إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

“بالتوبس”.. هل تفجر بحر البلطيق؟


  • 4 يونيو 2025

شارك الموضوع

يحبس مواطنو 9 دول أوروبية تطل على بحر البلطيق أنفاسهم في شهر يونيو (حزيران) الجاري، ويعود السبب في ذلك إلى أنه لأول مرة منذ عام 1971، تتزامن المناورات البحرية التي يجريها الجيش الروسي في بحر البلطيق مع المناورات البحرية الضخمة التي تجريها دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بقيادة الولايات المتحدة، والتي يُطلق عليها “بالتوبس”، أو “عمليات البلطيق” (BALTOPS – Baltic Operations).

وتخشى شعوب هذه الدول صدامًا عسكريًّا بين روسيا ودول بحر البلطيق، الذي تبلغ مساحته 377 ألف كيلومتر مربع، ويصل طول سواحله إلى نحو 8000 كيلومتر، وظل بحيرةً للسلام منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، لكن مع توسع حلف الأطلسي شرقًا، تحول في الآونة الأخيرة إلى ساحة “للاحتكاك الجيوسياسي”، و”الازدحام العسكري”، حيث ترابط في مياهه عشرات الغواصات والقطع الحربية التي تتبع روسيا من جانب، و8 دول في حلف “الناتو” هي ألمانيا وبولندا والسويد وفنلندا والدنمارك ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا من جانب آخر. وتطل روسيا عبر واجهتين بحريتين هما ساحل مدينة سانت بطرسبورغ، وجيب كالينينغراد المنفصل عن الأراضي الروسية.

وبالفعل بدأت روسيا مناوراتها البحرية في 27 مايو (أيار) الماضي، وتستمر حتى هذا الشهر؛ بغرض حماية سواحلها، ومنع أي هجوم غربي على كالينينغراد، عبر حشدها أكثر من 20 سفينة روسية مع زوارق حربية سريعة، وسفن دعم، بالإضافة إلى نحو ثلاثة آلاف جندي، و25 طائرة ومروحية، و70 وحدة من المعدات العسكرية. ويقوم التدريب الأساسي للقوات الروسية على مهام مثل مكافحة نشاط الغواصات المعادية، والدفاع ضد الزوارق المسيرة، وإجراء رمايات مدفعية على أهداف بحرية وجوية، ومتابعة تحركات “القوات البحرية للناتو”، حيث تعتقد موسكو أن أطرافًا غربية هي التي فجرت ودمرت خطي نقل الغاز الروسي “نورد ستريم 1، و2” أسفل مياه البلطيق في 26 سبتمبر (أيلول) 2022.

بالتزامن مع المناورات الروسية، تبدأ في يونيو (حزيران) الجاري مناورات “بالتوبس” التي يجريها حلف “الناتو” بقيادة البحرية الأمريكية، والتي يشارك فيها عدد غير مسبوق من السفن الحربية والغواصات والزوارق المسيرة في “رسالة ردع” لروسيا، كما قالت البحرية الأمريكية، لكن مناورات “بالتوبس” بهذا الحجم تدعم -على نحو مباشر وغير مباشر- “الرواية الروسية” التي تقول إن جذور المشكلة مع أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا والبحر الأسود وبحر البلطيق وبحر الشمال هي توسع “حلف الأطلسي” شرقًا تجاه الأراضي الروسية، والتوسع من 16 دولة عند انهيار جدار برلين عام 1989 إلى 32 دولة بعد انضمام دولتين من دول البلطيق “للناتو” هما فنلندا في 4 أبريل (نيسان) 2023، والسويد في 7 مارس (آذار) 2024.

فهل يحدث صدام عسكري بين روسيا وقوات “الناتو” المشاركة في مناورات “بالتوبس”؟ وما مصالح روسيا والغرب في بحر البلطيق؟ وهل يمكن أن يعود بحر البلطيق من جديد بحيرةً للتعاون والسلام، ويكون ممرًا للغاز والتنمية والازدهار في شمال أوروبا؟

برميل بارود

ترى كل من روسيا والغرب أهمية استثنائية لبحر البلطيق؛ لأن عواصم ومواني أوروبية مهمة تطل على البلطيق، أبرزها ستوكهولم عاصمة السويد، وهلسنكي عاصمة فنلندا، وريجا عاصمة لاتفيا، وميناء غدانسك البولندي الشهير. وتنظر روسيا إلى بحر البلطيق بنظرة خاصة؛ لأن بعد تأسيس الإمبراطور بطرس الأكبر مدينة سانت بطرسبورغ، أصبحت روسيا تطل على بحر أوروبي، وأصبحت دولة أوروبية. وشكل البلطيق طوال القرون الأربعة الماضية جسرًا للتجارة والتعاون ونقل الغاز والنفط والكهرباء واليورانيوم والفحم الروسي من حقول سيبيريا إلى قلب أوروبا ووسطها، وكان يُنظر دائمًا إلى بحر البلطيق في العقيدة السياسية الروسية على أنه أسهم في تحويل روسيا من “دولة إقليمية كبرى” إلى “دولة عظمى” ضمن الكبار في العالم.

ورغم أهمية البلطيق لروسيا والغرب، فإن الخلافات بين الطرفين تهدد بتحول “البلطيق” إلى “برميل بارود” يمكن أن يشعل كل أوروبا؛ ولهذا تأخذ الخلافات الروسية الأوروبية مجموعة من المسارات، هي:

 أولًا- تكديس السلاح

تشهد المنطقة المحيطة ببحر البلطيق “تكديسًا وتخزينًا للسلاح” على نحو غير مسبوق. وتتحدث المخابرات الألمانية والبريطانية عن إنشاء روسيا عددًا من القواعد والفرق العسكرية في المدن الغربية الروسية القريبة من بحر البلطيق، الذي له مكانة خاصة لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي ولد وعاش وترعرع في سانت بطرسبورغ التي تطل على البلطيق. كما تتهم الدول الغربية روسيا بأنها استحدثت فرقة عسكرية كاملة غرب روسيا منذ انضمام فنلندا والسويد إلى حلف “الناتو”.

لكن في الوقت نفسه، زادت كل الدول “الأطلسية” المطلة على بحر البلطيق ميزانياتها العسكرية، وعقدت صفقات سلاح بالمليارات لشراء السلاح الأمريكي، حيث وصل معدل الإنفاق العسكري في دول مثل بولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا إلى نحو 4% من الناتج القومي، وبدأت دول في “حلف الناتو” بإنشاء قواعد عسكرية جديدة بالقرب من الأراضي الروسية، منها القاعدة العسكرية الألمانية التي افتتحها المستشار الألماني فريديش ميرتس في مايو (أيار) الماضي، وتضم 4800 عسكري، و200 مدني ألماني، بتكلفة تصل إلى مليار يورو، وتصبح أكبر منشأة عسكرية في ليتوانيا.

ووفق بيان لوزارة الدفاع الأمريكية، وصل عدد القوات الأمريكية في أوروبا إلى أكثر من 100 ألف جندي بنهاية العام الماضي، منهم نحو 65% في الجناح الشرقي والشمال الشرقي “للحلف الأطلسي”. وسواء في أثناء المناورات أو خلال فصول السنة العادية، فإن السفن العسكرية الأمريكية الضخمة تزور مواني دول البلطيق، فلا يمر عام دون أن تأتي السفينة الأمريكية البرمائية العملاقة “كيرسارج” إلى المنطقة، وهو ما يجعل “الحبل العسكري” مشدودًا في المنطقة على مدار العام.

ثانيًا- نهاية زمن الحياد

بانضمام السويد وفنلندا إلى “حلف الناتو”، انتهى “زمن الحياد في بحر البلطيق”، فالسويد حافظت على حيادها لنحو 200 عام منذ نهاية الحروب النابليونية عام 1815 حتى انضمامها إلى “الناتو” العام الماضي. كما أن فنلندا ظلت دولة محايدة منذ آخر حروبها مع الاتحاد السوفيتي السابق في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1939، التي أُطلق عليها “حرب الشتاء”، أو “حرب السجق”، وأصبحت فنلندا عضوًا كاملًا في حلف الأطلسي منذ أبريل (نيسان) 2023، وهو ما حوّل بحر البلطيق إلى منطقة استقطاب سياسي وعسكري غير مسبوق، حيث تقف جميع دول بحر البلطيق بلا استثناء ضد روسيا، ودون أن يكون هناك دولة أو دولتان على الحياد كما كان قبل 2023.

ويشكل هذا تحديًا كبيرًا لكل من روسيا والدول الغربية على السواء؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة -من خلال مناورات “بالتوبس”- إلى تأكيد أن بحر البلطيق “بحيرة أطلسية”، تأتي روسيا وتقول إنها موجودة عبر أسطولها الضخم الذي يرسو على ساحل سانت بطرسبورغ ومقاطعة كالينينغراد، وهو ما يعني أن الحدود البحرية الروسية جميعها في تماس مع المياه الأطلسية في بحر البلطيق.

ثالثًا- المناطق الرخوة

أكثر الحوافز التي يمكن أن تؤدي إلى خطأ في الحسابات، والدخول في مغامرات غير محسوبة، هو اعتقاد الطرفين الروسي والأطلسي أن لدى الطرف الآخر “منطقة رخوة” يمكن النفاذ إليها، أو الضغط بها، فكل الأسلحة الروسية التي نشرتها موسكو في مقاطعة كالينينغراد تستطيع الوصول بسهولة كاملة، وربما بسيطرة ميدانية في وقت قليل، إلى “جزيرة غوتلاند” السويدية التي لا تبعد عن ساحل كالينينغراد سوى 290 كيلومترًا، وتنشر موسكو أمام الساحل الروسي في كالينينغراد غواصات نووية، وسفنًا حربية، وصواريخ أسرع من الصوت، وصواريخ “إسكندر- إم”.

على الجانب الآخر، تقوم حسابات “الناتو” على أن “جيب كالينينغراد” هو المنطقة الروسية “الرخوة”، وكثيرًا ما تكشف مواقف الحلف أنه سيسعى إلى السيطرة على كالينينغراد في أول رد فعل له إذا جاء أي تحرك عسكري روسي ضد دول البلطيق الثلاث: ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا؛ ولهذا سيعمل الناتو من خلال “مناورات بالتوبس” على التأكد من مراقبة الأنشطة الروسية في كالينينغراد ومتابعتها من خلال مراكز المراقبة التي وضعها من قبل في “جزيرة جوتلاند” السويدية.

وتعتمد حسابات “الناتو” بشأن ضعف وضعية روسيا الإستراتيجية في مقاطعة كالينينغراد على أن كالينينغراد معزولة عن الأراضي الروسية بنحو 310 كيلومترات، ويحتاج القطار الروسي للوصول إليها إلى نحو 22 ساعة، ويربطها فقط “ممر سوالكي” الذي يفصل بين بولندا ودول بحر البلطيق الثلاث، وجميعها أعضاء في الناتو.

في ظل المناورات التي يجريها الطرفان الروسي والغربي، فإن كل المعطيات تقول إن أول شرارة يمكن أن تنطلق بين روسيا والناتو قد تأتي من بحر البلطيق؛ ولهذا يجب على الطرفين أن يعودا من جديد إلى “تبريد الصراعات”، و”تهدئة التوترات” في بحر البلطيق من خلال “حوار إستراتيجي” جديد يأخذ مصالح الطرفين في الحسبان، وينزع فتيل أزمة لن يتحملها العالم، ولعل الجهود نحو وقف الحرب الروسية الأوكرانية هي خير مقدمة لنزع هذا الفتيل في بحر البلطيق.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع