الجبهة الثانية في الحرب الباردة الجديدة فُتِحَت بالفعل. ومن الواضح اليوم، أن الصراع في أوكرانيا، ما هو إلا الحلقة الأولى من سلسلة من الصراعات المسلحة التي ستصاحب التحول من نموذج للعلاقات الدولية إلى نموذج آخر. والآن يمكننا أن نقول- بثقة تامة- إن الشرق الأوسط قد أضيف إلى الاتجاه الأوكراني. ومع ذلك، فإن الصراع الحالي في الشرق الأوسط له خصائصه الخاصة، سواء من حيث الحجم، أو مسارح العمليات.
في الساعات الأولى من يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، شنت حماس هجومًا على إسرائيل من قطاع غزة. ونتيجة لهذه الغارة، تمكنت حماس من السيطرة على جزء من الأراضي الإسرائيلية أكبر من مساحة غزة، ولكن ليس لمدة طويلة، ثم “أعلنت إسرائيل حشد جنود الاحتياط، وشنت عملية ضد حماس، تجاوزت من حيث العنف ضد المدنيين أعمال خصومها خلال هجوم أكتوبر (تشرين الأول)”.
ولو كان جيش الدفاع الإسرائيلي قد تمكن- كما في الأيام الخوالي- من حل المشكلة سريعًا خلال حملة عسكرية عابرة، لكان من الممكن أن يظل كل ما حدث حادثًا محليًّا، لكن هذه المرة ظهرت قدرة الآلة العسكرية الإسرائيلية المحدودة؛ ما أعطى فرصة لخصومها للتدخل في الوضع. على سبيل المثال، في لبنان، أصبح حزب الله، المتحالف مع إيران، أكثر نشاطًا، وتعرضت القواعد الأمريكية في العراق وسوريا لهجمات منتظمة من خلال الطائرات الانتحارية بدون طيار، والصواريخ الباليستية. ما علاقة الولايات المتحدة بهذا؟ إنه أمر مفهوم تمامًا؛ لقد وضعت واشنطن نفسها دائمًا حليفًا رئيسًا للدولة اليهودية، وكانت أول من هب لمساعدتها بإمدادات ضخمة من الأسلحة والذخيرة فور بدء الأعمال العدائية.
وبالمناسبة، هناك نقطة استرشادية مهمة: “لولا المساعدة العسكرية الأمريكية، لما استطاعت إسرائيل القيام بعمليات عسكرية بهذا الحجم كما تجري حاليًا في قطاع غزة”، وهكذا بدأت الضربات تجاه الوجود الأمريكي، ويمكن تطبيقها أيضًا على الأهداف الأمريكية الأخرى في الشرق الأوسط. لقد فُتحت الجبهة الثانية المناهضة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط بعد أوكرانيا، ولكن في خريف العام الماضي كان حجمها لا يزال غير واضح. كانت المشكلة الرئيسة لإدارة بايدن هي الحاجة إلى تنويع إمدادات الأسلحة والذخائر: “الآن لا بد من تقسيمها بنسبة معينة بين أوكرانيا وإسرائيل، وكانت الأخيرة- على عكس الأولى- أولوية واضحة”.
ومع ذلك، استمر التصعيد في منطقة الشرق الأوسط في النمو. وبينما كان الجميع ينتظر تدخلًا أكثر فاعلية في أحداث حزب الله، وفتح جبهة شمالية في الصراع بين إسرائيل وحماس، وقعت أحداث خطيرة في الجنوب. وأعلن الحوثيون، الذين يسيطرون على جزء من الأراضي اليمنية، بدء عمل عسكري لدعم المقاومة المناهضة لإسرائيل، وتمثل ذلك في بدء قواتهم المسلحة مهاجمة أي سفن مرتبطة بإسرائيل (أي المتجهة إلى المواني الإسرائيلية المملوكة للدولة اليهودية، أو التابعة لها بأي شكل من الأشكال) بالقرب من الساحل اليمني.
وفي سياق حرب إسرائيل على حماس، سعت طهران إلى إضعاف موقف الدولة اليهودية وراعيتها الولايات المتحدة قدر الإمكان. ولم يكن حزب الله اللبناني مناسبًا لتحقيق هذا الهدف، وكان سقف عمله يتلخص في إبقاء الحدود الشمالية لإسرائيل في حالة من الترقب، لكن الحوثيين، الذين يسيطرون على جنوب غرب اليمن، يتوافقون تمامًا مع الخطط الإيرانية. وهكذا أعلنت قيادة جماعة أنصار الله “الحوثيين” بدء الجهاد ضد الدولة اليهودية، وهو ما يعني- من الناحية العملية- محاولات لتعقيد التجارة الإسرائيلية.
كان لدى الحوثيين كل الفرص للقيام بذلك، ما عليك سوى إلقاء نظرة على الخريطة: “يمر أحد شرايين الشحن الدولية الرئيسة عبر البحر الأحمر، وهو في الواقع عبارة عن زجاجة ذات عنقين ضيقين، أحدها هو مضيق باب المندب ذو الأهمية الإستراتيجية، الذي تغطيه الصواريخ والطائرات بدون طيار الحوثيية”. وتبع ذلك هجمات على السفن الإسرائيلية، أو المرتبطة بإسرائيل، في منطقة المضيق، وفي البحر الأحمر، وخليج عدن، وحتى في المحيط الهندي الشاسع. لقد هاجموا جميع الأهداف التي سمح لهم نطاق الصواريخ الباليستية بالوصول إليها.
كان هذا يعني لإسرائيل اضطرابات تجارية خطيرة؛ إذ انخفضت حركة المرور في ميناء إيلات الإسرائيلي على البحر الأحمر. كما عانت مواني الدولة اليهودية على البحر الأبيض المتوسط، حيث بدأت كثير من السفن المتوجهة في اتجاهها بتغيير الطريق القصير عبر قناة السويس إلى طريق أطول حول إفريقيا. أما الولايات المتحدة فأطلقت- من أجل دعم حليفتها- في يناير (كانون الثاني) من هذا العام، عملية بحرية في البحر الأحمر، تحت اسم “حارس الازدهار”، وجمعت تحالفًا يتكون منها ومن بريطانيا العظمى، وكندا، وهولندا، واليونان، وإسبانيا، والنرويج، وإيطاليا، وأستراليا، وسريلانكا، وسيشيل، وكذلك البحرين (الدولة العربية الوحيدة في هذا التحالف).
حاول التحالف في البداية صد الهجمات على السفن التجارية التي هاجمها الحوثيون، لكنه سرعان ما اتخذ قرارًا بشن هجمات صاروخية على مواقعهم في اليمن. خلاصة القول هي أن الحوثيين في اليمن تسببوا في أضرار جسيمة لحركة التجارة الدولية في منطقة البحر الأحمر، وأصبح هذا الوضع مصدر قلق لإدارة بايدن أكثر من حرب إسرائيل على حماس في قطاع غزة؛ لأن التجارة العالمية، وخاصة الاتصالات البحرية، هي بقرة مقدسة للولايات المتحدة، وللغرب الجماعي عامةً. لكن الأمر لم يقتصر على توجيه ضربة إلى التجارة الدولية؛ لأنه بالإضافة إلى قطاع غزة والحوثيين، انفتح اتجاه آخر للمواجهة في العراق وسوريا. وبتعبير أدق، تعرضت القواعد العسكرية الأمريكية في هذه البلدان لإطلاق النار. في الوقت نفسه، استُهدفت قاعدة عين الأسد العسكرية الأمريكية في محافظة الأنبار العراقية غربي البلاد، التي شنت إيران ذات يوم ضربة صاروخية واسعة النطاق فيها في يناير (كانون الثاني) 2020، انتقامًا لمقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي، الجنرال قاسم سليماني. في سوريا، تكرر الأمر، وصولًا إلى قاعدة في الأردن.
لكن الآن، ليست إيران هي التي تهاجم؛ بل مجموعات شيعية مختلفة، وطهران نفسها تنفي- نفيًا قاطعًا- تورطها فيما يحدث، مدّعية أن المهاجمين أنفسهم يختارون الأهداف دون التنسيق معها. وبالفعل، لماذا تخاطر إيران بالاشتباك المباشر مع الولايات المتحدة إذا كان لديها مجموعة كاملة من الأدوات المستقلة شكليًّا، والمؤيدة لإيران، تحت تصرفها في العراق وسوريا؟
وهكذا، فإن الجبهة الثانية للحرب الباردة الجديدة، المفتوحة في الشرق الأوسط، تنقسم حتى الآن إلى ثلاثة مكونات؛ أولًا: مقاومة حماس في قطاع غزة، التي تجبر الولايات المتحدة على تقديم المساعدة لإسرائيل، وصرف انتباهها عن أوكرانيا. ثانيًا: هجمات الحوثيين اليمنيين الصاروخية، التي تشكل تهديدًا لتجارة الدولة اليهودية، وتشكل الآن تهديدًا للغرب بشكل عام، وتتطلب أيضًا نوعًا من رد الفعل من واشنطن. ثالثًا: الهجمات المستمرة من الجماعات الشيعية على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا. الآن كل ما تبقى هو أن نلاحظ- بعناية- كيف “ستُفَرَّغ” الجبهة الثانية بالضبط. إن حقيقة أن الأحداث في الشرق الأوسط ستؤدي إلى مزيد من التصعيد، هي حقيقة لا شك فيها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.