مقالات المركز

نحو عملية سياسية شاملة تحفظ وحدة سوريا

بوغدانوف ودعوات التوافق الوطني


  • 13 مارس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: enabbaladi

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، اضطلعت روسيا بدورٍ محوري في مجريات الأحداث، سواء من خلال تدخّلها العسكري، أو من خلال مبادراتها الدبلوماسية. ويُعدّ ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، والمبعوث الخاص للرئيس إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، إحدى الشخصيات البارزة التي تعكس سياسة موسكو في هذا الملف. لطالما أكّد بوغدانوف “ضرورة إطلاق عملية سياسية شاملة” تضمّ مختلف المكوّنات السورية؛ إدراكًا منه لصعوبة تحقيق تسويةٍ مستدامة، دون انخراطٍ فعلي لجميع أطراف النزاع.

تستند هذه الرؤية إلى قناعةٍ راسخة لدى موسكو بأنّ الاستقرار الحقيقي يستوجب مسارًا تفاوضيًّا يأخذ في الحسبان التنوع المجتمعي لسوريا، إضافةً إلى ضرورة العمل مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة. في هذا الإطار، تطرح روسيا نفسها وسيطًا قادرًا على التوفيق بين الحكومة السورية والفصائل المعارضة والقوى الكردية، آملةً تحويل إنجازاتها العسكرية على الأرض إلى نفوذٍ دبلوماسي يضمن اعترافًا دوليًّا بدورها.

المنظور التاريخي

ورثت روسيا علاقاتٍ وطيدة مع دمشق منذ أيام الاتحاد السوفيتي، إذ كانت سوريا حليفًا إستراتيجيًّا لموسكو في المنطقة. وعندما تصاعدت الأزمة السورية، رأت روسيا أنّ سقوط مؤسسات الدولة قد يخلّف فراغًا تستغله جماعاتٌ متطرفة؛ لذا، لم يقتصر دورها على الدعم العسكري فقط، بل امتدّ إلى مساراتٍ سياسية متعددة، منها رعايتها لمؤتمرات أستانا، وإسهامها في صياغة تفاهماتٍ لخفض التصعيد.

يعكس هذا التوجه ثباتًا في الموقف الروسي نحو الحفاظ على وحدة سوريا ومؤسساتها، مع دفع حوارٍ يشمل كل الأطراف. ومن هنا، تأتي تصريحات بوغدانوف  بوصفها امتدادًا لخريطةٍ إستراتيجيةٍ ارتكزت عليها موسكو منذ بدء الأحداث.

شخصية بوغدانوف

تمتّع ميخائيل بوغدانوف بمجموعة من الخبرات الدبلوماسية في العالم العربي؛ ممّا أكسبه فهمًا أعمق للتعقيدات الإقليمية. ومن موقعه نائبًا لوزير الخارجية، باتت له صلاحياتٌ أوسع تتيح له التواصل المباشر مع الحكومة السورية، وفصائل المعارضة، وبعض الأجنحة الكردية. كما يُنظر إليه بوصفه همزة وصلٍ بين الكرملين والعواصم الإقليمية، إذ يحمل رسائل سياسية تسعى إلى كسر الجمود، وكسب تفاهمات تدعم الرؤية الروسية.

تتسم تصريحاته بالتركيز على ضرورة الحوار الوطني بوصفه أداةً لحل الخلافات، لا سيما في مجتمعٍ متعدد الهويات كالمجتمع السوري، وبذلك يحاول بوغدانوف إطلاق إشارات طمأنة إلى الفصائل المعارضة التي تخشى هيمنة طرفٍ واحد على مستقبل سوريا.

الدبلوماسية الروسية وقرار 2254

تستند موسكو -بوضوح- إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يحدّد أسسًا رئيسة للحل، منها تشكيل هيئة حكم انتقالية، وصياغة دستورٍ جديد، وإجراء انتخاباتٍ نزيهة. ورغم الاختلافات في تأويل نص القرار، يُقرّ المسؤولون الروس بأهميته بوصفه إطارًا دوليًّا مقبولًا يمكن البناء عليه. وحين يصرّح بوغدانوف بالحاجة إلى عمليةٍ شاملة، فهو يذكّر الأطراف بأنّ المرجعيات الأممية تسمح بدمج القوى السياسية المتعددة تحت غطاءٍ شرعي.

ومع توظيفها ورقة قرار 2254، تسعى روسيا إلى تكريس دورها المحوري من خلال تحقيق اعترافٍ دولي بنفوذها في سوريا؛ لذا تعمل على إقناع الدول الغربية والإقليمية بقبول تسويةٍ تضمن مصالح الجميع، في الوقت نفسه الذي تؤكد فيه دعمها لإعادة الإعمار، وتطبيع العلاقات مع دمشق إذا ما أُنجِزت الخطوات السياسية المطلوبة.

أهمية الإشراك المجتمعي

تأتي تصريحات بوغدانوف عن ضرورة العملية الشاملة لتسلّط الضوء على أهمية الإشراك الفعلي لجميع المكوّنات في سوريا، ومنها الأقليات العرقية والدينية. في السنوات الماضية، أدّت الصراعات إلى تفاقم الانقسامات المجتمعية، وقد يستحيل التوصّل إلى اتفاقٍ دائم إذا لم تتحقق المطالب الجوهرية للأكراد، والتركمان، والطوائف المختلفة.

إلى جانب ذلك، يتطلّب أي اندماجٍ وطنيٍ ناجح التعامل مع ملف النازحين واللاجئين، وتأمين بيئةٍ تسمح بعودتهم الطوعية. ومن هنا، يرتبط أي نجاحٍ للدبلوماسية الروسية بقدرتها على الموازنة بين الأمن ومقتضيات الحياة الكريمة، بحيث لا يشعر أي طرفٍ بأنه مستبعدٌ أو مهدّد.

التحركات مع القوى الدولية والإقليمية

من خلال خطّه الدبلوماسي، يسعى بوغدانوف إلى التنسيق مع أطرافٍ إقليمية بارزة كتركيا وإيران، ودول عربية وأوروبية. وتحاول موسكو إقناع هذه الأطراف بأنّ التسوية السياسية ستكون في مصلحتها؛ إذ تفتح المجال أمام استقرارٍ يسمح بتدفق الاستثمارات وإعادة الإعمار. بيد أنّ صعوبة هذه المهمة تكمن في تضارب المصالح؛ فتركيا قلقة من صعودٍ كردي، وإيران تصرّ على توسيع نفوذها، في حين تضع دولٌ أخرى شروطًا تتعلّق بمستقبل القيادة السورية.

مع ذلك، تستفيد روسيا من قدراتها العسكرية على الأرض، ونفوذها في مؤسسات الدولة السورية؛ مما يمنحها ورقة ضغطٍ تمكّنها من انتزاع تنازلاتٍ محدودة من الأطراف المختلفة. ويحاول بوغدانوف توظيف هذه الورقة لإبداء مرونةٍ تجاه بعض المطالب، في مقابل الاحتفاظ بالتزامٍ دولي يحمي المصالح الروسية الطويلة المدى.

البعد الإنساني والاقتصادي

لا تغيب عن تصريحات بوغدانوف الإشارة إلى وجوب تخفيف المعاناة الإنسانية؛ بسبب حجم الدمار الذي خلّفه النزاع، فالملايين من النازحين واللاجئين يحتاجون إلى خدماتٍ أساسية، كما أنّ البنى التحتية متهالكة في ظل عقوباتٍ اقتصادية مشدّدة. وبما أنّ موسكو تأمل إطلاق مشروعات إعادة الإعمار، فهي تسعى إلى إيجاد إطارٍ سياسيٍ مقبول من المجتمع الدولي حتى تُضَخ الأموال اللازمة.

من جانبٍ آخر، يحذّر خبراء من أنّ غياب التسوية الشاملة قد يعيد إنتاج بؤرٍ متطرفة تهدد الأمن الإقليمي؛ لذا ترى روسيا في الحوار الشامل ضمانةً لاحتواء عوامل التطرّف، وإنعاش الاقتصاد تدريجيًّا من خلال توفير بيئةٍ مستقرّة تستقطب الموارد.

آفاق الحل

على الرغم من صعوبة الوضع الراهن، يشير تشديد بوغدانوف على “عمليةٍ شاملة” إلى أنّ موسكو ترغب في استثمار ما حققته عسكريًّا لإنهاء الصراع الداخلي ضمن صيغةٍ دولية. وقد يتضمّن ذلك تشكيل حكومةٍ موسّعة، وتعديلاتٍ دستورية تلبّي مطالب الأكراد والإثنيات الأخرى. وإذا تراجع التوتر الإقليمي والدولي، فقد تمسي هذه الخطوات قابلةً للتنفيذ بدعمٍ مالي وإداري دولي.

غير أنّ نجاح السيناريو الروسي يظلّ مرهونًا بتنازلاتٍ متبادلة من الأطراف كافة، بالإضافة إلى قدرٍ كافٍ من الثقة  بأنّ التعهدات لن تُنقَض لاحقًا. وفي ظل سيولة المصالح، وتباين الأجندات، قد يظلّ طريق التسوية طويلًا، لكنّ موسكو تراهن على أنّ الحلّ السياسي، إن توافقت الأطراف عليه، سيدرّ عليها وعلى سوريا مكاسب إستراتيجية.

الاستنتاجات

تمثّل دعوة ميخائيل بوغدانوف إلى “عملية سياسية شاملة” مرآةً لإستراتيجيةٍ روسية تسعى إلى تحقيق تسوية تُراعي تعقيدات المجتمع السوري، ومصالح القوى الدولية. ومن واقع تجربتها العسكرية والدبلوماسية، باتت موسكو مقتنعةً بأنّ المسار السياسي الشامل فقط هو ما يمنع انبعاث موجاتٍ جديدةٍ من العنف، ويوفّر مناخًا لإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين. ومع ذلك، فإنّ الإنجاز الفعلي لهذه الرؤية يتطلّب انخراطًا بنّاءً من كل الأطراف، في ظل استمرار الشكوك والتباين في الأولويات. ورغم هذا التعقيد، يظلّ الموقف الروسي -كما يعبّر عنه بوغدانوف- عاملًا أساسيًّا في دفع الأطراف إلى تغليب الحلّ السياسي على منطق القوّة، أملاً في نهايةٍ لهذه الأزمة الطويلة، وإرساء سلامٍ دائم يُنهي المعاناة الإنسانية الشديدة التي تعصف بسوريا منذ سنوات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع