كوثراني: (هيلينية بيزنطية بالثقافة، وفارسية بالإدارة، وعربية إسلامية بالتشريع)، وبهذا الخليط من الثقافات والنظم، تمكن العثمانيون من حكم هذه الإمبراطورية الكبرى ستة قرون كاملة.
كانت الدولة العثمانية دولة إمبراطورية سلالية، قائمة على سلطان ذكر يمثل رأس السلطة السياسية، وهذا السلطان لابد أن يكون من الترك، وعلى دين الإسلام، وينتمي إلى الجد الأول المؤسس عثمان الغازي، ولا يمكن لأي فرد أن يحكمها ما لم تتوافر فيه هذه الشروط، وعلى هذا الأساس فقد كانت هيلينية في ثقافتها، لكن يمكن لأي شخص آخر أن يصبح عثمانيًّا، وجزءًا من هذه الدولة وجهازها الإداري، والعسكري، والسياسي، الذي كان يتيح المجال لمشاركة الجميع فيها، مهما كان أصلهم، أو عرقهم، أو دينهم، شريطة أن يتحدث التركية العثمانية، ويلتزم بعاداتهم وتقاليدهم وأزيائهم، وأن يكون ولاؤه المطلق للدولة من خلال موالاة رئيس هذه السلالة التي يمثلها السلطان، وليس مهمًّا دينه أو مذهبه وحقيقة اعتقاده، أما إذا أراد أن يكون في الصف الأول، ويصل إلى مرتبة والٍ، أو وزير، أو وزير أعظم (رئيس وزراء)؛ فلا بد أن يكون مسلمًا، ولا يُشترط أن يكون قد وُلِدَ لعائلة مسلمة. واعتناق الإسلام قرار اختياري غير إجباري، يلجأ إليه أصحاب الطموح ومن يرون في أنفسهم الإمكانات التي تؤهلهم لنيل هذه المناصب والمراتب العليا، ولا يهم مدى التزام الشخص بالإسلام، أو صدق إيمانه؛ يكفي فقط أن يقول لقد أصبحت مسلمًا، ويتخذ لنفسه اسمًا إسلاميًّا جديدًا، ويمارس الشعائر الإسلامية في المناسبات العامة، ويبدي احترامه للإسلام وقيمه، بغض النظر عما يفعله في السر، فالنسب وشرفه أن تكون عثمانيًّا وفق الشروط السابقة، ولا يهم ما كنت عليه في الماضي؛ المهم هو ما أصبحت عليه بالفعل؛ عثمانيًّا أو عثمانيًّا مسلمًا إن كنت طامحًا إلى مركز مرموق في الدولة، ولا عائق أمامك حتى لمصاهرة السلطان، ولا الزواج بامرأة عثمانية من السلالة الحاكمة، أو من بنات السلطان أو أخواته، ولو حدث هذا فسيصبح لقبك “الداماد”؛ أي صهر السلطان، وتصبح جزءًا من هذه السلالة، وكذلك أولادك، الذين يتمتعون بكل ما للسلالة العثمانية من حقوق وامتيازات دون تولي منصب السلطان.
سياسيًّا، يمكن أن يصبح الصدر الأعظم المتصرف في شؤون الدولة كلها بناءً على تفويض من السلطان، ويصبح السلطان على الحقيقة، ويصل إلى مكانة كان من المستحيل أن يصل إليها في بلده الأصلي، وتحديدًا في أوروبا، التي كان محظورًا فيها وصول أي شخص مهما كانت مواهبه إلى هذه المناصب ما لم يكن من أسرة نبيلة ومرموقة، ولو تتبعنا قائمة أسماء الصدور العظام للدولة العثمانية الذين بلغوا أكثر من (250) صدرًا أعظم على مدى تاريخها؛ سنجد غالبيتهم من أصول يونانية أو سلافية أو ألبانية، وغالبيتهم الساحقة من أصول دينية أرثوذكسية شرقية. على سبيل المثال، كان إبراهيم باشا البارغالي، أحد أعظم الصدور العظام في الدولة، من أصول يونانية أرثوذكسية، ووالده كان صياد سمك، وأصبح الحاكم المطلق للدولة بتفويض من السلطان سليمان الأول، الملقب بـ”القانوني”، وتزوج أخته السلطانة خديجة بنت السلطان سليم الأول “ياغوز”، وكذلك رستم باشا، الذي أصبح صدرًا أعظم، وتزوج بنت أعظم سلاطين بني عثمان مهرماه، ابنة السلطان سليمان القانوني، وهو في الأصل ابن مربي خنازير كاثوليكي كرواتي، وكان أول عمله في القصر العثماني سائسًا للخيول.
بهذا التوجه أخذت الدولة العثمانية عنصرها الثقافي الثاني من الحضارة البيزنطية الرومانية الشرقية الإمبراطورية، وفتحت المجال واسعًا لكل الطامحين في الوصول إلى السلطة، والتمتع بالنفوذ دون منافسة السلطان العثماني، فلا وجود لإمبراطورية دون هذا السلطان الرابطة الوحيدة التي تجمع كل هؤلاء؛ ومن ثم تميزت عن سائر الإمبراطوريات المنافسة لها حول العالم في ذلك الوقت بإتاحة الفرصة للترقي، واستفادت من خبرات كل العقول النابغة بغض النظر عن أصولها لتصبح أكثر قوة، وبها ينالوا المكانة العالية التي كان من المستحيل أن يصلوا إليها في بلدانهم الأصلية، وهو ما يشبه النموذج الأمريكي المستمد في ثقافته من التصور الإمبراطوري الروماني، ولأجل ذلك، تفوق العثمانيون على جميع منافسيهم، وخلقوا ولاءً قويًّا لهم، ولرفعة الإمبراطورية وقوتها.
تمتعت الإدارة العثمانية بنظام فارسي بيروقراطي مثالي في عصر النشوء والذروة، وكانت الدولة العثمانية هي الأكثر كفاءة، والأكثر مرونة وتحديثًا دائمًا لقوانينها، والتزامًا بتدوين كل كبيرة وصغيرة في ولاياتها؛ ولذلك نجد اليوم أن أكبر أرشيف لدولة إمبراطورية في العالم ما زال للدولة العثمانية. وقد اعتنى سلاطين بني عثمان بتحديث قوانين الدولة العثمانية وأنظمة إدارتها دائمًا، وقد بدأ هذا التنظيم منذ تولي عثمان الأول الحكم عام 1299، وطوّره السلطان الثالث مراد الأول، والسلطان السابع محمد الثاني، الملقب بـ”الفاتح”، والسلطان الثامن بايزيد الثاني “الصوفي”، والسلطان العاشر سليمان القانوني أو “المُشرع“، الذي شهد عصره أكبر عملية تحديث على الإطلاق في القوانين عمّت سائر الولايات العثمانية. كان لهذا النظام الديناميكي، والساعي إلى التطوير والتحديث الدائم، الذي يعمل عليه موظفون ذوو كفاءة عالية، دور كبير في قوة الدولة وعدالة قوانينها، إذا ما قُورنت بالإمبراطوريات الأخرى، وهذا ما أعطى للإمبراطورية العثمانية ميزات عدة للشعوب التي كانت تحت حكمها، ورأت فيها الأفضلية عن غيرها.
اعتمدت الدولة العثمانية في مصادر تشريعها على الشريعة الإسلامية، ولكنها كانت أحد مصادر التشريع، وليست المصدر الرئيس أو الوحيد للتشريع، وراعت دائمًا التوازن بين الاعتماد على مصادر الشريعة في قوانينها، والمصادر الوضعية الحديثة وفقًا لحاجات المجتمع وتطور الزمن والعصر، فقد كانت عربية- إسلامية في مصدر تشريعها الأساسي، وعصرية “علمانية” بالمصطلح الحديث في مصدر تشريعها الثاني؛ وبذلك تمكنت من حكم أعراق عدة ينتمون إلى أديان ومذاهب وعقائد شتى، وكانت تشريعاتها تعتمد في الأساس على الفقه الحنفي، ولم يكن يضاهيها في مرحلة ما قبل نهاية “العصور الوسطى” -وفق المصطلح الغربي- والربع الأول من “عصر النهضة”، دولة أو إمبراطورية في العالم بهذه الوضعية التشريعية المنضبطة، والقادرة على الدمج بين ما هو ديني ومدني يمثل مستجدات العصر، ويضمن قبول الجميع بهذه القوانين.
كانت النخبة الأرستقراطية أو طبقة النبلاء، تشكل أزمة دائمة لكل أنظمة الحكم في العصور القديمة والوسطى، وتخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي في الممالك والإمبراطوريات الكبرى، إما باستبدادهم على الرعية، وإما بمنافستهم للسلطة الملكية الحاكمة، وقد أوجد آل عثمان حلًا جذريًّا لهذه المعضلة، وبالتحديد زمن السلطان الثاني أورخان بن عثمان الأول، الذي حكم من عام 1326 إلى عام 1360، وبنصيحة من الصدر الأعظم الرابع سنان الدين فقيه يوسف باشا خلق طبقة أرستقراطية من العدم، يكون ولاؤها حصرًا للسلطان، والسلالة العثمانية من خلال نظام (الدِّڤشيرمة). اعتمد نظام “الدِّڤشيرمة” على استجلاب أطفال صغار لا تتجاوز أعمارهم السنوات السبع، لكي تتم تربيتهم لخدمة الدولة، من خلال مصادر ثلاثة؛ الأول: في حال عدم قدرة رعايا الدولة من غير المسلمين على دفع الضريبة المفروضة عليهم، يمكن أن يستبدل بذلك تقديم طفل للدولة. الثاني: التطوع من خلال مجيء بعض الأطفال اليتامى ممن فقدوا عائلاتهم بالقوافل إلى إسطنبول وبورصة. أخيرًا، وعلى نحو أساسي: ضريبة الغلمان التي كانت تُفرض على كل أسرة مسيحية أرثوذكسية شرقية، وبموجبها لا بد أن تقدم كل أسرة لديها أكثر من ذكر، طفلًا لم يتجاوز عمره السابعة، كضريبة للدولة العثمانية.
من خلال هذه المصادر الثلاثة جمع العثمانيون عددًا ضخمًا من الأطفال، وأول ما يتم فعله هو حجزهم في معسكرات مختلفة، وإجراء عملية ختان لهم، وتعليمهم اللغة التركية العثمانية حتى يجيدوها كتابة وقراءة ونطقا، وإدخالهم في الإسلام، وتعريفهم بكتابه المقدس القرآن الكريم، وأحكامه في الفروع وفق الفقه الحنفي؛ مذهب الدولة الرسمي، وفي الأصول وفق العقيدة المَاتُريدِيَّةُ، وفي القواعد والسلوك على الصوفية البِكْتاشيَّة، التي تنسب إلى شيخها ومؤسسها حاج بكتاش ولي، المتوفى عام 1271 في الأناضول، والذي يعتز به كل الأتراك حتى الآن؛ لدوره في الحفاظ على اللغة التركية بعدما كان الترك يتجهون للاختيار بين العربية والفارسية لغةً لهم.
بعد إتمام العملية السابقة يُربَّى هؤلاء الأطفال على الولاء المطلق للسلالة العثمانية، وممثلها السلطان العثماني، ويُعلَّمون تاريخ آل عثمان، وأصولهم وغزواتهم وفتوحاتهم، ويُشكَّل لهم وعي وذاكرة جديدة تنسيهم ذاكرتهم القديمة، ليصبح السلطان أباهم، وآل عثمان عائلتهم، والدولة العثمانية وطنهم، والإسلام عقيدتهم.
بعدما يصل هؤلاء الأطفال إلى سن العاشرة يتم إدخالهم في النظام العسكري، ويتدربون على الشؤون العسكرية، إلى جانب تعليمهم اللغات، والتاريخ والجغرافيا، وعلوم الإدارة، والآداب والبروتوكولات السلطانية، وغيرها من العلوم الواجب معرفتهم بها، وبعد وصولهم إلى سن الثانية عشرة يعاد فرزهم وتقسيمهم إلى مجموعات مختلفة:
المجموعة الأولى: أصحاب البنية الجسمانية القوية، والذكاء المحدود، والملامح القاسية، والشجاعة والجرأة، وهؤلاء يُحوَّلون إلى الجيش ليصبحوا نواة قوات (يڭيچرى)، أو “الإنكشارية، التي تعني “الجيش الجديد”، وكانت أول دفعة تخرجت منهم في عهد السلطان الثالث مراد الأول، الذي حكم من عام 1360 إلى عام 1389.
المجموعة الثانية: الذين ظهر منهم نبوغ في تحصيل العلم، وقدرة على التعلم السريع، وهؤلاء يُحوَّلون إلى الجهاز الإداري والتشريعي للدولة ليحصلوا على التدريب والتعليم المناسبين، ويكتسبوا الخبرة اللازمة التي تؤهلهم لتولي مناصب إدارية، وحكم الولايات العثمانية، وتولي منصب الوزارة أو الصدر الأعظم، أو الاتجاه إلى التعليم الديني ليصبحوا مفتين، أو قضاة، أو أئمة مساجد، أو فقهاء بالدين.
المجموعة الثالثة: الذين يتمتعون بمواهب فنية، وهؤلاء يُرسَلون إلى دور النجارة، والصناعة، والبناء، والنقش والرسم، والمعمار، وغيرها من الدور المختلفة لتلقي التدريب والخبرة، ومن أبرز هؤلاء كان المعماري الشهير سنان، الذي كان ينتمي إلى أسرة مسيحية أرثوذكسية شرقية يونانية.
المجموعة الرابعة: أصحاب الطول الفارع، والشكل الجميل، والبنية القوية، وهؤلاء كانوا حرس القصور على بوابتها الرئيسة، وحرس الشرف لاستقبال الضيوف الأجانب، وحراسة السلطان، وكانوا يُلحَقون بالخدمة العامة في القصور من سن مبكرة لتلقي التدريب والتأهيل اللازمين للقيام بمهام عملهم الجديد، ولكن قبل ذلك يُخصَون جزئيًّا من خلال إزالة الخصيتين؛ لأنهم يطلعون على نساء القصر والجواري.
المجموعة الخامسة: المجتهدون في الأعمال اليومية، وذوو الملامح الحسنة، ولكنهم لا يتمتعون بقدرات جسمانية مميزة، وهؤلاء يُرسَلون لتلقي التدريب على البروتوكولات الخاصة بالقصور ليخدموا فيها، ويعمل بعضهم في تعليم الجواري فنون الرقص والغناء والخدمة، وكيفية تجهيز أنفسهن للسلطان، وتجهيز غرفة السلطان الخاصة، وغير ذلك من أمور القصر والحرملك، ويُخصَون خصاء كاملًا من خلال إزالة الخصيتين، ورأس القضيب.
من خلال هذه المصادر السابقة الذكر، خلق العثمانيون نخبتهم الأرستقراطية، أو ما سُميت “أرستقراطية العبيد”، وبها ضمنوا استقرار الدولة، وعدم منازعة أحد سلطانهم، وولاء هذه النخب المرتبط مصيرها وبقاؤها بالسلالة العثمانية، وضمنوا كذلك حالة السلم الأهلي.
شهد العصر العثماني الأول في مرحلة النشوء زواج للسلاطين من عدة عرقيات مختلفة، وكان هذا الزواج في الغالب لأهداف سياسية، وأغلب هذه الحالات كان من نساء ينتمين إلى أسر ملكية أو نبيلة بيزنطية وسلافية، لكن حادثة أسر السلطان الرابع بايزيد الأول “يلدرم” بعد هزيمته في معركة أنقرة عام 1402، على يد قائد الترك الأوزبك تيمورلنك، الذي وضعه داخل قفص حديدي، وأمر زوجته الأميرة الصربية أوليفيرا لازاريفيتش بخدمة جنوده في حفل انتصاره، مما أدى إلى وفاته حزنًا وكمدًا داخل القفص، أدت إلى صدر قانون عثماني يحظر على السلاطين الزواج، وأن يكتفوا من النساء بالجواري فقط؛ حتى لا يتمكن أعداؤهم من إهانتهم إذا تعرضوا لهزيمة عسكرية وسقطوا على إثرها في الأسر، وأول من عدّل من هذا القانون، وسمح للسلاطين بالزواج، كان السلطان سليمان القانوني، عندما أعتق جاريته الأوكرانية روكسلانا، الملقبة بـ”خُرَّم”، وتزوجها، وكانت حجته في ذلك أن الدولة قد استقرت، وبلغت من القوة ما يضمن عدم وقوع السلطان أو زوجاته في الأسر.
كان محظورًا على السلالة العثمانية أن تتزوج فيما بينها، فالأمير العثماني له الحق في اختيار ما يشاء من الجواري، والأميرة العثمانية تتزوج بمن ترغب أو يختاره لها أبوها، أو يتقدم لخطبتها من أهل الخدمة الأرستقراطية التي تعمل لمصلحة الدولة من عرقيات مختلفة، ومن خلال هذه المصاهرات بين الأمراء والجواري، والأميرات وموظفي الدول “العبيد السابقين”، يُدعم هذا التحالف النخبوي، وتنتج سلالة أرستقراطية موالية للسلطان.
المصدر الرئيس للجواري كان الحروب والغزوات، والهدايا التي يرسلها الولاة إلى القصر، أو الملوك المسيحيون المتحالفون أو الراغبون في عقد اتفاقيات سلام مع الدولة العثمانية، وقادة البحرية العثمانية من خلال سطوهم على مراكب الأوروبيين، وغزواتهم السريعة على المناطق الساحلية، والمصدر الأخير هو الشراء من سوق الجواري والعبيد من خلال النخاسين الأوروبيين واليهود.
لا يُشترط أن يعتنق الجواري الإسلام، ويُفرزن ويُقسمن كما يحدث مع الرجال في نظام “الدِّڤشيرمة”؛ فالجميلات الفاتنات الصغيرات السن يخصصن للسلطان والأمراء، والمتواضعات الجمال للخدمة، والمتميزات في الحرف يعملن في القصر وزينته، والموهوبات في الموسيقى والرقص والغناء يدخلن في الفرق الموسيقية المخصصة لحفلات السمر للسلطان، والأمراء، والأميرات، ولكن منذ أن وضع السلطان السابع محمد الفاتح قانون نامه، عام 1488، اشترط لتحصل إحدى جواري السلطان على لقب “سلطانة” أن تنجب أولًا أمراء أو أميرات للسلطان، وثانيًا أن تكون على دين الإسلام، حيث لا يمكن أن يتولى السلطنة من كانت أمه غير مسلمة، وإذا تولى السلطنة تُلقب أمه بـ “السلطانة الأم”؛ ولذلك كانت كل جارية تحمل من السلطان أو من أمير عثماني، تسارع بالتحول إلى الإسلام، ولا يُطلب منها سوى الاغتسال، ونطق الشهادتين، بغض النظر عن حقيقة إيمانها، وكان في الغالب إيمانًا ظاهريًّا لأجل المصلحة. أما الجواري اللاتي يبلغن سن 25 سنة، ولا ينجبن إذا كانت لديهن علاقة مع الأمراء أو السلطان، أو لم يدخلن إلى الخلوة أصلًا، فيُعتقن ويُمنحن حريتهن، ويُزوجن بموظفي الدولة، أو بشخصيات عامة تركية، ويُجهّزن من داخل القصر، ومن ثم يكون هناك إحلال وتجديد دائم لنظام الجواري، ولا يتبقى إلا السلطانات المحظور عليهن الزواج ما دمن قد أنجبن من السلطان أو الأمير، أو من ثبت تفوقهن بالخدمة واختارن البقاء في القصر لتولي مناصب قيادية.
أدى نظام الجواري إلى قوة نسل السلالة العثمانية، وتنوعها عرقيًّا، حيث كانت أغلب الجواري يونانيات أو روسيات أو سلافيات أو إيطاليات، وهو ما انعكس على تغير ملامح السلاطين العثمانيين، وكثرة إنجابهم، وقوة نسلهم، عكس ما كانت عليه الحال لدى ملكيات أوروبا، التي عانى نسلها الضعف والقلة نتيجة زواج الأقارب، حتى إن أسرة كبيرة وعظيمة مثل آل هابسبورغ، الذين حكموا غالبية أوروبا، انقرضوا في نهاية المطاف؛ نتيجة ضعف نسلهم، والأمراض الوراثية التي لاحقتهم نتيجة زواج الأقارب.
كما أسلفنا، كان نظام (الدِّڤشيرمة). هو المورد الرئيس لجنود الجيش التركي العثماني، وكان لا يُشترط بالضرورة أن يكون جميع الجنود فيه من المسلمين، بل كان كثير منهم أرثوذكسًا شرقيين أو كاثوليك، وكذلك المهندسون العسكريون، حتى إن المدفع الشهير (مدفع الدردنيل) الذي استخدمه السلطان محمد الفاتح في دك حصون القسطنطينية وأسوارها، كان من تصميم المهندس المجري الكاثوليكي أوربان، وكان لا بد أن يكون القادة العسكريون، وقوات النخبة الإنكشارية فقط مسلمين، وكان محظورًا عليهم الزواج طيلة عملهم في الخدمة العسكرية، ولا يتلقون رواتب شهرية، والعوائد المالية يتلقونها من خلال ما يحصلون عليه من حصص الغنائم، ولهم قاضٍ مخصوص يحكم بينهم، يسمى “قاضي عسكر”، ومن كان منهم يحتاج إلى أموال فإنه غالبًا ما كان يلجأ إلى المرابين اليهود ليقترض منهم، وينتظر الحملة العسكرية المقبلة ليحصل منها على الغنائم ويرد الديون التي عليه، وبعد تسريحهم من الخدمة يمكنهم الزواج، وبعضهم كان يظل في الجيش طيلة عمره يترقى في سلم القيادة العسكرية حتى يصل إلى قائد جيش أو أسطول. كان الجيش العثماني يملك أقوى أسطول بحري بالعالم حتى هزيمته في معركة ليبانت البحرية عام 1571، على يد التحالف المقدس الكاثوليكي بقيادة إسبانيا، وأقوى سلاح مشاة في العالم حتى معركة حصار فيينا الثاني 1683، وأقوى سلاح مدفعية حتى بدايات القرن الثامن عشر.
يقع البعض في كثير من الأحيان في خطأ كبير؛ ألا وهو تقييم وقائع التاريخ وفق قيم الحاضر، لا وفق قيم العصر الذي كان فيه الحدث التاريخي، وكأن البشرية لم تتطور، أو كانت ثابتة على نظام واحد لم يتغير، وبكل تأكيد -وفق قيم العصر الحالي- لم تكن الدولة العثمانية دولة حريات دينية مثالية يمكن الاسترشاد بنموذجها عبر نظام الملل، والمقصود به تقسيم المجتمع على أساس ديني، حيث لم يكن هناك ما تسمى الآن بالمواطنة؛ بل كان هناك حكم إمبراطوري يحكم أممًا متعددة الأعراق والأديان، ويقسمها وفقًا لمللها الدينية والمذهبية والعرقية.
عندما نتحدث عن أواخر القرن الثالث عشر حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789، نجد أن الإمبراطورية العثمانية كانت الأكثر حرية دينية مقارنة بكل الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى، ولم ينافسها في منحها هذه الحريات سوى الكومنولث البولندي الليتواني، من خلال نظام “الحرية الذهبية” الذي طُبِّقَ منذ عام 1573، وضمن حرية العقيدة، ثم الإمبراطورية الروسية زمن كاترين الثانية الملقبة بـ”العظيمة” عندما أصدرت قانون التسامح الديني عام 1773، الذي كان ملهمًّا للآباء المؤسسين في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أوروبا تعاني في ذلك الوقت صراعات دينية لا تنتهي بين المسيحيين أنفسهم (كاثويك وبروتستانت)، ولم تكن تقبل بدينين داخل أراضيها، ولا حتى بمذهب مخالف لمذهب الملك والكنيسة.
في الإمبراطورية العثمانية، عاش المسلمون بجميع طوائفهم، والمسيحيون كذلك الذين كانوا في الغالب من الأرثوذكس الشرقيين والمشرقيين، واليهود وباقي الأديان الأخرى، ولم تتدخل الدولة في شؤونهم الدينية. ووفق نظام الملل، كان لكل طائفة زعيم ديني يتولى شؤون الطائفة، وقيادتها والحكم بين أتباعها وفقا لشرائعها، وهو الممثل لهذه الطائفة أمام السلطنة العثمانية، وكانت حرية العبادة مكفولة للجميع ما داموا قد أقروا بسلطة الدولة العثمانية وموالاة سلطانها.
كان لكل طائفة الحق في البقاء على معتقدها، وبقيت دول وشعوب لمدة خمسة قرون تحت سلطة العثمانيين، ولم يتحول فرد واحد منهم إلى الإسلام، مثل اليونانيين، والأرمن، وغالبية الشعوب السلافية، باستثناء البوسنيين، وكان شرط البقاء على الدين وحرية العبادة -كما أسلفنا- الولاء للدولة، ودفع الضريبة سنويًّا للولاة، الذين كانوا يحصلون عليها من خلال وسيط من داخل هذه الملل، مثل الزعيم الديني، أو زعيم ذي مكانة اجتماعية منهم يتولى دفع الضريبة لخزانة الدولة مقابل أن تمنحه الدولة الحق في تحصيلها من أتباعه، مع حصوله على هامش ربح.
كان النظام الملي العثماني نموذجًا يحتذى به في زمانه داخل أوروبا، وكان المصلحون الدينيون من الكاثوليك والطوائف البروتستانتية يتمنون أن تسترشد أوروبا وملوكها بهذا النظام، ويرون فيه نظامًا شديد العدالة. على سبيل المثال، يقول الكاتب اللوثري المذهب، ورجل القانون الألماني، فيليب كاميراريوس (Philipp Camerarius)، في كتابه “تأملات تاريخية“، الصادر عام 1591، في دفاعه عن التنوع الديني، وأثره في قوة المجتمعات، حيث استشهد بمقولة السلطان سليمان القانوني، حينما خشي الصدر الأعظم رستم باشا، زيادة عدد اليهود داخل الإمبراطورية: “إن تعدد الزهور وألوانها أفضل من بستان مملوء بزهور من نوع ولون واحد”. أما الكاتب والدبلوماسي الفرنسي الكاثوليكي غيوم بوستيل (Guillaume Postel)، فقال في كتابه “جمهورية التُرك“، الصادر عام 1560، إن: “الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف، والمتعددة اللغات والقوميات والأديان، تمثل نموذجًا للتسامح الديني الذي ينبغي لأوروبا أن تقتدي به أن أرادت أن تعيش في سلام وازدهار”. كما قال زعيم الكاثوليك الإنجليز الكاردينال وليام ألن (William Allen) عام 1580: “لو كان الكاثوليك يلقون من عطف الملكة إليزابيث مثل ما يحظى به المسيحيون بين ظهراني الأتراك؛ ما تركوا بلادهم، والتجؤوا إلى بلدان أخرى”.
يمكن وصف السلطة في الدولة العثمانية بأنها لعبة خطيرة نتيجتها فائز حي، أو خاسر ميت، وهذه اللعبة للجميع فيها فرص متساوية من ولاة ووزراء، وصدور عظام وأمراء، والمجال فيها مفتوح للوصول إلى السلطة شريطة امتلاك القدرة. نحن هنا أمام دولة إدارة الصراعات بامتياز. كل الأمراء الذكور البالغون، بغض النظر عن خلفية أمهاتهم، جواري كُنَّ أم حرائر، الأكبر سنًّا أو الأوسط أو الأصغر، أيًّا ما كان ترتيبهم، أو الولاية التي يتولونها، لدى كل منهم فرص متساوية في أن يصبح سلطانًا، خاصةً أن السلطان لا يختار وليًا للعهد؛ بل يترك مسألة حسم خلافته للأقوى، والأقوى تحدده ظروف كل مرحلة. على سبيل المثال، مراحل الصراعات العسكرية مع الخارج يكون فيها الحظ الأوفر للأقوى والأجدر من الناحية العسكرية. في مراحل الصراع السياسي يتولى من لديه الحنكة والقدرة على فهم الصراعات وإدارتها، وإبرام المعاهدات الدولية لمصلحة الدولة. أما في فترة السلم الخارجي والصراع الداخلي فيتولى من لديه القدر الأكبر من الدهاء والمكر والخداع. والأمراء إما رابحون وإما خاسرون عملًا بالمبدأ الحالي للرأسمالية الأمريكية، وما دامت الفرص متساوية للجميع فأنت من تحدد مصيرك، ومصيرك لا مجال فيه لحلول وسط؛ ولذلك وضع السلطان السابع محمد الفاتح في قانون نامه بندًا يتيح للأمير الذي يصل إلى السلطة قتل جميع إخوته الذكور في نفس يوم صعوده على العرش؛ ومن ثم فالصراع لا رحمة فيه، وسيقاتل الجميع إن لم يكن لأجل السلطة فلأجل حياتهم، ومن يتمكن من الفوز فهو الأجدر، ومن يخسر فلا يلومن إلا نفسه، والقبر ينتظره؛ وذلك لضمان استقرار منظومة الحكم، وعدم تنافس الإخوة على السلطة.
أما الوزراء، والولاة، ومن يُختارون في منصب الصدر الأعظم، فالفرص متاحة للجميع، وكل من دخل عبر نظام “الدِّڤشيرمة”، ويُفرَز ويحوَّل إلى الجهاز الإداري للدولة، متاح أمامه كل أبواب السلطة حتى منصب الصدر الأعظم، وكل فرد يقرر مصيره من خلال قدراته الخاصة، والصراع قائم على نظرية الانتخاب الطبيعي كما في الداروينية الاجتماعية. من لديه القدرة على التكيف على الظروف، والتعامل مع متغيراتها، واللعب على تناقضاتها، والبقاء في ظل هذا الصراع، فهو الأقوى والأجدر بالمكانة السامية والرتبة الرفيعة في الدولة العثمانية.
كان للدولة العثمانية دستور غير مكتوب، ونظام عرفي متعارف عليه في تعاملاتها، ومنظومة قوانين مبنية على هذا النظام العرفي، وما ميز منظومة القوانين العثمانية إلى جانب ديناميكيتها، وتجديدها باستمرار، أنها كانت تستمد من الواقع نصوص قوانينها، وتفرض سلطتها على شعوب الإمبراطورية من خلال “الوسطاء المحليين” من ذوي المكانة الاجتماعية أو الدينية، الذين يقرون بسلطان الدولة العثمانية، والولاء للسلطان العثماني، والالتزام بتطبيق منظومة القوانين والأحكام السلطانية، ويؤدي إليها -نيابة عن مجتمعه- جميع الالتزامات المالية.
كان التقسيم الإداري العثماني يعتمد في البداية على تقسيم الولايات إلى (إيالات)، والإيالة هي أعلى مستوى بالولايات. على سبيل المثال، كانت مصر -بسبب حجمها وأهميتها- تُسمى إيالة مصر، ويلي الإيالة من حيث الأهمية السناجق، ومفردها سنجق، ثم الألوية، والأقضية، والنواحي، والقرى، وهي المستوى الأدنى في هذا التقسيم.
كان حاكم الإيالة يسمى “بايليرباي”، أو “بكلربك”، أي سيد الأسياد، أو بك الباكوات، وهو أعلى منصب لحكام الولايات، ومن يتقلده يصبح مؤهلًا حال ترقيته لدخول الديوان العثماني لتولي الوزارة، وبعد ذلك يمكن أن يصبح الصدر الأعظم للدولة، وكان البكلربك يقيم في قلعة محصنة على أطراف عاصمة الولاية، مثل قلعة الجبل (قلعة صلاح الدين الأيوبي) في القاهرة على سبيل المثال، ومعه حامية عسكرية من الجند العثمانيين لحمايته، وتأكيد سلطة الدولة على هذا البلد، ولا يتدخل في شؤون رعايا الولاية، ولا يُسمح لجنود بالاختلاط بالسكان المحليين، ولا ممارسة أي نشاط تجاري، ويعيشون في شبه عزلة في منطقة خاصة بهم أشبه بالثكنة العسكرية، ومهمتهم مراقبة أداء “الوسطاء المحليين”، والتأكد من التزامهم بتطبيق الأنظمة والقوانين، وضمان ولائهم للسلطنة، وعدم سعيهم إلى الاستقلال عنها، ويكون لهؤلاء الوسطاء شرطة محلية لحفظ الأمن، وجهاز إداري لجمع أموال الضرائب، وقضاة محليون ينتمون إلى المذاهب الإسلامية لأهل الإيالة، وقاضي قضاة معين من إسطنبول على المذهب الحنفي يمثل رأس السلطة القضائية العثمانية بهذه الإيالة، ومراقبة تطبيق القوانين، وله الحق في السماح للقضاة المحليين بالعمل بالقوانين العرفية في بعض الأحيان، والاقتراح على السلطنة دمج هذه القوانين في أول عملية تطوير تحدث للمنظومة القانونية، مع إبرازه أهميتها ودورها في تعزيز الأمن والسلم الأهلي، كما كان قاضي القضاة يشبه منصب رئيس محكمة النقض، الذي يلجأ إليه المتخاصمون كحكم عدل بينهم لديه القرار النهائي إذا تعذر قبول حكم القضاة المحليين.
أما أصحاب الأديان الأخرى من اليهود والمسيحيين وغيرهم، فيحكم بينهم قضاة من داخل ملتهم، ويراقبهم قاضي القضاة، ويجمع الضريبة أحد وجهائهم، أو زعيمهم الديني؛ حتى لا يحدث احتكاك مباشر بين موظفي الدولة وأهل هذه الملل غير المسلمة؛ مما قد يؤدي إلى مشكلات طائفية، وعلى سبيل المثال، كان المعلم جرجس الجوهري، كبير وجهاء القبط الأرثوذكس، هو المفوض من السلطنة العثمانية بجمع أموال الضريبة من جميع المسيحيين الأرثوذكس في مصر، وكانت السلطنة -من خلال الوالي- تحدد له قيمة المبلغ المطلوب دفعه سنويًّا، ويتولى هو دفعه ثم تحصيله فيما بعد من باقي المسيحيين دون تدخل من السلطة.
الوسطاء المحليون كانوا من وجهاء البلد كما كانت عليه الحال في جبل لبنان مع المعنيين، ومن بعدهم الشهابيون، والأشراف في الحجاز، والمشيخات القبلية في ساحل الخليج واليمن، أو زعماء القبائل، والمرجعية الدينية الشيعية في العراق، أو عبر المماليك في مصر والشام، وهكذا كان الأمر في ليبيا، وتونس، والجزائر، في حين كان المغرب خارج نطاق الحكم العثماني، وتحكمه مباشرة أسرة استوطنت المغرب من الأشراف السعديين، ثم من الفيلاليين القادمين من الحجاز.
هذا النظام إذا ما قورن بالأنظمة الإمبراطورية السائدة عالميًّا في ذلك الوقت، كان يمثل للشعوب النظام الأكثر مثالية، بل كان كثير من المسيحيين يفضلون العيش تحت ظله، ولا يقبلون باستبدال حكم إمبراطورية مسيحية بحكمه، فالصراع الديني بين الكاثوليك والطوائف البروتستانتية المشتعل في أوروبا، راح ضحيته مئات الألوف من المسيحيين بصراعاتهم فيما بينهم، في حين كان مسيحيو الدولة العثمانية يعيشون في أمان، ويتمتعون بحريتهم الدينية، وكانت مملكة المجر التابعة آنذاك للدولة العثمانية، ويحكمها الملك جون سيغيسموند زابوليا (John Sigismund Zápolya) منذ عام 1540، نائبًا للسلطان العثماني، تمثل واحة الحريات الدينية في كل أوروبا المسيحية، وكانت تعقد في شوارع العاصمة بودين ومجالسها مناظرات يومية بين المسلمين والمسيحيين واليهود والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وكان الملك نفسه يحضر بعضها، وقد أدت هذه المناظرات إلى تغيير مذهبه من الكاثوليكية إلى المسيحية التوحيدية “اللاثالوثية”، التي ما زال لها حتى اليوم كنيسة كبرى في رومانيا، تسمى الكنيسة التوحيدية في ترانسيلفانيا، في حين أُبيد كل أتباع مذهب التوحيدية في باقي أوروبا، أما اليهود فلم يجدوا حول العالم مكانًا يؤويهم، ويمنحهم ليس فقط الحماية، بل الحق في العمل، وحرية التجارة، وتحقيق الأرباح والثراء الفاحش، سوى الدولة العثمانية، في حين كانوا مطاردين في كل أوروبا، وتُنهَب أموالهم قبل طردهم منها.
إلى جانب ما سبق، وفَّر النظام العثماني للسكان الحماية والاستقرار، فكانت الإمبراطورية قوية، وتطبيق القوانين فيها يتم بصرامة، وتعيش في حالة من الهدوء والسلام، كما أن اتساع حجمها، وسيطرتها على أهم طرق التجارة العالمية، في ظل وقت لم تكن فيه حرية التجارة متاحة كما هي الحال الآن، جعل التجار من كل الأعراق والأديان في الدولة العثمانية هم الأسعد حظًا، والأوفر مالًا، والأكثر ربحًا من كل تجار العالم؛ لسهولة التنقل، وحرية التجارة داخل هذه الإمبراطورية الكبرى في القارات الثلاث.
شكّلت كل هذه العوامل -وفق معايير ذلك العصر- مميزات كثيرة جعلت الشعوب المختلفة تقبل بالحكم العثماني، وتخضع له قرونًا عدة، حتى دب فيها الضعف والفساد، وبدأت كل هذه المزايا تتحول إلى رزايا، وهو ما أدخلها في عصر الثورات والتفكك، ثم السقوط.
كانت الحياة الاجتماعية في الدولة العثمانية شديدة الغنى والثراء، وتنوعت فيها أشكال مختلفة من الفنون، وبعدما شحن السلطان سليم الأول، عام 1517، ثلاث سفن عثمانية بالعمالة المصرية المهرة، ليعملوا في عاصمة السلطنة القسطنطينية (إسطنبول)؛ لشدة إعجابه بعمارة القاهرة الفاطمية- المملوكية، تأسست مع الوقت مدرسة معمارية عثمانية، خلطت بين الفنون البيزنطية الأرثوذكسية، والفارسية، والمملوكية- الفاطمية المصرية، والسلجوقية، وطبعت كل هذه الفنون بلمحة خاصة تركية، وتفوقت في عمرانها على سائر بلدان أوروبا الغربية، التي لم تتمكن منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476 من بناء كنيسة واحدة ذات قبة إلا عام 1436، عندما استعان المصمم المعماري فيليبو برونليسكي (Filippo Brunelleschi) بالتصميمات البيزنطية لبناء قبة كاتدرائية سانتا ماريا دل فيوري في فلورانسا.
تميز المطبخ العثماني، والملابس والأزياء، والحياة الاجتماعية الفنية، بثراء كبير؛ نتيجة لهذا الخليط والمزيج من الثقافات والعرقيات التي كانت تعيش داخل الإمبراطورية، ولعل أفضل ما كُتب في هذا المجال الكتاب الرائع “إعادة استكشاف العثمانيين“، للمؤرخ التركي- الكندي إلبير أورتايلي (İlber Ortaylı).
في جانب اللغة والثقافة، لم تسعَ الدولة العثمانية إلى فرض لغتها على باقي الشعوب الأخرى إلا في المرحلة الأخيرة من عمرها، وكان تبني ثقافتها ولغتها طوعيًّا لمن أراد أن يلتحق بالخدمة في جهاز الدولة الإداري، ومن لم يكن يرغب في ذلك فكان له مطلق الحرية في تبني ثقافته المحلية، وهذه أيضًا كانت ميزة كبرى في ظل وجود الإمبراطوريات الأخرى التي سعت إلى فرض هوية قسرية على جميع الشعوب الواقعة تحت حكمها، إلى جانب تركها مساحة من الحرية بالتعاملات الشخصية، وعدم التدخل في شؤون الناس وحياتهم اليومية، وتركهم على ما هم عليه من عادات وتقاليد ما دام ولاؤهم ثابتًا للدولة، وأتاح العثمانيون أماكن مرخصة للهو وشرب الخمر، والرقص وممارسة البغاء، يقصدها الأجانب المقيمون في الدولة، والمسلمون وغير المسلمين، إلى جانب المقاهي العامة التي كانت منتشرة في سائر مدن الدولة وولاياتها.
كانت نقطة ضعف الدولة العثمانية إهمالها للعلوم الطبيعية، واختزال العلم والصناعة في الشؤون العسكرية، واحتراف الحروب دون السعي إلى التطور العلمي، والميل نحو النظرة المحافظة تجاه العلوم والريبة من الفلسفة، وهو ما جعلها تتأخر عن سائر منافسيها، وكان أحد أبرز عوامل سقوطها وتخلفها وتخلف جميع الولايات الخاضعة لسلطانها، ومنها الولايات العربية، كذلك لا نرى أيَّ أثر يُذكر أو ذي قيمة لعلماء ترك في أي مجال من مجالات العلوم الاجتماعية، أو حتى العلوم الدينية المختلفة، وتعد أفقر الدول والإمبراطوريات المسلمة في إنتاجها العلمي، والأدبي، والفلسفي، والديني.
كثيرًا ما يثار الجدل بشأن هوية الدولة العثمانية، فبعضهم يرى أنها “دولة إسلامية” تمثل امتدادًا للخلافة الإسلامية المتعاقبة منذ دولة الخلفاء الأربعة بالمدينة، وآخرون يرونها دولة تركية غازية، وهناك من يراها إمبراطورية رومانية كان دين ملوكها الإسلام. بعيدًا عن هذا الجدل ذي الطابع الأيديولوجي الذي يوظف سياسيًّا من أطراف عدة، يمكن من خلال ما سبق من سرد لخصائص هذه الدولة، فهم طبيعتها، وكذلك من ألقاب سلاطينها التي كانوا يطلقونها على أنفسهم. وخلاصة القول الذي أميل إليه أنها دولة ذات خصائص إمبراطورية تمازجت فيها الثقافات الهلينية البيزنطية، والفارسية العربية، يرأسها سلطان تركي سلالي، فكانت الفارسية لغة الأدب والشعر، والعربية لغة التشريع والدين، واليونانية لغة الفلسفة والفكر، واللاتينية لغة التعاملات الدبلوماسية، والتركية لغة السلطنة الرسمية وبها تدون مراسلاتها وأرشيفها، ويتحدث بها السلطان والنخبة الحاكمة.
الحديث عن الإسلام والخلافة الإسلامية، والدوافع الدينية لحروب الدولة العثمانية يدخل في نطاق الرؤى الأيديولوجية التي استُخدمت حديثًا للترويج لإسلامية الدولة لتحصيل مكاسب سياسية لمصلحة أطراف إقليمية ومحلية، حيث لم يقدم السلاطين العثمانيون لقب الخلافة على ما عداه من الألقاب إلا قبل سقوطها بقليل!
يعتقد البعض أن السلطان العاشر سليم الأول أول من تسمى بخليفة المسلمين، وحقيقة القصة أنه عندما دخل دمشق مع جيشه، وصلى الجمعة في الجامع الأموي عام 1516، كما يريد الرئيس أردوغان الآن، في محاكاة مع الماضي عبر الحاضر، لقب خطيب الجامع الأموي السلطان سليم الأول بلقب خادم الحرمين الشريفين، وهذا اللقب أول من حمله سلاطين المماليك في القاهرة، كما أرسل الشريف بركات الثاني، شريف مكة، أولاده بمفاتيح الكعبة إلى دمشق للقاء السلطان، وتقديمها إليه من باب إعلان الخضوع لسلطانه بعدما كانت الحجاز جزءًا من سلطنة المماليك في القاهرة، ثم بعد دخوله القاهرة عام 1517، اصطحب معه الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث، آخر خلفاء بني العباس، وظل في إسطنبول حتى وفاته عام 1534، ولم يتسمَّ سليم الأول -كما يعتقد البعض- بلقب خليفة المسلمين، ولا وجود لأي وثيقة تثبت تنازل الخليفة العباسي له، أو توصيته بأن يصبح الخلفاء من بعده هم بني عثمان، حيث إنه -وفق المعتقد السني- لا يجوز تولي الخلافة إلا لمن كان عربيًّا قرشيًّا، وعلى خلاف هل يكفي أن يكون قرشيًّا أم هاشميًّا، ولم يخالف فقهاء السنة هذه القاعدة سوى أبي حنيفة النعمان؛ ولذا فإن كل ما يقال عن لقب خليفة المسلمين ما هو إلا أسطورة لا دليل واحد ووحيد عليها، وقد ابتكرها السلطان عبد الحميد الثاني عام 1876 تحت اسم الجامعة الإسلامية، ورابطة الخلافة التي يمثلها بعدما فقدت الدولة العثمانية غالبية الأراضي التي كانت تسيطر عليها في أوروبا، ولم يعد لها إلا الأراضي التي تحت سلطانها في العالم العربي.
أخيرًا، يكفي أن ننظر إلى الألقاب التي اتخذها السلاطين العثمانيون لندرك أن الإسلام لم يكن يمثل في عصر قوة الدولة دورًا رئيسًا فيها، وكان السلطان العثماني يطلق على نفسه في مراسلاته الألقاب التالية:
أعلى حضرة أقدس همايون، السلطان خان المعظم ياديشاه، عاهل آل عثمان، وسلطان السلاطين، وبرهان الخواقين، ومُتوج الملوك، وظل الله في الأرضين، وسلطان البحرين، وخادم الحرمين الشريفين، وقيصر الروم، وأمين المدائن المقدسة الثلاث مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس الشريف. كان يسبق اسم السلطان العثماني كل هذه الألقاب، بالإضافة إلى أسماء المدن الكبرى تحت سلطانه، وأخيرًا أضيف إليها (أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين).
كل هذه الألقاب لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو من بعيد، ولم يستخدمها الخلفاء الأربعة، ولا الأمويون في دمشق وقرطبة، ولا العباسيون في هاشمية الكوفة وبغداد وسامراء والقاهرة، ولا الفاطميون في المهدية والقاهرة، وهي خليط من ألقاب تركية، وبيزنطية، وفارسية قديمة؛ وعليه، فالدولة العثمانية كانت إمبراطورية سلطانية تركية في شكل إمبراطورية رومانية ثالثة، لكن أباطرتها مسلمون، ويديرها ويتولى شؤونها العسكرية أخلاط من البشر، ومن أعراق وأديان شتى، الرابطة الجامعة لهم الولاء لهذا السلطان التركي من سلالة آل عثمان، وعصبية الدولة أو أيديولوجيتها الإسلام، وكانوا في ذروة الصراع مع ممالك أوروبا المسيحية يُسمون الأتراك، وليس المسلمين.
مسألة حكم العثمانيين للعرب لم يُثر بشأنها جدل عند سيطرتهم على بلداننا، ولم يتطرق أحد في ذلك الوقت إلى كل هذه المصطلحات التي ظهرت منذ مئة عام فقط، فنشوء فكرة الدولة وتطورها مر بمراحل كثيرة، بدءًا بالمشاعية البدائية، حيث لم تكن هناك دولة، ولا ملكية فردية، وكان في الأرض متسع للجميع، ومع تدجين الحيوانات، والتوسع في الزراعة، تكاثر البشر، وبدأ عصر القبائل والتجمعات الكبرى، والسلطة الأبوية، التي تطورت إلى دولة قطرية ضيقة لها ثقافتها وهويتها، ومجتمعها أشبه بعائلة واحدة، وكانت أول دولة مركزية في التاريخ هي الدولة المصرية القديمة، عام 3200 ق. م. التي أسسها الملك نارمر، الذي كان لقبه ميني أو “مينا”، وتعني المؤسس.
مع التغيرات المناخية التي أدت إلى موجات من النزوح الجماعي، بدأ عصر الإمبراطوريات، وكانت الإمبراطورية المصرية أولها، وأول أباطرة التاريخ تحتمس الثالث عام 1457 ق. م. ثم سقطت الدولة المصرية عام 525 ق. م. على يد الفرس الأخمينيين، وتعاقب على حكم مصر إمبراطوريات شتى، ومنذ ظهور عصر الإمبراطوريات انتهى الحكم المحلي، ولم يعد للدولة القطرية وجود، وكان النظام العالمي قائمًا على إمبراطورية قوية تحكم شعوبًا وبلدانًا مختلفة، وقد ظل هذا النظام معمولًا به في العالم كله حتى توقيع صلح وستفاليا عام 1648، الذي أنهى الحروب في أوروبا، وأنتج ما عرفت فيما بعد بالدولة القومية، وهي التسمية الصحيحة للدولة الحديثة، لا “الدولة الوطنية”.
كان من سمات الدولة القومية أن يكون لها علم خاص بها، وجيش، وعملة، وحدود، ونظام حكم، وارتباط بعلاقة تعاقدية مع شعبها، والتزام بالاتفاقيات الدولية مع الدول الأخرى، واحترام كل طرف سيادة الطرف الآخر وحدوده، وبهذه الاتفاقية وجهت أوروبا طاقاتها إلى الخارج للاستيلاء على بلدان آسيا، وإفريقيا، والعالم الجديد في أمريكا، وأستراليا.
ظل هذا النظام معمولًا به، ويتطور مع الزمن حتى الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى تفكك الإمبراطوريات الأربع الكبرى (الروسية، والنمساوية المجرية، والعثمانية، والألمانية)، وتأسيس عصبة الأمم المتحدة عام 1920، ثم تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحول نظام صلح وستفاليا والدولة القومية من اتفاق يحكم العلاقة بين دول أوروبا إلى نظام عالمي ما زلنا نعيش فيه، وربما يشهد الآن بداية النهاية، ولا يُعرف بعد كيف سيكون شكل النظام العالمي الجديد؛ ولذلك تتسابق جميع القوى الدولية والإقليمية إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب لها؛ لتحجز لنفسها مكانًا في هذا النظام الذي لم يولد بعد.
جدلية الغزو والفتح التي ظهرت في هذه الأيام، ونرى صراعًا بشأنها، بين من يرون كلمة “فتح” مدحًا، ومن يعتقدون كلمة “غزو” ذمًا، وحقيقة الأمر أن كلا المصطلحين لا ينطوي على مدح أو ذم بقدر ما هو تعبير عن توصيف لوضع سياسي وعسكري.
الفتح: هو جيش يحارب آخر، وينتصر عليه، ويدخل بلد المهزوم، وتصبح تحت سلطة الدولة أو الإمبراطورية التابع لها هذا الجيش، ويستقر في هذا البلد؛ وعليه، فدخول الفرس الأخمينيين، والإغريق، والرومان، والبيزنطيين، والعرب، وغيرهم من الإمبراطوريات لمصر كان فتحًا.
الغزو: هو جيش يقاتل جيشًا آخر في مكان محايد، أو على أطراف البلد أو حتى داخلها، وبعد نهاية المعركة يحصل على الغنائم، ويفرض شروطه السياسية، ثم ينسحب من حيث أتى؛ ولذلك لم يجد المسلمون الأوائل ولا الحاليون أي غضاضة في تسمية حروب الرسول -صلى الله عليه وسلم- “غزوات”؛ لأنها كانت حروبًا على أطرف المدن، وانتهت بانتصار المسلمين، أو توقيع معاهدات بينهم وبين غير المسلمين، في حين سُميت حرب الاستيلاء على مكة “فتح مكة”، وهذا ليس فقط لمكانتها الدينية؛ بل لأن المسلمين استقروا فيها، وفرضوا سلطانهم عليها، وكانت هذه الغزوات والفتوحات بعد وفاة الرسول الكريم صراعًا عسكريًّا سياسيًّا واقتصاديًّا، ولم يكن لدوافع دينية، حتى إن أول المؤرخين المسلمين، وصاحب المصنف الأشهر والأكبر في تاريخ هذه الحروب البلاذري، المتوفى عام 892، سمى كتابه “فتوح البلدان”، ولم يُسمِّه “الفتوحات الإسلامية”، وقسم الحروب إلى فتوح وغزوات.
الاحتلال: هو سيطرة دولة ما على أخرى بالقوة العسكرية، ووضعها تحت هيمنتها دون حكمها حكمًا مباشرًا، وهو ما حدث مثلًا في مصر في أثناء الاحتلال الإنجليزي، الذي أبقى على حكم الأسرة العلوية والخديوي، والأنظمة العامة السائدة، في حين كان قرار الدولة وصاحب السلطة الفعلية فيها هو ممثل الاحتلال المندوب السامي البريطاني، أو ما حدث في العراق عام 2003. وقد وُضِعَت قوانين لتنظيم عمل القوة المحتلة، منذ الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر الميلادي، وتطورت وصولًا إلى اتفاقية لاهاي عام 1907، ثم اتفاقية جينيف عام 1949؛ ومن ثم فمصطلح “الاحتلال” حديث، ولم يكن له وجود في أثناء دخول العثمانيين مصر، وفي عصرنا الحالي لا توجد قوة محتلة في كل العالم إلا إسرائيل حصرًا، التي تحتل فلسطين كلها، وتفرض سلطتها السياسية والعسكرية على شعبها وحكومتها.
عندما نتتبع تاريخ النخبة الوطنية المصرية المطالبة بإنهاء وجود الاحتلال الإنجليزي، وعلى رأسها باعث اليقظة الوطنية مصطفى كامل، ورفيق دربه محمد فريد، أو عزيز باشا المصري، ومؤسس الاقتصاد الحديث طلعت حرب؛ سنجد أن مطالبهم كانت استقلال مصر عن بريطانيا، وقيام اتحاد يجمعها مع الدولة العثمانية، وتحت سلطة الخليفة العثماني، ولكن بنظام لا مركزي، وبشراكة كاملة مع تركيا، يُصنَع فيها تاج يجمع بين تاجي المُلك للعرب والترك، ليمثل اتحاد كلتا الأمتين، والمصالح والرابطة الدينية المشتركة، وقد كتب محمد فريد كتابًا خصصه عن تاريخ العثمانيين بعنوان “تاريخ الدولة العليا العثمانية”؛ دفاعًا عن هذه الدولة، ولتأكيد ضرورة الاتحاد معها، ونشر طلعت حرب رسالة باسم “كلمة حق على الإسلام والدولة العلية”؛ للدفاع عن الدولة العثمانية ضد من كان يراهم “نخبة الاستعمار” الذين يريدون فصل مصر عن رابطة الخلافة، حيث كان هؤلاء يرون أن مصر وحيدة دون تركيا وبلدان الشام والحجاز ستكون دولة ضعيفة، ولا حول لها ولا قوة، وكذلك إضعاف لتركيا، أما الفريق عزيز المصري، فقد كان عضوًا فاعلًا في حركة “تركيا الفتاة” المطالبة باتحاد العرب والترك، لكنه تركها بعدما سيطر عليها القوميون الأتراك المتعصبون.
بناء على ما سبق، كان الحكم العثماني للعرب حكمًا سلطانيًّا، تم فيه استبدال سلاطين عثمانيين ترك بالسلاطين المماليك الشراكسة، ولم يكن هناك كبير فرق لدى الشعوب العربية بين كلا الفريقين في ذلك الوقت، ورأى الكثيرون أن حكم العثمانيين ربما يكون أفضل لأنهم الأقوى، ولهم إمبراطورية أكثر اتساعًا، ومجالات التجارة فيها أكبر من دولة المماليك التي ضعفت وتردت أوضاعها، وضربتها الفوضى من كل مكان، وملَّ الناس منها.
على جانب آخر، يرى البعض أن العثمانيين أنهوا وحدة العرب، حيث كانت دولة المماليك البرجية تضم حاليًا: (مصر، وشرق ليبيا، وشمال السودان، والحجاز، وبلاد الشام)، وبها سلاطين يباشرون الحكم، وخليفة عربي عباسي يملك ولا يحكم يمثل وحدة المسلمين، ودولة قائمة بذاتها، أنهى دخول العثمانيين وجودها، وأدى إلى خراب كبير، وموت كثير من العرب في هذه الحرب.
عاصر دخول العثمانيين مصر، أو كان قريب عهد من حكمهم، مؤرخان كبيران، هما ابن إياس الحنفي (1448- 1524)، وابن أبي السرور البكري (1588- 1676). الأول ذمَّ العثمانيين، ووصف دخولهم مصر بالخراب، والثاني مدحهم ووصف حكمهم بالمنح الرحمانية في الدولة العثمانية، وهنا تبرز معضلة أيهما نصدق.
دور الباحث في التاريخ البحث عن الدوافع، وفهم الأسباب، والخلفيات، والبيئة والظروف المؤثرة في الأحداث، وانحيازات المؤرخ نفسه. وعندما نتتبع سيرة ابن إياس، نجد أنه أولًا كان من الشراكسة، وينتمي إلى قومية “الأباظة” القادمين من أبخازيا في جمهورية جورجيا الحالية، وكان جده أميرًا مملوكيًّا، ومن مماليك السلطان الظاهر برقوق، وكان أباه في خدمة السلاطين الشركس، ونال منهم إقطاعًا كبيرًا من الأراضي الزراعية، ومن الطبيعي بحكم أن السلاطين الشركس من موطنه الأصلي، وينتمون إلى عرقيته، وعمل هو وأبوه وجده في خدمتهم، وهم ولاة نعمته ومن أقطعوه أراضي زراعية خصبة من أرض مصر، أن يكون لديه تعاطف تجاههم، وهذا أمر طبيعي لا يجرح في ابن إياس، الذي عُرفت عنه الموضوعية في كتابته للتاريخ، لكنه في النهاية بشر، كما أن ابن إياس عاصر الصدمة الأولى لدخول العثمانيين مصر، وما رافق ذلك من أعمال سلب ونهب، وقتل واغتصاب، وحرق وفقدان للأمن، وشحن الكنوز والنفائس والعمال المهرة من مصر إلى إسطنبول، وهي أمور تصيب أي إنسان عاصرها بالحزن والكمد والضيق، والنقمة على هذا الوافد الجديد؛ ولذلك من المفهوم أبياته الشعرية الشهيرة: “نوحوا على مصر لأمر قد جرى، من حادث عمت مصيبته الورى، زالت عساكرها من الأتراك في غمض العيون كأنها سنة الكرى، الله أكبر إنها لمصـيبـة وقعت بمصر ما لها مثل يُرى، لهفي على عيش بمصر قد خلت أيامه كالحلم ولى مدبرا”.
ابن أبي السرور البكري كانت له قصة أخرى؛ فهو عربي، ويمتد نسبه إلى قبيلة قريش، فرع بني تيم، وجده الأعلى أبو بكر الصديق، الخليفة الأول بعد رسول الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، وكان مولده في كنف الدولة العثمانية، ولم يشهد سواها، وكانت في ذلك الوقت مستقرة وفي أزهى عصورها؛ لذلك لم يكن غريبًا مدحه لها، وكتابته كتبًا كثيرة في فضائلها، ولكنَّ هناك أسبابًا ودوافع أخرى لا بد من عدم إغفالها، منها أن الولاة العثمانيين قربوه إليهم، وكان قطبًا صوفيًّا يتبركون به، ويأخذون مشورته، ويرسل إليه السلاطين العثمانيون الهدايا، وبينه وبينهم مراسلات، ويمنحونه على ما يؤلفه من كتب في مدحهم العطايا المالية، وكانوا ولاة نعمته، كما كان الشراكسة لابن إياس. كذلك هناك أمر آخر مهم، فقد نشأت نقابة الأشراف في مصر زمن الدولة الطولونية عام 870 ميلاديًّا، وكان أول نقبائها أحد أحفاد إبراهيم طباطبا الحسني، وكانت تمثل شرعية للدولة الطولونية التي انفصلت عن الدولة العباسية، وظلت النقابة محصورة في السادة الحسينيين، والأشراف الحسنيين من نسل علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، وعندما أسقط صلاح الدين الأيوبي حكم الفاطميين، وحدثت ضده عدة ثورات، كان يخشى من أهل البيت بالحكم، ومع تزايد العرب القرشيين في مصر، حرضهم الوزير الأيوبي قراقوش على المطالبة بالانتساب إلى نقابة الأشراف، ومنازعة الطالبيين لقب الأشراف، وأن الشرف لكل عربي قرشي لأنه من قبيلة الرسول، وتحديدًا أحفاد أبي بكر، الخليفة الأول، وعمر، الخليفة الثاني، ونشأت منذ ذلك الوقت أحزاب ثلاثة في مصر؛ حزب يرى الأشراف هم فقط وحصرًا أحفاد علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء من الحسن والحسين (وهم الأغلبية)، وحزب يرى أنهم فقط بنو هاشم، وحزب يرى أنهم كل من كانوا ينتمون إلى قبيلة قريش (وهم أقلية محدودة جدًّا). ومع تولي السلطان الظاهر بيبرس، وافتتاحه الأزهر الشريف من جديد، وإجبار المصريين على التمذهب بأحد مذاهب أهل السنة والجماعة الأربعة، واتخاذه التصوف منهجًا تصالحيًّا وحلًا توافقيًّا لأنه يُعلي من شأن أهل البيت وقدرهم، مع احتفاظه بالمذهب السني، فقد رأى أن يحسم هذا الجدل لصالح الطالبيين ليكسب ودهم، وسار على نهجه سلاطين المماليك البحرية والبرجية، وعندما دخل العثمانيون مصر لم يجدوا ترحيبًا أو دعمًا من الطالبيين؛ وعليه، فقد سارع البكريون إلى وصل الولاة العثمانيين، وتقديم فروض الولاء والطاعة لسلاطين آل عثمان، ومن خلال هذه العلاقة فرضوا وجودهم داخل نقابة الأشراف، وسيادتهم على الطرق الصوفية، وقد ظل هذا الصراع بين الطرفين حتى مجيء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، حيث قاوم السيد عمر مكرم الحسني -نقيب الأشراف- الفرنسيين، في حين انحاز الشيخ خليل البكري إلى نابليون بونابرت، وقلده لأجل ذلك منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ونقيب الأشراف، بدلًا من عمر مكرم، وكانت ابنته زينب البكري على علاقة مع نابليون في قصة شهيرة انتهت بمقتلها على يد الأهالي، وتبرؤ أبيها منها ليحمي نفسه من غضبهم؛ ولذلك لم يكن موقف ابن أبي السرور البكري من العثمانيين سوى جزء من هذا الصراع الطويل.
بعيدًا عن حالة الاستقطاب بين المؤيدين والمعارضين، والمواقف الأيديولوجية التي اتخذت فيما بعد تجاه الدولة العثمانية، سواء من دعاة التنوير الليبراليين، أو من القوميين العرب، أو في الوقت الحالي نتيجة الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين، وعلاقتهم بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا الذي يمثل العثمانية الجديدة، هناك كتاب رائع عن حكم العثمانيين للعرب، مدعوم بالوثائق، للمستشرق الروسي نيقولاي إيفانوف، يتحدث فيه عن هذه الفترة بموضوعية، وبعيدًا عن كل هذه المؤثرات في الفترة من عام 1516 إلى عام 1574، وهو كتاب “الفتح العثماني للأقطار العربية“، ومن حسن الحظ أنه قد ترجم إلى العربية؛ فيمكن العودة إليه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.