مع اقتراب يوم التاسع من مايو (أيار) 2025، وهو التاريخ الذي يحتل مكانة مركزية في الوجدان الروسي باعتباره يوم النصر على النازية، فاجأنا الرئيس الروسي، كعادته، بالإعلان عن هدنة مؤقتة على خطوط التماس مع أوكرانيا، في مبادرة تبدو في ظاهرها إنسانية ورمزية، لكنها – في رأيي، وبلا شك – تحمل في طياتها دلالات سياسية واستراتيجية أكثر تعقيدًا.
بالتزامن مع ذلك، جاءت رسالة الشكر الرسمية التي بعث بها بوتين إلى كوريا الشمالية وزعيمها كيم جونغ أون لتعزز مشهدًا دبلوماسيًا روسيًا آخذًا في التشكل، قائمًا على إعادة تموضع الحلفاء والخصوم في زمن التحولات العالمية المتسارعة.
إعلان بوتين وقف إطلاق النار بمناسبة عيد النصر لا يمكن فهمه بمعزل عن السياقين الداخلي والدولي اللذين تتحرك فيهما روسيا اليوم. ففي الداخل، يستثمر الكرملين هذه الذكرى لتعزيز السردية الوطنية التي تركز على صمود روسيا التاريخي أمام التهديدات الخارجية، بدءًا من النازية، وانتهاءً بما تصفه موسكو بـ”العدوان الغربي بأيدٍ أوكرانية”، والذي يهدف إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بالدولة الروسية المتعافية بعد صدمة تفكك الاتحاد السوفيتي الذي هزم النازية.
إحياء هذه الرمزية يهدف إلى شدّ أواصر الوحدة الوطنية في وقت تشهد فيه البلاد آثار العقوبات الاقتصادية الغربية وتصاعد استنزاف الموارد في ساحة القتال.
أما دوليًا، فهذه المبادرة، حسبما يبدو لي، يستهدف بها بوتين إرسال رسالتين: الأولى خاصة إلى ترمب، مع اقتراب انتهاء المئة يوم الأولى من ولايته الثانية، مفادها: “أنا جاد في التوصل إلى سلام”. والثانية إلى العواصم الغربية والمجتمع الدولي، بأن موسكو، رغم تصعيدها العسكري في ميادين القتال، لا تزال تحتفظ بقدرتها على ضبط النفس وتقدير اللحظات التاريخية الجامعة.
تأتي هذه الصورة الإنسانية في توقيت حرج، حيث تتكثف المساعي الدولية، وخصوصًا الأمريكية، لإحياء مسارات تفاوضية متعثرة، وسط تلميحات أوروبية – ألمانية وفرنسية تحديدًا – بإمكانية مراجعة بعض جوانب الدعم العسكري لكييف مع اقتراب فصل الانتخابات الأوروبية.
غير أن المبادرة الروسية اصطدمت بجدار الصمت الأوكراني والغربي، حيث لم تبادر كييف بإعلان التزام مماثل بوقف إطلاق النار، مما يضفي على المبادرة طابعًا أحادي الجانب، ويحد من تأثيرها العملي، إن استمر هذا الموقف الأوكراني والغربي. ومع ذلك، فإن القيمة السياسية لهذه الهدنة تبقى قائمة؛ وأقصد بذلك أنها يمكن أن تُفهم كتمهيد لتهيئة الأجواء لمفاوضات مستقبلية، أو في إطار تعزيز الخطاب الروسي القائم على تصوير موسكو كطرف راغب في السلام… لكنه مضطر إلى القتال.
بالتوازي مع التحرك الرمزي تجاه أوكرانيا، جاءت رسالة بوتين الموجَّهة إلى القائد الكوري الشمالي وجيش كوريا الشمالية، وإعلانه رسميًا – وللمرة الأولى – عن مشاركة وحدات من المقاتلين الكوريين إلى جانب الجيش الروسي في كورسك، لتؤكد أن روسيا لم تعد تكتفي بالدفاع عن مواقعها الدبلوماسية التقليدية، بل تسعى كذلك إلى بناء شبكات تحالفات جديدة، حتى وإن كانت مع أطراف تخضع لعزلة دولية خانقة.
توجيه الشكر لكيم والعسكريين الكوريين الشماليين ليس مجرد لفتة بروتوكولية – من وجهة نظري – بل هو إعلان صريح من بوتين عن توثيق علاقة استراتيجية ترتكز إلى قاعدة تبادل المصالح في مواجهة الضغط الغربي.
تشير التقارير الاستخباراتية الغربية إلى وجود مؤشرات على تعاون عسكري آخذ في التوسع بين الجانبين، قد يشمل تزويد روسيا بكميات من الذخائر أو الأسلحة التقليدية التي تفتقر إليها موسكو بعد أكثر من ثلاث سنوات من العمليات الكثيفة في أوكرانيا، والتي أدت إلى استنزاف المخازن.
وفي المقابل، تقدم روسيا إلى كوريا الشمالية دعمًا تكنولوجيًا وطاقة رخيصة، إلى جانب تغطية سياسية ضد أي تحرك أممي جديد يسعى إلى تشديد العقوبات على بيونغ يانغ.
والأهم من ذلك أن هذه الشراكة تحمل طابعًا استراتيجيًا يتجاوز المصالح الظرفية، إذ تشكل جزءًا من مشروع أوسع تقوده موسكو وبكين وعواصم أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية لإعادة بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، بما يحد من الهيمنة الغربية التقليدية.
إذا جمعنا بين إعلان بوتين لهدنة عيد النصر، بعد ساعات من إرسال رسالة الشكر إلى كوريا الشمالية، تتضح أمامنا ملامح سياسة روسية جديدة، قوامها العمل على مسارين متوازيين:
من جهة، الإبقاء على خطاب إنساني دبلوماسي يسعى إلى تحسين صورة روسيا أمام الرأي العام العالمي، خاصة في ظل تصاعد الانتقادات في بعض الأوساط الأوروبية والأمريكية بشأن كلفة دعم الحرب الأوكرانية.
ومن جهة أخرى، بناء تحالفات عسكرية ميدانية مع أطراف لا تزال تعتبرها واشنطن وحلفاؤها “دولًا مارقة”، وهي تهدف بذلك إلى خلق توازن قوى جديد يعزز من قدرة موسكو على الصمود والمناورة.
وبين هذين المسارين، تظهر روسيا كقوة تسعى ليس فقط للبقاء، بل لإعادة تعريف النظام الدولي وفق معادلات جديدة.
بين وقف إطلاق نار رمزي وتحالفات محسوبة مع دول لا تزال معزولة، تمضي موسكو في رسم خطوط استراتيجيتها الكبرى ليس فقط لعام 2025، بل لما بعده… في وقت تبدو فيه الساحة الدولية أكثر سيولة وتقلبًا من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة.
ولعلّ السؤال الأهم الذي تطرحه هذه التحركات الروسية هو:
إلى أي مدى تستطيع روسيا المحافظة على هذا التوازن الدقيق بين الانفتاح الدبلوماسي والتصعيد الجيوسياسي في عالم يتغير بوتيرة متسارعة؟
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.