تحظى الانتخابات المقبلة في بنغلاديش، بداية من يوم 7 يناير (كانون الثاني) 2024، باهتمام كثير من القوى العالمية، ومنها الولايات المتحدة، والهند، والصين، وروسيا. وتتمتع هذه الدول بمصالح جيوسياسية واقتصادية متميزة في بنغلاديش، التي تتمتع بموقع حاسم داخل جنوب آسيا. واتهمت رابطة عوامي الحاكمة، الولايات المتحدة بمحاولة تقويض الانتخابات، من خلال الدعم الضمني للاحتجاجات العنيفة التي ينظمها معارضو رئيسة الوزراء الشيخة حسينة. وتخشى الولايات المتحدة من تنامي علاقات بنغلاديش مع روسيا، وكذلك الصين، في ظل حكومة رابطة عوامي.
تربط روسيا ببنغلاديش علاقات وثيقة في كثير من المجالات، منها الطاقة، والمجالات العسكرية، والتكنولوجيا النووية. وتبني بنغلاديش أول محطتين للطاقة النووية بالتعاون مع شركة روساتوم الذرية الروسية المملوكة للدولة، بتكلفة تبلغ (12.65) مليار دولار أمريكي، وتمول موسكو (90%) من المبلغ، من خلال قرض روسي يُسدد خلال 28 عامًا، مع فترة سماح مدتها 10 سنوات، بالإضافة إلى توفير المعدات العسكرية، ومنها الطائرات المقاتلة، والمروحيات، والدبابات، والصواريخ. وقد أظهرت بنغلاديش موقفًا مُنحازًا إلى روسيا منذ 2014، حيث امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص إدانة ضم موسكو شبه جزيرة القرم، كما امتنعت أيضًا عن التصويت على قرار أممي يطالب بوقف غير مشروط للحرب في أوكرانيا عام 2021.
وبدأت حرب كلامية بين روسيا والولايات المتحدة؛ حيث وجهت الأولى اتهامات إلى واشنطن بالتدخل في الحياة السياسة البنغلاديشية، وعلقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على رفض روسيا أنشطة بعض الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة، فيما يتعلق ببنغلاديش، وأكدت زاخاروفا أن قانون بنغلاديش يحدد- بوضوح- إجراءات الانتخابات، وأعربت عن وجهة النظر الروسية في هذه الأنشطة الغربية بوصفها تدخلًا في الشؤون الداخلية لبنغلاديش، مُعتبرة أن “بمنطق الغرب، فإن توصية الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بشأن ضرورة تشكيل حكومة انتقالية محايدة خلال فترة ما قبل الانتخابات، ما هو إلا استعمار جديد”.
وجاء رد واشنطن في بيان أصدرته السفارة الأمريكية بعد ساعات من تصريحات زاخاروفا، في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) في موسكو، جاء فيه “إن الولايات المتحدة تريد أن ترى إجراء انتخابات حرة ونزيهة بطريقة سلمية بما يتماشى مع تطلعات شعب بنغلاديش. ولدعم هذا الهدف المشترك المتمثل في إجراء انتخابات حرة ونزيهة بطريقة سلمية، ينخرط موظفو السفارة الأمريكية، وسيواصلون التعامل مع الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني وأصحاب المصلحة الآخرين؛ لحثهم على العمل معًا لصالح الشعب البنغلاديشي، علمًا بأن واشنطن لا تدعم أي حزب سياسي في بنغلاديش، ولا تفضل حزبًا سياسيًّا على آخر”.
وتتمتع بنغلاديش أيضًا بصداقة طويلة الأمد مع روسيا؛ فخلال حرب التحرير، دافع الاتحاد السوفيتي عن بنغلاديش، وكان من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة المستقلة حديثًا عام 1972. ومع ذلك، فإن أول زيارة لمسؤول روسي كبير إلى بنغلاديش تمت فقط خلال عام 2023، عندما زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف داكا. وفي أبريل (نسيان) 2023، اتفقت دكا وموسكو على استخدام اليوان الصيني لتسوية الدفع. وقد تسلّمت بنغلاديش أولى شحنات اليورانيوم الروسي في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وفي مايو (أيار) 2023، قالت الشيخة حسينة رئيس الوزراء البنغالية إن بلادها مستعدة لشراء النفط الروسي إذا عُرض بسعر في المتناول.
أعلنت رابطة عوامي، وهي أقدم وأكبر حزب سياسي في البلاد، وأُنشئت عام 1949 بديلًا للرابطة الإسلامية التي تهيمن عليها باكستان الغربية، برنامجها الانتخابي، وقد ضمت الرابطة قوى القومية البنغالية في حرب الاستقلال، ومنذ عام 1981 يقود الحزب رئيسة الوزراء الحالية الشيخة حسينة، والمرشحة الحالية، التي تواجه معارضة قوية من الحزب الوطني البنغلاديشي الذي تأسس عام 1978، وفاز في الانتخابات عام 1984، وترأسته خالدة ضياء، وكانت رئيسة وزراء بنغلاديش من 1991 إلى 1996، ومن 2001 إلى 2006، لكن الآن سُجن معظم قادته، ومِن المتوقع أن يقاطع التصويت.
خلال فترات حُكم الشيخة حسينة من عام 1996 إلى عام 2001، ومن عام 2008 إلى الآن، أعادت العلمانية مبدأً في الدستور، وحاربت الإسلام المتطرف، وعملت على الحفاظ على مُعدلات نمو عالية، وأكدت المادة الـ25 في دستور بنغلاديش، حيث الالتزام بتعزيز السلام والأمن والتضامن الدولي. غالبًا ما يُسلَّط الضوء على عبارة أول رئيس لبنغلاديش الشيخ مجيب الرحمن “الصداقة مع الجميع، لا عداء لأحد” بوصفها أساس السياسة الخارجية للبلاد (ضُمِّنَت هذه العبارة في الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال السنة الدولية للحوار كضمانة للسلام 2023).
وتتعهد الشيخة حسينة بأنها ستبني صداقة قوية مع روسيا لتوسيع قطاع الطاقة في البلاد إذا أعيد انتخابها، حيث تواجه بنغلاديش عجزًا في الطاقة، ويتعاون البلدان في قطاع الطاقة منذ السبعينيات. ولا تزال محطات الطاقة التي أُنشئت بمساعدة السوفيت تنتج نحو (20%) من إجمالي الكهرباء في بنغلاديش. وتطمح دكا أن تتمكن “روساتوم” الروسية، من خلال استخدام التقنيات الذكية والآمنة، من مساعدتها على تحقيق أمن الطاقة من خلال تطوير قطاع الطاقة لديها. وتهدف الشيخة حسينة أيضًا إلى استقرار أسعار الكهرباء، وتقليل اعتماد بنغلاديش على توليد الطاقة العالي التكلفة؛ بالاعتماد على الوقود المستورد.
ومنذ عام 2012، تحفر شركة غازبروم الروسية، مع شركة النفط والغاز البنغلاديشية، عشر آبار للغاز، وأظهرت الاختبارات أن الحد الأقصى لإجمالي إنتاج الآبار بلغ (5.1) مليون متر مكعب من الغاز يوميًّا، وهو ما يعادل (16.8%) من حجم الإنتاج المتوقع، و(7.5%) من إجمالي الإنتاج في البلاد. وفي عام 2015، وقعت شركة غازبروم عقودًا جديدة مع الحكومة البنغالية لحفر خمس آبار جديدة، ونُفِّذَت العقود بالفعل، ومع الأخذ في الحسبان الطلب المتزايد على الطاقة في بنغلاديش، تخطط شركة غازبروم لزيادة التعاون في مجال استخراج الغاز. ومن المقرر أن تفتتح الشركة الروسية مكتب تمثيل لها في بنغلاديش قريبًا، في حين تتولى شركة (Inter RAO-Engineering) الروسية إجراء إصلاحات، وتحديث محطة كهرباء غوراسال (210 ميجاوات).
هناك قطاع رئيس آخر يتزايد فيه التعاون الروسي- البنغلاديشي، يتعلق بتكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني. ويجتذب سوق تكنولوجيا المعلومات المزدهر في دكا شركات المعلومات والاتصالات الروسية، خصوصًا (Kaspersky)، التي تستحوذ على حصة سوقية واسعة حصريًّا في صناعة تكنولوجيا المعلومات في بنغلاديش، وتوفر خدمات أمن تكنولوجيا المعلومات للمنازل، والشركات الصغيرة والمؤسسات، ولديها قاعدة كبيرة من العملاء.
وقد وصل عدد من قطع البحرية الروسية من أسطول المحيط الهادي إلى ميناء تشاتوجرام الرئيس في بنغلاديش أواخر عام 2023، في أول زيارة من نوعها منذ أكثر من 50 عامًا. ويأتي وصول السفن الحربية الروسية إلى ميناء تشاتوجرام وسط توترات سياسية متزايدة بين حكومة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة والولايات المتحدة؛ إذ اتهمت حسينة إدارة بايدن بالتدخل في العملية السياسية الداخلية في بنغلاديش من خلال فرض قيود على التأشيرات، والتهديد بفرض عقوبات على المسؤولين البنغلاديشيين الحاليين.
انتقدت الولايات المتحدة- باستمرار- حكومة حسينة بسبب تصرفاتها ضد المتظاهرين المعارضين، الذين طالبوا بتنحي رئيسة الوزراء، وتشكيل حكومة تصريف أعمال قبل الانتخابات. وفي الماضي، مارست الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضًا ضغوطًا على حكومة بنغلاديش للمضي قدمًا في إعدام الأشخاص الذين أدينوا بارتكاب جرائم حرب عام 1971. وقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في عهد الرئيس جو بايدن عقوبات على كتيبة قوات خاصة بنغلاديشية، وهي قوة شبه عسكرية من النخبة تشارك في عمليات ضد المتشددين الإسلاميين، بالإضافة إلى ضباط حاليين وسابقين؛ بتهمة انتهاك حقوق الإنسان.
وكانت الولايات المتحدة قد وصفت انتخابات 2014، التي فاز بها حزب رابطة عوامي، بأنها زائفة، ورفضت الاعتراف بها، ولم تفعل ذلك إلا بعد مرور عدة أشهر، في حين قدمت روسيا والصين والهند التهنئة بعد إعلان نتائج الانتخابات. وحدث الشيء نفسه عندما فازت الشيخة حسينة بالانتخابات عام 2019. وقالت الولايات المتحدة إن الانتخابات شابتها “مخالفات”، لكن روسيا والصين والهند سارعت إلى تهنئة الشيخة حسينة على ولايتها الجديدة.
الآن، تُحاول الولايات المتحدة الحفاظ على شراكة مع بنغلاديش، بما في ذلك الدعم في شكل مساعدات تنموية، وإغاثة إنسانية، وتعاون أمني. وتسعى واشنطن أيضًا إلى الحفاظ على الاستقرار والديمقراطية في بنغلاديش بوصفها شريكًا مهمًا في منطقة جنوب آسيا، التي لها أهمية إستراتيجية للمصالح الأمريكية. وتهدف الولايات المتحدة إلى التخفيف من وجود الصين المتزايد وتأثيرها في بنغلاديش، وخاصة في مجالات البنية التحتية، والطاقة.
وقد جددت الولايات المتحدة أيضاً تركيزها على بنغلاديش في إطار إستراتيجية المحيطين الهندي والهادي المنطقة، وشهدت السنوات القليلة الماضية نموًا ملحوظًا في التجارة الثنائية، من نحو 8 مليارات دولار أمريكي عام 2018 إلى 14 مليار دولار أمريكي عام 2022. وتعد الولايات المتحدة ثاني أكبر سوق للمنتجات البنغلاديشية بعد الاتحاد الأوروبي. خلال جائحة (كوفيد- 19) قدمت الولايات المتحدة أكثر من 100 مليون جرعة لقاح لبنغلاديش. وتعد دكا أكبر مُتلقٍ للمساعدات الأمريكية في آسيا، في حين تنظر الصين إلى بنغلاديش على أنها عنصر بالغ الأهمية ضمن إستراتيجية “سلسلة اللآلئ”، التي تسعى من خلالها إلى تعزيز قدرتها على الوصول إلى موارد الطاقة والأسواق من خلال إنشاء شبكة من المواني والبنية الأساسية حول محيط المحيط الهندي. وتسعى بكين- بنشاط- إلى تحقيق هدف تقويض هيمنة الهند ونفوذها السائد في منطقة جنوب آسيا من خلال إقامة علاقات دبلوماسية أقوى مع بنغلاديش. ومنذ عام 2015، أصبحت بنغلاديش المركز الرئيس للاتصال البحري والبري بين المحيط الهندي والمقاطعات غير الساحلية في الصين، وجزءًا من مبادرة الحزام والطريق، وجزءًا من الممر الاقتصادي بين بنغلاديش والصين والهند وميانمار(BCIM).
وقد أكد البيان الانتخابي أن حكومة رابطة عوامي سوف تستمر في تعزيز علاقاتها مع الصين، أكبر شريك تجاري، فيما يتعلق بتمويل التنمية، وأن بنغلاديش ستتعاون مع الدول الإسلامية في قضايا الأمن، ومكافحة الإرهاب. وشدد البيان على مواصلة تعزيز المعاملات المالية في إطار منظمة التعاون الإسلامي، وتعزيز العلاقات مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) من أجل “التنمية والنمو المتبادلين”. وتهدف بنغلاديش إلى الحفاظ على موقف محايد في المواجهة الجيوسياسية بين الدول الكبرى، مع إعطاء الأولوية لمصالحها الوطنية، وأهدافها التنموية. وقد عبرت الشيخة حسينة عن التزامها بالحفاظ على سيادتها واستقلالها، وهي عازمة على التصدي لأي تدخل أو نفوذ أجنبي في شؤون بلادها الداخلية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.