إستراتيجيات عسكريةتقارير

بحر البلطيق.. ألغام أوروبية “لتطويق” ميراث بطرس الأكبر


  • 9 ديسمبر 2023

شارك الموضوع

وسط انشغال العالم بتفاصيل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، اتخذت 10 دول من شمال أوروبا خطوة “غير مسبوقة”، و”عدائية جدًّا” ضد روسيا؛ عندما قررت هذه الدول العشر- بداية من شهر ديسمبر (كانون الأول) الجاري- نشر 20 سفينة حربية في بحر البلطيق، الذي لا تزيد مساحته على 377 كم، وتطل عليه 9 دول؛ هي لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، وبولندا، وألمانيا، وفنلندا، والسويد، والدنمارك، بالإضافة إلى روسيا التي لها وجهتان على بحر البلطيق، هما سانت بطرسبورغ، وجيب كالينينغراد.

واستندت الدول العشر التي تنتمي إلى “قوة التدخل السريع” في شمال أوروبا بقيادة بريطانيا، وتضم الدنمارك، وإستونيا، وفنلندا، وأيسلندا، ولاتفيا، وليتوانيا، وهولندا، والنرويج، والسويد، استندت إلى ما يسمى “تفعيل البند الدفاعي” في ميثاق تأسيس “قوة التدخل السريع المشتركة” لنشر هذه السفن العسكرية في بحر البلطيق؛ ردًا على ما تعدّه ” خطرًا جديدًا” تعرضت له البنية التحتية المائية الحيوية للدول العشر تحت مياه بحر البلطيق، والمقصود “بالبنية تحت- المائية” الحيوية هي كابلات الإنترنت، وخطوط نقل الغاز والنفط التي تقول الدول العشر إنها تضررت كثيرًا في الآونة الأخيرة، وسبق للدول العشر أن أغلقت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، خطًا لنقل الغاز تحت مياه البلطيق، وكانت الاتهامات كلها في ذلك الوقت موجهة إلى روسيا، إلى أن تبين في النهاية، من خلال تحقيق للشرطة الفنلندية، أن التسريب جاء بسبب حادث وقع لسفينة تجارية صينية في بحر البلطيق.

ويضيف قرار نشر سفن حربية من الدول العشر تعقيدات كثيرة إلى المعادلات الجيوسياسية التي ظلت تحكم “بحر البلطيق” منذ عقود، بل منذ قرون طويلة، فالسويد وفنلندا مثلًا فقدتا حيادهما في الآونة الأخيرة منذ انضمام فنلندا إلى حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)  في 4 أبريل (نيسان) الماضي، ولم يتبق للسويد التي ظلت محايدة منذ عام 1815 إلا خطوات قليلة لتنضم إلى الحلف الأطلسي.

ومن تلك التعقيدات أن قرار الدول العشر ليس موجهًا- بشكل رئيسٍ- إلى روسيا وأسطول بحر الشمال الروسي الذي يتخذ من بحر البلطيق مقرًا له فحسب؛ بل لأن أحاديث كثيرة لوزراء دفاع  “قوة التدخل السريع المشركة” لشمال أوربا، كشفت عن نية المجموعة نشر طائرات حربية، وزوارق سريعة في بحر البلطيق، الذي ظل منذ نهاية الحرب الباردة من أكثر الأقاليم الجيوسياسية هدوءًا وسلامًا في أوروبا. ومع أن البيان الختامي لاجتماع وزراء دفاع “قوة التدخل السريع المشتركة”، الذي عقد في العاصمة السويدية استوكهولم في 28 نوفمبر (كانون الثاني) الماضي، لم يتحدث عن نوعية الأخطار الأمنية الجديدة، أو أن الخطوة موجهة توجيهًا مباشرًا إلى روسيا، فإن وزير الدفاع السويدي بال جونسون قال- بوضوح- إن الهدف من هذه الخطوات الجديدة أمران؛ الأول هو حماية البنية التحتية تحت مياه بحر البلطيق للدول الأوربية العشر، والثاني هو توجيه رسالة إلى روسيا بأن هذه الدول قادرة على حماية مصالحها وبنيتها التحتية في البلطيق. فما بحر البلطيق ؟ وما الأهمية الجيواستراتيجية التي يتمتع بها ؟ وهل نشر السفن والطائرات العسكرية من دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بحر البلطيق يعد بمنزلة “ألغام جديدة” تقرب المواجهة الغربية مع روسيا في بحر البلطيق، بعد المواجهة في البحر الأسود التي بدأت مع الحرب الروسية الأوكرانية؟

البحر المسوس

يطلق على بحر البلطيق “البحر المسوس”، والبحار المسوسة هي البحار التي تتميز مياهها بأنها “وسط” بين المياه العذبة والمياه المالحة، لكن أكثر ما يميز سواحل بحر البلطيق، التي تصل إلى نحو 8 آلاف كم، أنها صالحة لبناء أحواض السفن والمواني العملاقة؛ لهذا ليس غريبًا أن يوجد عليها أكثر المواني والعواصم الأوروبية، منها- على سبيل المثال- كوبنهاغن عاصمة الدنمارك، وهلسنكي عاصمة فنلندا، واستوكهولم عاصمة السويد، وتالين عاصمة إستونيا، وريغا عاصمة لاتفيا.

الجميع ضد روسيا في البلطيق

كان بحر البلطيق- حتى نهاية التسعينيات- يمكن أن يطلق عليه “البحر السوفيتي”؛ لأن جمهوريات سوفيتية كثيرة كانت تطل عليه، مثل جمهوريات بحر البلطيق الثلاث ليتوانيا، وإستونيا، ولاتفيا، بالإضافة إلى بولندا وألمانيا الشرقية، ومع حياد كل من السويد وفنلندا في ذلك الوقت، كان الطابع الغالب على بحر البلطيق هو “النمط السوفيتي”، مع غلبة عسكرية واضحة لأسطول “بحر الشمال” السوفيتي.

 ومنذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، تحول بحر البلطيق تدريجيًّا ناحية “حلف الناتو”، فاليوم لا توجد دولة في البلطيق لا تنتمي إلى الحلف بعد أن انضمت بولندا إليه في 12 مارس (آذار) 1999، وانضمت لاتفيا وإستونيا وليتونيا إلى الحلف في 29 مارس (آذار) 2004، وفنلندا في 4 أبريل (نيسان) 2023، والسويد في طريقها إلى الانضمام، وسبقت الدنمارك الجميع إلى الحلف في 24 أغسطس (آب) 1949، كما أن ألمانيا الشرقية لحقت بألمانيا الغربية بعد الوحدة، حيث انضمت ألمانيا الغربية إلى “الناتو” منذ 8 مايو (أيار) 1955، لكن الأخطر لروسيا أن بحر البلطيق يضم أكثر 4 دول عداوة للاتحاد الروسي في الوقت الحالي، وتشكل معًا “قاعدة متقدمة” ضد روسيا، وهي بولندا، وليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا، كما أن الحدود المشتركة بين روسيا و”الناتو” زادت منذ انضمام فنلندا إلى حلف الناتو، وباتت الحدود الروسية مع فنلندا 1300 كم، بالإضافة إلى الحدود السابقة مع “الناتو” عبر دول البلطيق لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، التي تمتد إلى 1270 كم.

ألغام إضافية

أصبح بحر البلطيق من أكثر مناطق العالم ازدحامًا بالمعدات والسفن والطائرات العسكرية، وسوف يزيد نشر الدول العشر الأعضاء في “قوة التدخل السريع المشتركة” تعقيدات المشهد العسكري والإستراتيجي في بحر البلطيق، فكل سفينة حربية جديدة، أو طائرة عسكرية، أو طائرة مسيرة، سوف تكون “مساحة احتكاك” جديدة بين روسيا ودول البلطيق، كما أن هذه الخطوة من جانب “قوة التدخل السريع” سوف يقابلها رد روسي يتناسب مع زيادة العتاد العسكري للناتو على حدودها، وترى موسكو أنها المتضررة من سلوك دول الناتو بقيادة الولايات المتحدة، خاصة بعد تفجير خطى “نورد ستريم 1″، و”نورد ستريم 2″، في شهر سبتمبر (أيلول) 2022، وذكر تحقيق للصحفي الأمريكي الاستقصائي الشهير سيمور هيرش أن الولايات المتحدة ودولًا أوروبية هي التي فجرت “نورد سترم 1 و2″، فالخط الأول كان ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويًّا إلى أوروبا، في حين كان الخط الثاني، الذي تكلف نحو 11 مليار دولار، وينقل أيضًا 55  مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا، كان ينتظر فقط الترخيص من مؤسسات الاتحاد الأوروبي لبدء العمل قبل أن توقفه الحرب الروسية الأوكرانية.

مشاهد جديدة

مع انضمام كل دول البلطيق إلى حلف “الناتو”، ومع قرار نشر مزيد من العتاد العسكري “لقوة التدخل السريع المشتركة” في بحر البلطيق، سنكون أمام مشاهد جديدة، وهي:

أولًا: التوتر هو العنوان  

تعتزم دول البلطيق الأعضاء في حلف الناتو القيام بسلسلة من المناورات العسكرية السنوية في بحر البلطيق، مثل مناورة “نورثرن كوستس “، أي السواحل الشمالية، وتشارك فيها سنويًّا نحو 14 دولة من حلف الناتو، كما أضاف الحلف بحر البلطيق إلى مناطق “المناورات السنوية” الضخمة المعروفة باسم “الدفاع الجوي”، التي تشارك فيها نحو 250 طائرة، بالإضافة إلى القاذفات الأمريكية الإستراتيجية “بي 52″، وطائرات الجيل الخامس “إف 35″، وما يزيد على 10 آلاف جندي أطلسي، كما دشنت دول بحر البلطيق مزيدًا من أشكال التعاون العسكري ضد روسيا، منها “الاتفاقية العسكرية” التي وقعتها السويد مع الدنمارك والنرويج في 21 سبتمبر ( أيلول) 2021 ضمن ما يسمى “اتفاقيات الدفاع عن البلطيق”، وكل هذا سوف يحول بحر البلطيق إلى ساحة للتوتر الدائم بين روسيا وحلف الناتو.

ثانيًا: ممر للدعم اللوجستي

تسعى الولايات المتحدة- من خلال هذه الدول العشر الأعضاء في “قوة التدخل السريع المشتركة”- إلى تحويل  بحر البلطيق مع بحر الشمال، وصولًا إلى شمال المحيط الأطلنطي، إلى “ممر لوجستي” يصل من الولايات المتحدة وكندا غربًا حتى الحدود الروسية شرقًا، وكان لافتًا مشاركة أيسلندا وبريطانيا، “البعيدتين جغرافيًّا” عن بحر البلطيق، في نشر قوات البلطيق، لكن بيان وزراء دفاع “قوة التدخل السريع المشركة” ربط بين بحر البلطيق والمحيط الأطلسي.

ثالثًا: حزام من النار حول الأجزاء الروسية الأوروبية

تعمل الولايات المتحدة وحلف الناتو على تشكيل “حزام من النار” حول الأجزاء الأوروبية من روسيا، فالحدود المشتركة بين الناتو وروسيا تصل إلى نحو 2500 كم، تنتشر بالقرب منها جميع أشكال القواعد العسكرية الأطلسية بعد أن زادت واشنطن عدد قواتها في أوروبا إلى نحو 100 ألف جندي، لكن قرار “قوة التدخل السريع المشتركة” يهدف أيضًا إلى “مراقبة مقاطعة كالينينغراد ” عبر “جزيرة جوتلاند” التي لا تبعد عن كالينينغراد  سوى 290 كم.

رابعًا: ممر سوالكي  

زيادة حدة التوتر بين روسيا من جانب و4 دول مطلة على البلطيق من جانب آخر حول “ممر سوالكي” الإستراتيجي، والدول الأربع هي بولندا، ولاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا؛ لأن “ممر سوالكي” الذي يفصل بين دول بحر البلطيق الثلاث لاتفيا وإستونيا وليتوانيا شمالًا، وبولندا جنوبًا، وفي الوقت نفسه يصل الأراضي الروسية بمقاطعة كالينينغراد على بحر البلطيق، يراه كل من الطرفين “منطقة رخوة” للطرف الآخر، فدول بحر البلطيق الثلاث مع بولندا حاولت إغلاق الممر، وخنق كالينينغراد، لكن الرد الروسي الصارم دفعها إلى التراجع، كما أن سيطرة روسيا على هذا الممر من خلال حليفتها بيلاروس يمكن أن يعزل دول بحر البلطيق الثلاث عن حلف الناتو، فضلًا عن أن منطقة كالينينغراد  التي تبعد عن روسيا بنحو 300 كم هي أكثر المقاطعات غرب روسيا ازدحامًا بكل الأسلحة الإستراتيجية، سواء التقليدية أو النووية.

الرد الروسي

في ظل الانتصارات الروسية الأخيرة في شرق أوكرانيا، وفشل الهجوم الأوكراني المضاد منذ 4 يونيو (حزيران) الماضي، وفي ظل ما تتمتع به روسيا من إمكانات عسكرية ولوجستية ضخمة، يمكن أن يأخذ الرد الروسي الأشكال التالية:

1-  بناء فرقة عسكرية كاملة في أقصى غرب البلاد، يكون مركزها في جمهورية كاريلا، التي لا تبعد كثيرًا عن فنلندا. وبناء مناطق عسكرية جديدة يشكل استجابة روسية مهمة للتحديات الحالية غرب البلاد، خاصة في مناطق موسكو ولينينغراد، وهناك تقديرات تقول إن روسيا تستعد لبناء نحو 12 قاعدة عسكرية جديدة غرب البلاد.

2- دعم أسطول بحر الشمال الروسي حتى يستطيع مواجهة التحديات الجديدة في بحر البلطيق. ولدى أسطول بحر الشمال في الوقت الحالي نحو 30 غواصة، ونحو 45 سفينة حربية، وما يزيد على 100 طائرة هي الأحدث في الترسانة العسكرية الروسية، بالإضافة إلى المخازن الضخمة للرؤوس النووية التي خُزنت في المنطقة الغربية للبلاد.

3- تعزيز القوات الروسية في شبه جزيرة كولا؛ حتى تستطيع القوات الروسية أن تستفيد منها في أي صراع للوصول إلى بحر الشمال،  ومنع وصول الإمدادات الغربية إلى دول البلطيق. ومعروف أن شبه جزيرة كولا فيها عدد كبير من الغواصات النووية، والصواريخ “فرط الصوتية”، مثل صواريخ “كينغال”، وصواريخ “إسكندر إم” المحمولة، ذات القدرة النووية، بالإضافة الى ميناء بليسيتسك الفضائي، الذي تُخزَّن فيه الصواريخ الباليستية النووية الحرارية.

المؤكد أن روسيا سوف تتعامل- بشكل خاص- مع نشر “قوة التدخل السريع المشتركة” سفنًا وطائرات حربية جديدة في بحر البلطيق، ليس فقط لأن الواجهات الروسية على بحر البلطيق ظلت رمزًا للحضور والتأثير الروسي في المشهد الأوروبي منذ القرن السابع عشر؛ بل أيضًا لأن بحر البلطيق له رمزية خاصة لدى القيادة الروسية، والرئيس فلاديمير بوتن المولود في سانت بطرسبورغ على بحر البلطيق، وهو الرئيس المغرم  بعظمة “بطرس الأكبر” صانع النهضة، وصاحب الانتصارات التاريخية على السويد، تلك الانتصارات التي خلدت الوجود الروسي في بحر البلطيق.

ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع