جغرافيا

بولندا.. قراءة في الجغرافيا السياسية (2/ 3)


  • 23 يونيو 2024

شارك الموضوع

بدأت بولندا منذ عام 1989، تبحث عن الأمن داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضد الهيمنة الروسية، وصعود ألمانيا. والآن، ومن خلال توسيع حلف شمال الأطلسي، تسعى بولندا إلى إنشاء شبكة من البلدان القادرة على مواجهة التحديات الأمنية الجديدة، مثل الإرهاب، وانتشار الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، وفي الوقت نفسه، إنشاء أوروبا مستقرة، وديمقراطية، وآمنة.

واجهت بولندا على مدار تاريخها، مشكلة أمنية نابعة من جارتيها القويتين، روسيا وألمانيا، على الرغم من تطور الوضع الجيوسياسي والبيئة الأمنية لبولندا منذ الحرب العالمية الأولى، لكن سياستها الأمنية كانت تهدف دائمًا إلى إيجاد أفضل طريقة لمواجهة التهديدات المتكررة لسيادتها، وسلامتها الإقليمية.

استعادت بولندا استقلالها عام 1989، ولأول مرة منذ عام 1945، شعرت بالتفاؤل بشأن المستقبل، وفي الوقت نفسه كانت متخوفة بشأن قدرتها على الحد من التهديدات التي تهدد مصالح أمنها القومي، وكان همها الأساسي هو أنها وجدت نفسها في “منطقة رمادية” من دون أي حلفاء، خوفًا من عودة ألمانيا، والهيمنة الروسية، وتمثلت التهديدات الأمنية المحتملة الأخرى في القومية، وعدم استقرار الدول المجاورة المستقلة حديثًا في أوروبا الشرقية والوسطى، ومشكلات الأقليات، وضعف الأنظمة العسكرية والسياسية (بما في ذلك الأمن)، والاقتصاد.

لم يكن الطريق إلى الناتو سهلًا

شاركت بولندا في عمليات حلف شمال الأطلسي منذ عام 1996، حتى قبل عضويتها الكاملة في الحلف، وارتبطت هذه المشاركة بتنفيذ الأهداف المتغيرة للسياسة الخارجية لبولندا؛ ومن ثم فإن السمة المميزة لهذه الأنشطة هي المستوى العالي من الإرادة السياسية لاستخدام القوة لأغراض سياسية محددة بوضوح، فقبل أن تصبح بولندا عضوًا في حلف شمال الأطلسي عام 1999، كان الهدف من مشاركة بولندا في عمليات الحلف هو إثبات أنها مرشح متوقع لعضويته.

وبعد انضمامها إلى الحلف في الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين، سعت بولندا، من خلال مشاركتها في عملياته، إلى إثبات أن قرار العضوية كان مبررًا، وفي أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان الهدف من مشاركة بولندا في عمليات حلف شمال الأطلسي (الناتو) هو تعزيز موقفها السياسي في الحلف.

 اختارت بولندا من منطلق حرصها على أمنها القومي ما بعد الشيوعية الحصول على ضمانات أمنية صارمة، أي الحصول على ضمانات الدفاع الجماعي التي يعرضها حلف شمال الأطلسي، ومع ذلك، لم يكن طريق بولندا سهلًا بسبب وقوف أربعة عوائق خلال السنوات العشر الأولى من انهيار الشيوعية.

أولًا: في الفترة من 1989 إلى 1991، عانى حلف شمال الأطلسي أزمة هوية، حيث حُرم التحالف العسكري تدريجيًّا من خصمه المتمثل في الاتحاد السوفيتي، والكتلة الشرقية.

 ثانيًا: ظلت الترتيبات الانتقالية سارية المفعول بسبب بقاء قوات الاتحاد السوفيتي السابق مؤقتًا على أراضي الولايات الشرقية لألمانيا الموحدة، وعلى أراضي بولندا، وأماكن أخرى في دول حلف وارسو السابقة (والبلطيق).

ثالثًا: حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها عدم إثارة غضب روسيا من خلال التوسع السريع المفرط لهياكلها المتعددة الأطراف باتجاه الشرق.

رابعًا: أدت الصراعات العرقية التي اندلعت في يوغوسلافيا السابقة والاتحاد السوفيتي السابق إلى زعزعة استقرار الوضع الدولي، ودعت إلى التعاون بين الغرب وروسيا.

وارسو وواشنطن

مع أن الناتو عبارة عن هيكل متعدد الجنسيات، فإن الولايات المتحدة، منذ بدايته حتى يومنا هذا، هي القائد الذي يستخدم أكبر قدر من الأصول والقوات في أنشطة الحلف، حيث تعد أيضًا صانع القرار السياسي الرئيس، وتُنفَّذ كثير من المهام المخصصة لحلف الناتو وفق المصالح السياسية للولايات المتحدة. وفيما يتعلق بالسعي إلى الأمن والاستقرار الجيوسياسي، كان الخيار السائد بين الساسة البولنديين هو أنه سيكون من الأفضل لبولندا أن تسعى إلى تحقيق التوازن الأمني والعسكري في إطار التعاون مع الولايات المتحدة،  وكان السبب هو الوضع الصعب الذي تعيشه بولندا بعد خروجها من الكتلة الشرقية.

كانت بولندا معزولة على الساحة الدولية، وهو ما كان من الممكن أن يهدد الحفاظ على الأمن الخارجي على المدى الطويل، فبذلت بولندا جهدًا كبيرًا للوصول إلى وضع دولة عضو في الناتو. وبالإضافة إلى ذلك، كان مبرر هذه الجهود هو التجربة التاريخية الناتجة عن الموقع الجيوسياسي لبولندا في أوروبا، الذي كان يعني ضمنًا التطلعات الألمانية والروسية لإخضاع بولندا.

 ونتيجة لهذا السبب، أدى تفكك حلف وارسو، وكذلك مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة، إلى الحاجة الملحة إلى إنشاء ضمانات سياسية وعسكرية جديدة لبولندا على أساس تحالفات جديدة، وأخيرًا، اختير إقامة أمن بولندا على أساس حلف شمال الأطلسي، والتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة، ويفترض المفهوم المعتمد أنه الخيار الأفضل للحفاظ على توازن القوة العسكرية في أوروبا، ومنع التوسع السياسي العسكري الروسي مرة أخرى في بولندا.

تركز الجهد الرئيس للبحث عن فرصة الانضمام إلى هياكل الناتو على الحوار بشأن عضوية بولندا في برنامج “الشراكة من أجل السلام”. ومن الناحية السياسية، كانت “الشراكة من أجل السلام” عبارة عن اتفاقية دفاعية للتعاون الأمريكي مع دول أوروبا الوسطى والشرقية، وأعلن وزير الدفاع الأمريكي فكرة البرنامج في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1993.

اتفقت بولندا مع الناتو على “برنامج الشراكة من أجل السلام” الفردي (اقتصرت المشاركة الأولية لبولندا على  مشاركة الخبراء العسكريين في الدورات المتخصصة التي ينظمها حلف شمال الأطلسي، وإشراك الوحدات العسكرية والمراقبين في التدريبات والتمارين المشتركة باستخدام القوات (LIVEX)، والمشاركة في المهام القتالية والإنسانية، وكذلك عمليات البحث والإنقاذ. وعلى المدى الأطول، تم توسيع التعاون ضمن “الشراكة من أجل السلام”، ليشمل زيادة الشفافية في التخطيط الدفاعي، وفي العمل على الميزانية العسكرية من خلال تبادل المعلومات وتقاسم النفقات مع المقر الرئيس لحلف شمال الأطلسي، وضمان السيطرة الديمقراطية على القوات المسلحة من خلال التحول الهيكلي، والتغييرات التشريعية، والإجراءات الديمقراطية لتشغيل الميزانية، بما يتماشى مع معايير الناتو.

وبالتدريج، بدأ الطرفان في أخذ خطوات عملية من أجل توافق نظام القيادة والسيطرة- C2،  وإنشاء نظام دفاع جوي بولندي حديث، وإجراءات موحدة في حالات الطوارئ ومستويات الضرورة العالية، والتخطيط الدفاعي واللوجستي، بما في ذلك نظام الشراء والتسليم، والبنية التحتية العسكرية، والتوحيد القياسي، والتدريب والأبحاث، وكذلك تطوير التكنولوجيا العسكرية، والتطوير الطويل المدى للقوات المسلحة، وإعدادها للتعاون مع القوات المشتركة، وتعديل نظام القيادة والسيطرة، والاتصالات، والخدمات اللوجستية، والتسليح، والتعليم وفقًا لمعايير الناتو.

ذهب الصقور في واشنطن إلى أن توسيع حلف شمال الأطلسي سيجعل الولايات المتحدة، من خلال الشراكة مع بولندا، تبني سدًا متينًا مناهضًا لروسيا. بالإضافة إلى ذلك، فقد اقتنعوا بأن التعاون مع بولندا من شأنه أن يوازن القوى الأوروبية المهيمنة، مثل ألمانيا وفرنسا، المعارضتين للولايات المتحدة في الصراع من أجل الهيمنة والنفوذ في أوروبا.

ومع ذلك، لا بد من التذكير بأن المشهد السياسي الأمريكي كان منقسمًا إلى معسكرين “للوصول إلى العضوية الجديدة”، وعلى الرغم من الموقف الإيجابي للرئيس بيل كلينتون، لم يتفق جميع ممثلي إدارته على توسيع الناتو بأعضاء جدد. وذكر المعارضون أن توسيع حلف شمال الأطلسي من شأنه أن يزعج علاقات الولايات المتحدة مع روسيا. ووفقًا لنائب وزير الخارجية للشؤون الأوروبية، فإن الحل الصحيح الوحيد في هذه المسألة كان ينبغي أن يكون اختيار المفاوضات أداة تعاونية رئيسة في بناء العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، كما أن أي إجراءات تهدف إلى توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي، لن يتم الاتفاق عليها وتسويتها مع روسيا، ستؤدي إلى الرجوع إلى الخلف في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، وسيكون من الصعب تقديرها، وإعادة بنائها.

ماذا أرادت بولندا من الناتو؟

تُعد بولندا من بين أعضاء الناتو الذين تعتمد مصالحهم الأمنية الأساسية- على نحو مباشر- على قدرة الحلف على الرد على التهديد المتنامي بسرعة من روسيا، فباحتلالها موقعًا مركزيًّا على الجناح الشرقي للحلف، أصبحت بولندا الآن نقطة محورية طبيعية لكل أزمة محتملة تقريبًا تتعلق بروسيا وحلف شمال الأطلسي، وفي حين تستثمر بولندا بكثافة في قدرتها العسكرية الوطنية، فإنها تظل تعتمد في دفاعها على استعداد حلف شمال الأطلسي وقدرته على ردع روسيا.

فالعدوان الروسي على أوكرانيا دعوة قوية لمواصلة تكيف حلف شمال الأطلسي مع التهديد الروسي. وينبغي لبولندا أن تسترشد بافتراض مفاده أن من المرجح أن تميل روسيا في السنوات المقبلة إلى الانخراط في سياسة خطرة لاختبار حلف شمال الأطلسي؛ ومن هنا فإن الأولوية القصوى لبولندا هي أن تؤكد إستراتيجية حلف شمال الأطلسي المقبلة على مركزية الدفاع الجماعي باعتباره المهمة الرئيسة للحلف، ومن المهم لبولندا أيضًا أن تعمل المبادرات الدفاعية الأوروبية لصالح حلف شمال الأطلسي، وأن تعمل على تعزيز مصداقية دفاع الحلفاء والردع ضد روسيا، بدلًا من تقويضها.

من وجهة نظر بولندا، كان تكيف حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد عام 2014 مع التهديد الروسي المتزايد أشبه بقصة نجاح- إلى حد كبير- فخلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أصلح الحلف وضع قوته على نطاق عريض، فكانت بولندا من بين حلفاء الجناح الشرقي الذين ربما استفادوا بوضوح من هذه التغييرات.

ثم نُشرت في بولندا، منذ عام 2017، مجموعة قتالية متعددة الجنسيات مع الولايات المتحدة، كدولة إطارية؛ لإنشاء خط أول لدفاع الحلفاء ضد روسيا (أُنشئت ثلاث مجموعات قتالية مماثلة في ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا).

وفي العام نفسه، بدأ لواء مدرع أمريكي العمل بالتناوب في بولندا أيضًا؛ مما عزز إمكانات الدفاع والردع لدى الحلفاء ضد روسيا في حالة حدوث أزمة أو صراع، ومن المفترض أن تُعزز هذه القوات المنتشرة في المقدمة من خلال قوة الرد التابعة لحلف شمال الأطلسي (NRF)، معززة بما يسمى “رأس الحربة” لقوة المهام المشتركة VJTF، التي تكون عناصرها مستعدة للانتشار في غضون أيام قليلة فقط.

كثف الحلفاء في الناتو، في أوائل عام 2022، جهودهم لمواجهة التهديد المتزايد من روسيا، وحشدوا قوات على الحدود الأوكرانية، وعززوا موقعهم على الجناح الشرقي بأصول إضافية، منها مجموعة قتالية جديدة متعددة الجنسيات في البحر الأسود (في رومانيا مع فرنسا أيضًا، دولة الإطار ضمن مفهوم أنشطة اليقظة المعززة). ومن المنظور البولندي، فإن كل هذه القرارات تشكل دليلًا حيًّا على صلاحية الضمانات الأمنية التي يقدمها حلف شمال الأطلسي، والتي يضمنها التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي.

أدى تكيف حلف شمال الأطلسي مع التهديدات الروسية- بالتأكيد- إلى تعقيد الحسابات الروسية فيما يتعلق بتحقيق فوز سريع محتمل على الحلف في صراع منعزل ومحدود الزمان والمكان، يرتبط في الغالب بحلفاء الجناح الشرقي. وبدءًا من عام 2022، لم يكن لروسيا اليد العليا الواضحة على الناتو في سيناريو افتراضي يضمن لها الاستيلاء السريع على الأراضي، ليكون على الفور أمرًا واقعيًّا بسبب عدم قدرة الناتو على الرد الفوري على روسيا بالوسائل العسكرية، فأهداف روسيا الإستراتيجية تجاه التحالف والغرب مفهومة على نطاق عريض (وتتلخص في إخراج الولايات المتحدة من أوروبا، أو على الأقل من جناحها الشرقي، مما يجعل حلف شمال الأطلسي تحالفًا باطلًا، ويوجه ضربة إلى مصداقية الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم)، وإذا ما تمت متابعتها على نحو فعال، فسيتعين على روسيا تصعيد الصراع مع حلف شمال الأطلسي بسرعة، وعلى نحو كبير، ومع ذلك، أصبحت روسيا قادرة- على نحو متزايد- على القيام بذلك، حتى لو مُنيت بخسائر مروعة في أوكرانيا.

يمكن القول إن ما يواجهه حلف شمال الأطلسي الآن على جناحه الشرقي هو صورة أكثر تعقيدا بكثير مما كانت عليه في الوقت الذي صُممت فيه العناصر الرئيسة لوضع قوة الحلفاء اليوم، ولهذا السبب تزعم بولندا أن تكيف حلف شمال الأطلسي مع التهديد الروسي ينبغي اعتباره- مرة أخرى- قضية مفتوحة، وأن يُبقي جميع خيارات تعزيز قوته مطروحة على الطاولة، وأن يجعلها مشروطة بتطور التهديد الروسي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع