يطرح اعتقال أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول -أكبر مدينة تركية- في مداهمة فجر الأسبوع الماضي، تساؤلات عدة عن طبيعة السياق الحاكم لقرار الحكومة التركية، والمحفزات المحلية والإقليمية والدولية وراء عملية الاعتقال، فضلًا عن الرسائل التي ينطوي عليها توقيت القرار بوصفه نقطة تحول في تاريخ المعارضة التركية، ولعل السؤال الأبرز يتمثل في: هل ينجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إعادة تشكيل معادلة المعارضة التركية؟ وهل تستطيع المعارضة انتهاز الفرصة السياسية التي تحملها تداعيات القرار من أجل تغيير مستقبل المشهد السياسي التركي؟
جاء اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو قبل أيام قليلة من انتخابه مرشحًا رئاسيًّا عن حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيس للحزب الحاكم، حيث برز إمام أوغلو منافسًا قويًّا لهيمنة أردوغان السياسية بعد فوزه في انتخابات بلدية إسطنبول عام ٢٠١٩، وإعادة انتخابه عام ٢٠٢٤، واعتُبرت انتصاراته انتكاسة كبيرة لحزب العدالة والتنمية، نظرًا إلى أهمية إسطنبول السياسية والاقتصادية الكبيرة لأي رئيس تركي.
في الأشهر التي سبقت اعتقاله، كثّف إمام أوغلو انتقاداته لنظام أردوغان، إلى أن احتجزته السلطات التركية في 19 مارس (آذار) الجاري بتهم الفساد والرشوة وغسل الأموال، واتهمه مكتب المدعي العام في إسطنبول بـإنشاء وإدارة منظمة إجرامية، وتلقي الرشا، والابتزاز، وتسجيل البيانات الشخصية تسجيلًا غير قانوني، ولم تقتصر التهم الموجهة إليه على الفساد المالي؛ بل اتهمه النظام بالتورط في دعم الإرهاب من خلال مساعدة حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا وحلفاؤها منظمة إرهابية. وإلى جانب إمام أوغلو، اعتُقل أيضًا أكثر من 100 شخص، بينهم صحفيون ورجال أعمال، على خلفية اتهامات سياسية ومالية.
وفي 23 مارس (آذار) الحالي اعتُقل إمام أوغلو رسميًّا بعد صدور أمر من المحكمة، قضى بإبقائه في السجن في انتظار نتيجة المحاكمة بتهم الفساد الموجهة إليه، كما أُقيل رسميًّا من منصبه، رئيس بلدية أكبر مدينة في تركيا، في اليوم نفسه الذي انتُخب فيه مرشحًا رئاسيًّا رسميًّا عن حزب الشعب الجمهوري، وهو ما دفع إلى تظاهرات واسعة النطاق تندد باعتقال إمام أوغلو، وتراه انتهاكًا جديدًا للنظام التركي؛ لذا فرض مكتب محافظ إسطنبول حظرًا على التجمعات العامة أربعة أيام، ونشر قوات الأمن في المواقع الرئيسة، وتمركزت شرطة مكافحة الشغب لمنع الوصول إلى بعض المناطق، مما أدى إلى اشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين، ورغم هذه الإجراءات، واصل عشرات الآلاف التظاهر، لا سيما حول مكاتب بلدية إسطنبول؛ لمواجهة ما سمّاه الرئيس التركي “إرهاب الشوارع”.
ولتفنيد ملامح القرار التركي يجب استعراضه في أكثر من سياق؛ فمن السياق القانوني يأتي اعتقال إمام أوغلو عقب سلسلة طويلة من الهجمات القانونية، فمنذ توليه منصبه عام ٢٠١٩، واجه أكثر من ٩٠ تحقيقًا، تراوحت بين اتهامات بالفساد والرشوة، كان نتيجتها إلقاء القبض عليه واتخاذ إجراءات فعلية للتحقيق في تلك التهم، ولعل أردوغان يطمح من خلال إقالة رئيس بلدية إسطنبول قبل ثلاث سنوات من الانتخابات أن يُخفف حدة رد الفعل الشعبي ضد القرار، فبينما سيُسبب الغضب الشعبي والالتفاف حول إمام أوغلو بعض المشكلات لحزب العدالة والتنمية على المدى القصير، فإن الحزب يأمل أن يتلاشى هذا الغضب مع مرور الوقت. فضلًا عن هذا، يهدف القرار الاستباقي إلى تثبيط عزيمة شخصيات المعارضة القوية عن الترشح للرئاسة، فإذا نجح حزب العدالة والتنمية في إقصاء إمام أوغلو من المنافسة، فسينذر هذا أي منافس جديد من مواجهة عواقب مماثلة.
بينما ينظر إلى القرار في سياق سياسي على أنه خطوة واضحة لإبعاد أحد المنافسين الرئيسين عن السباق الرئاسي المقبل، فإن حكومة العدالة والتنمية ترفض الاتهامات بأن الإجراءات القانونية ضد شخصيات المعارضة ذات دوافع سياسية، وتصر على أن المحاكم التركية تعمل على نحو مستقل، مع أن أردوغان ألمح قبل أيام إلى أن أسباب ما يتعرض له إمام أوغلو ترتبط بالدعاوى والتحقيقات القضائية التي حركها أفراد من حزبه المعارض، كما أن الاعتقال المتزامن لأكثر من 100 من زملاء رئيس البلدية في عملية واسعة النطاق يُظهر -بوضوح- أن الحملة لا تقتصر عليه وحده؛ بل تهدف إلى تفكيك شبكته السياسية بكاملها، ويأتي ذلك في أعقاب اعتقالات سابقة لرؤساء بلديات مناطق تابعة لحزب الشعب الجمهوري.
خلال الأسبوع الماضي، صدرت أوامر اعتقال بحق إمام أوغلو وأكثر من 100 شخص آخر، من بينهم مسؤولون بلديون، ورئيس شركة الإنشاءات التابعة له، وهو ما يحمل دلالات دقيقة يمكن فهمها على أكثر من صعيد، تتمثل في:
على الصعيد المحلي: لم يكن توقيت اعتقال إمام أوغلو مصادفةً؛ إذ كانت الظروف المحلية مواتيةً لحزب العدالة والتنمية لتنفيذ حملته القمعية بأقل عواقب، حيث أثار قرار حزب الشعب الجمهوري المُبكر بإعلان إمام أوغلو مرشحًا للحزب قلقًا داخل الحزب الحاكم، وإدراكًا منه أن زخمه السياسي سيزداد في السنوات التي تسبق انتخابات 2028؛ لذا تحرك حزب العدالة والتنمية بسرعة، إذ إن تحركه الآن -قبل أن يتمكن إمام أوغلو من تعزيز قاعدته الشعبية- يكشف عن مدى خوفه من ترشحه، ومن ثم اعتُبر قرار الاعتقال يهدف إلى منع إمام أوغلو من الترشح رسميًّا للرئاسة خلال الانتخابات التمهيدية لحزب الشعب الجمهوري، ولأن من شأن هذا الالتفاف حول إمام أوغلو أن يُعزز شرعيته بوصفه مرشح المعارضة الرئيس، مما يُوفر له حصانة ضمنية ضد الاضطهاد السياسي.
على الصعيد الإقليمي: مثل قرار اعتقال إمام أوغلو خطوة مدروسة تهدف إلى القضاء على إحدى أكثر الشخصيات المعارضة شعبية في البلاد، وإرسال رسالة واضحة إلى كل من يجرؤ على تحدي حزب العدالة والتنمية الحاكم في ظل البيئة الإقليمية الداعمة لهذا التحرك، إذ اكتسبت تركيا قوة إقليمية من جراء التطورات التي شهدتها الساحة السورية بعد النجاح في إسقاط نظام الأسد، والتي أسفرت عن تزايد ملحوظ في الأهمية الإستراتيجية لتركيا، فبعد انهيار نظام الأسد وطرد إيران من مناطق توغلها التقليدية، عززت أنقرة نفوذها في المنطقة، خاصةً بعد موقفها الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني بعد عملية طوفان الأقصى؛ ومن ثم أصبحت فاعلًا محوريًّا في الإطار الأمني الأوسع للشرق الأوسط.
على الصعيد الدولي: خلقت عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مناخًا آمنًا لأردوغان، حيث يشير تاريخ ترمب في غض الطرف عن الاعتبارات الديمقراطية إلى أن واشنطن لن تعترض على تصرفات تركيا، إذ تُعطي الأولوية للمخاوف الجيوسياسية على حقوق الإنسان، ومع احتمال اندلاع صراع مع إيران، فمن غير المرجح أن تخاطر واشنطن بتنفير أنقرة بسبب اعتقال زعيم المعارضة، إذ إن نهج ترمب تجاه تركيا قائم على المصالح التجارية والعسكرية؛ ومن ثم يُنظر إلى أردوغان على أنه حليف موثوق به يُمكن الاعتماد عليه لدعم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وخاصةً في سوريا.
ومع احتمال انسحاب الولايات المتحدة من الأمن الأوروبي، أصبحت تركيا -ثاني أكبر جيش في حلف الناتو– أكثر أهمية في الموقف الدفاعي الأوروبي؛ لذا قد لا تتمكن حكومات الاتحاد الأوروبي، التي تكافح بالفعل لإعادة صياغة إستراتيجياتها الأمنية في أعقاب الحرب في أوكرانيا، من محاربة تركيا. وبينما أصدرت بعض الدول الأوروبية بيانات تُعرب عن قلقها، فمن المرجح أن تتردد في فرض عواقب حقيقية؛ ما يمنح حزب العدالة والتنمية ثقة أكبر في قدرته على التصرف دون عواقب وخيمة.
يمكن الوقوف على عدة انعكاسات للقرار التركي ترتبط -أولًا- بنشوب تظاهرات عارمة بدأت من أمام مبنى بلدية إسطنبول، حيث أُلقيت الشماريخ والحجارة على الشرطة، أما في أنقرة فقد استخدمت الشرطة خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين، ومع تزايد الاحتجاجات في الجامعات والمدن والبلدات في أنحاء تركيا، اعتقلت السلطات التركية آلاف المتظاهرين، وحجبت مئات الحسابات التابعة للمعارضة على مواقع التواصل الاجتماعي، وانقطع تطبيق واتساب في بعض المدن التركية، وامتنعت وسائل الإعلام الموالية للحكومة عن تغطية الاحتجاجات في الشوارع.
ثانيًا: تحول تعامل المعارضة مع القرار إلى ما هو أبعد من الاحتجاجات؛ ففي غضون أيام، احتشد المتظاهرون حتى في معاقل المحافظين، مثل مدينة ريزة مسقط رأس أردوغان، حول مطالب تحقيق الديمقراطية وإنقاذ القانون؛ ما اعتُبر ردًا على الضغط المتراكم على مر السنوات الماضية التي عانى فيها الأتراك أزمة اقتصادية طاحنة، وارتفاعًا حادًا في تكاليف المعيشة، فضلًا عن مشكلات التعليم والنظام الصحي. ثالثًا: قد يخدم قرار اعتقال إمام أوغلو في تحويله إلى بطل قومي، فالضغط لإسقاط الحزب الحاكم لإمام أوغلو أتى بنتائج لصالحه، بل قد ينظر إليه الآن على أنه سبيل للنجاة من سيطرة أردوغان على سلطة البلاد، وقد يطمح إمام أوغلو بمصير مشابه لمصير أردوغان الذي سُجن فترة وجيزة في التسعينيات عندما كان رئيسًا لبلدية إسطنبول؛ مما عزّز ترشحه للرئاسة. وفي أعقاب نقل إمام أوغلو إلى سجن سيلفري، أعلنه حزب الشعب الجمهوري مرشحًا رئاسيًّا بعدد أصوات تجاوز عددها 14 مليونًا و850 ألف صوت.
ورابعًا: حمل القرار ردود فعل محلية ودولية محل جدل، حيث قوبل القرار بانتقادات لسياسيين من مختلف التوجهات، من بينهم حلفاء سابقون لأردوغان، إذ وصف أحمد داوود أوغلو، الذي شغل منصبي وزير الخارجية ورئيس الوزراء في عهد أردوغان، الاعتقال بأنه أكبر عار وفضيحة للنظام التركي. وعلى نحو مماثل، حذر فاتح أربكان، زعيم حزب الرفاه الإسلامي الجديد -الذي كان جزءًا من اتفاق انتخابي مع أردوغان عام 2023- من أن تقويض العدالة والاستقرار يؤثر في الاقتصاد التركي، في حين كانت الإدانات الخارجية ضعيفة إزاء القرار، واكتفت الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، رغم عدائها الحالي الكبير لتركيا، بالإعراب عن قلقها من جراء تطور الأحداث، وصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، تامي بروس، بأن واشنطن لن تُعلق على عمليات صنع القرار الداخلي في أي دولة أخرى. ولكن رغم رد الفعل الدولي المتجاهل لسطوة تركيا، كان رد الفعل الاقتصادي أوضح؛ إذ تشير التقديرات إلى أن البنك المركزي التركي أنفق مبلغًا قياسيًّا بنحو 11.5 مليار دولار لدعم الليرة في اليوم التالي لاعتقال إمام أوغلو، مع هروب المستثمرين، وانخفاض قيمة العملة.
يتوقف مستقبل المعارضة التركية على كيفية تعاملها مع الفرصة السياسية المتاحة، إذ تتطلب اللحظة الراهنة تحركًا عاجلًا ومنسقًا من المعارضة، وأن تنجح في تحويل استياء الرأي العام إلى عمل سياسي منظم، إذ ستكون الاحتجاجات الجماهيرية والطعون القانونية والجهود الشعبية أساسية في مواجهة حزب العدالة والتنمية، لا سيما أن دقة هذه المرحلة تتمثل في اعتماد المعارضة التركية على المقومات الداخلية نظرًا إلى ضعف الاستجابة الدولية لخطوات أردوغان الأخيرة، والأهمية الإستراتيجية لتركيا في محيطها الإقليمي، التي تفرض على القوى الخارجية تحسبًا في علاقاتها مع المعارضة التركية.
وفي ظل الدفع بسيناريو الانتخابات المبكرة، يجب الإشارة إلى أن الدستور التركي يحدد مدة الرئاسة بفترتين، إذ تنتهي ولاية أردوغان الأخيرة -وفقًا للدستور- في عام 2028، لكن إذا دعا البرلمان إلى إجراء انتخابات مبكرة، فيمكن لأردوغان الترشح قانونيًّا مرة أخرى قبل إنهاء ولايته الثانية، وهو ما يسعى أردوغان إلى الوصول إليه من خلال خطواته، على غرار التصالح مع الأكراد، والتهدئة مع العدو التقليدي للنظام التركي -حزب العمال الكردستاني- وضمان الدعم الإقليمي والدولي، ومؤخرًا إثارة المعارضة التركية بقرار اعتقال إمام أوغلو؛ المرشح الأبرز لمنافسة أردوغان، خاصة أن إمام أوغلو فاز في ثلاث منافسات شرسة لإدارة أكبر مدينة في تركيا، وتمكن حزب الشعب الجمهوري العام الماضي من قلب كثير من المناطق التقليدية في إسطنبول التي اعتبرها أردوغان معاقل موثوقة لحزب العدالة والتنمية.
بيد أن الوصول إلى انتخابات مبكرة يحمل لحزب الشعب الجمهوري إشكاليتين؛ الأولى ترتبط بالحصول على 360 صوتًا في البرلمان التركي، وهو ما لا يملكه الحزب وفقًا لتصريحات رئيسه أوزغور أوزيل قبل أشهر، في حين تتعلق الإشكالية الثانية بأن الهيئة العليا للانتخابات في تركيا لن تعترف بإمام أوغلو مرشحًا رئاسيًّا لأنه لا يستوفي الشروط المطلوبة فيما يتعلق بحيازة شهادة جامعية بعد أن سحبت جامعة إسطنبول الإجازة الجامعية من إمام أوغلو قبل يوم واحد من اعتقاله، وهو ما يفرض على حزب الشعب الجمهوري دراسة اختيار بديل آخر لإمام أوغلو في أقرب وقت، لا سيما أن النظام القضائي في تركيا معروف بطول أمد إجراءاته، ما يعني أن التطورات القانونية المتعلقة بالقضية قد تمتد إلى أشهر، أو حتى سنوات.
محصلة القول أنه على مدار العقد الماضي تآكلت المؤسسات التركية تآكلًا كبيرًا، وشهدت البلاد حملات قمع ممنهجة، لا سيما في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو (تموز) 2016، وعانت أنقرة أزمات سياسية واقتصادية قاصمة، مكنت أردوغان من ترسيخ سلطته في البلاد. والآن، ومع أن المعارضة التركية ترى اعتقال إمام أوغلو لحظة حاسمة في التاريخ السياسي التركي، فإن البيئة المحلية والإقليمية والدولية لا تزال تصب في مصلحة حزب العدالة والتنمية، فإذا لم تنزلق تركيا في الفوضى بعد اعتقال إمام أوغلو، واستطاعت الحكومة التركية احتواء تداعيات الأوضاع على المستوى الداخلي والخارجي، فمن المرجح أن ينجو نظام أردوغان مرة أخرى.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.