تُلحق حملة مقاطعة عالمية متعددة الجوانب، تمتد من السلع الاستهلاكية إلى الصادرات الزراعية ومبيعات الأسلحة والتعاون الأكاديمي، ضررًا اقتصاديًّا جسيمًا ومستمرًا بإسرائيل. وقد تطورت هذه الحركة، التي تُقاد بسبب الصرخة الدولية الغاضبة إزاء الحرب على غزة، من نشاط استهلاكي شعبي إلى عقوبات حكومية رسمية، مما أدى إلى إغلاق الأعمال، وانخفاض حاد في الصادرات، وعزلة دبلوماسية غير مسبوقة للاقتصاد الإسرائيلي.
نضجت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS)، التي أُطلقتها رسميًّا في عام 2005 أكثر من 170 منظمة فلسطينية، لتصبح قوة اقتصادية فاعلة، وكانت في البداية أداة رمزية ضد سياسات الاستعمار، لكن قوتها تكمن الآن في الخسائر المالية الملموسة التي تُلحقها بالشركات العالمية، والاقتصاد الإسرائيلي. ولم تعد الشركات الدولية الكبرى تتجاهل هذا الضغط؛ فلأول مرة، تذكر عمالقة مثل “كوكا كولا” و”ستاربكس” -صراحةً- “المقاطعة” بوصفها خطرًا ماديًّا في تقاريرها المالية السنوية، مُعترفة بالتأثير المباشر في أرباحها النهائية.
وكانت تداعيات ذلك على الشركات واسعة النطاق:
– أغلقت “ستاربكس” 400 فرع في الولايات المتحدة بسبب ضعف المبيعات المرتبط بالمقاطعة.
– خرجت “كارفور” من السوق الأردنية، وأغلقت ثلاثة فروع في عمّان.
– أغلقت “إنديتكس” (زارا) 188 متجرًا في العالم وسط انخفاض المبيعات.
– أعلنت شركة “كوكا كولا” انخفاضًا كبيرًا في المبيعات بنسبة 10% في جميع أنحاء الشرق الأوسط في الربع الرابع من عام 2023.
وخلق هذا الضغط الذي يقوده المستهلكون تأثيرًا مثبّطًا، حيث وجّه تجار التجزئة في جميع أنحاء العالم الموردين -على نحو غير معلن- إلى تجنب البضائع الإسرائيلية؛ خوفًا من رد فعل الجمهور.
لا يظهر التأثير في أي مكان أكثر حدّة مما يظهر في قطاع التصدير الزراعي الإسرائيلي، الذي يواجه مقاطعة صامتة لكنها فعالة في جميع أنحاء أوروبا- أكبر أسواقه. وتفصّل تقارير من “يديعوت أحرونوت” والمصدرين الإسرائيليين تحولًا دراماتيكيًّا:
– شهدت ألمانيا، الحليف التاريخي التقليدي، وأكبر سوق للبطاطس الإسرائيلية، انعكاسًا حادًّا في المشاعر، فقد توقفت عملاقة التجزئة “ألدي” -على نحو غير رسمي- عن شراء البضائع الإسرائيلية أكثر من ستة أسابيع، حيث أشار المعلّبون إلى صعوبة بيع المنتجات الموسومة بـ”صُنع في إسرائيل”.
– أعلنت سلاسل تعاونية في إيطاليا والمملكة المتحدة -علنًا- وقف مبيعات المنتجات الإسرائيلية. وفي خطوة رمزية، بدأت التعاونية الإيطالية (Co-op Italy) بيع “غزة كولا”، مع توجيه العائدات لإعادة بناء مستشفى في غزة.
– أغلقت بلجيكا والسويد والنرويج وإيرلندا أسواقها فعليًّا. فالنرويج لم تستورد كيلوغرامًا واحدًا من البضائع الإسرائيلية العام الماضي، وأدّى التطبيق الصارم لقوانين الاتحاد الأوروبي الخاصة بوضع بطاقات تعريف منشأ المنتجات في بلجيكا إلى رفض المستهلكين لمنتجات إسرائيل عن قصد.
– تُبلغ اليابان عن حساسية متزايدة، حيث أصبح الزبائن حذرين من تسلُّم شحنات إسرائيلية.
ويشير يانيف يابلونكا، الرئيس التنفيذي لشركة التصدير “يابرونوت”، إلى أن معظم تجار التجزئة يتجنبون الإعلانات العامة، لكنهم يوجهون المعلّبين بشكل خاص قائلين: “لا تُحضر لنا بضائع إسرائيلية. احضرها من المغرب أو مصر”. وقد أجبرت هذه المقاطعة الصامتة المصدرين على إلغاء العقود وطلبات البذور، مما يُلقي بظلال الشك على جدوى مواسم الزراعة المستقبلية.
تركز المقاطعة -على نحو خاص- على البضائع المنتجة في المستوطنات الإسرائيلية، التي تراها محكمة العدل الدولية غير قانونية بموجب القانون الدولي، استنادًا إلى حُكم صادر عام 2004 يستشهد باتفاقية جنيف. وكان لهذا التركيز تأثير شديد:
– انخفضت الصادرات الزراعية من المستوطنات بنسبة تقارب 50%.
– أُغلِق ما يُقدّر بنحو 70 منشأة اقتصادية في مستوطنات الضفة الغربية، مما كلّف 10,000 عامل وظائفهم.
– في خطوة تاريخية، أصبحت إيرلندا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تسنّ قانونًا يحظر جميع الواردات من المستوطنات، وهي ضربة دبلوماسية كبيرة.
وحاولت إسرائيل اتخاذ إجراءات مضادة، منها إنشاء صندوق حكومي بقيمة 100 مليون شيكل لمُحاربة حركة BDS، وإعادة تسمية منتجات المستوطنات لإخفاء منشئها. ومع ذلك، فإن هذه الجهود تواجه صعوبة في مواجهة جبهة دولية منسقة.
تصاعدت الحركة إلى ما هو أبعد من النشاط الاستهلاكي لتشمل عقوبات حكومية رسمية، مما ضاعف الأزمة الاقتصادية:
مبيعات الأسلحة: علّق حلفاء أوروبيون رئيسون الصادرات العسكرية، فأوقفت ألمانيا -ثاني أكبر مورد للأسلحة لإسرائيل- شحن المعدات التي يمكن استخدامها في غزة. وطبّقت إسبانيا وبلجيكا وهولندا قيودًا مماثلة أو حظرًا صريحًا.
الاتفاقيات التجارية: علّقت المملكة المتحدة المحادثات التجارية الحرة مع إسرائيل، وهي المرة الأولى التي يكون الدافع فيها أسبابًا إنسانية. يواجه الاتحاد الأوروبي دعوات متزايدة لمراجعة اتفاقية الشراكة الشاملة مع إسرائيل، التي سهّلت تبادلًا تجاريًّا بقيمة 46.8 مليار يورو في عام 2022.
التعريفات الجمركية الأمريكية: في نكسة اقتصادية كبيرة، انسحبت الولايات المتحدة من المفاوضات بشأن التعريفات التفضيلية، وأعلنت -بدلًا من ذلك- فرض تعريفات جمركية جديدة بنسبة 15% على الصادرات الإسرائيلية، مما زاد من اختلال التوازن التجاري القائم.
سحب الاستثمارات الأكاديمي والمالي: تحرّك الاتحاد الأوروبي لتعليق مشاركة إسرائيل جزئيًّا في برنامج أبحاث “هورايزون أوروبا”. يراجع صندوق الثروة السيادية النرويجي الضخم (بقيمة تريليوني دولار) استثماراته الإسرائيلية على أساس أخلاقي، وقد سحب بالفعل استثماراته من عدة شركات مرتبطة بالمستوطنات.
يسهم التأثير التراكمي لهذه الضغوط في انكماش اقتصادي أوسع. وانكمش الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل بنسبة 3.5% في الربع الثالث من عام 2023، حيث انخفض إنتاج قطاع الأعمال بنسبة 6.2% وانخفض الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 4.1%. وقد خفضت وزارة المالية توقعات نموها لعام 2025 إلى 3.1%.
محليًّا، تدق الشركات الإسرائيلية ناقوس الخطر. ويشير المديرون التنفيذيون إلى أن مقاطعة فلسطينية موازية للبضائع الإسرائيلية داخل الضفة الغربية وقطاع غزة -وهي سوق تبلغ قيمتها نحو مليار شيكل سنويًا- تتسبب في خسائر كبيرة. ومع كون 70% من الغذاء في المناطق الفلسطينية قادمًا من إسرائيل، تخلق المقاطعة مفارقة اعتماد مؤلمة للطرفين.
إن تكلفة الحرب نفسها، التي قدّرها وزير المالية بيزاليل سموتريتش بـ 87.5 مليار دولار، مُجتمعة مع هذه الموجة غير المسبوقة من الضغط الاقتصادي الدولي، تُشكّل تهديدًا أساسيًّا للاستقرار الاقتصادي لإسرائيل. وكما حذّر أحد المصدرين الإسرائيليين، فإن استمرار توسع حركات المقاطعة يعد بتعميق هذه الخسائر وتكثيف العزلة العالمية لإسرائيل.
ووفقًا لوزارة السياحة الإسرائيلية، انخفضت أعداد الوافدين السياحيين بأكثر من 90% منذ بداية الحرب على غزة. وأفادت هيئة البث العامة “كان” بأن الخسائر المباشرة وغير المباشرة في قطاع السياحة تجاوزت 3.4 مليار دولار.
قبل الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة، قالت السلطات الإسرائيلية إن نحو 900,000 أمريكي يزورون إسرائيل سنويًّا، وكان نحو نصفهم -حسبما ورد- في رحلة حج مسيحية. وعلى الرغم من عدم توافر بيانات محددة، يُعتقد أن معظمهم كانوا من الإنجيليين.
لُقبت إسرائيل بدولة الفصل العنصري (أبارتهايد). وكان لجنوب إفريقيا تاريخ طويل مع نظام الفصل العنصري، الذي أُلغي بالمقاطعات التي أصبحت في النهاية عالمية.
في عام 1991، رفع الرئيس بوش جميع العقوبات والحظر والمقاطعات ضد التعامل مع جنوب إفريقيا. وكان هذا الإجراء ردًا على إلغاء الحكومة الجنوب إفريقية لقوانين الفصل العنصري، وإطلاق سراح نيلسون مانديلا.
كانت المقاطعات الدولية وحركة مناهضة الفصل العنصري الأوسع عاملًا مهمًّا في إجبار جنوب إفريقيا على إنهاء نظام الفصل العنصري، وأسهمت مقاطعات العزل السياسي والاقتصادي والثقافي والأكاديمي والرياضي لجنوب إفريقيا في تفكيك نظام الأبارتهايد.
في عام 1959، ناشدت مجموعة من المنفيين الجنوب إفريقيين وأنصارهم البريطانيين بمقاطعة دولية لمنتجات جنوب إفريقيا. واضطلعت المملكة المتحدة والولايات المتحدة، من بين دول أخرى، بدور كبير في الإطاحة بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وإرساء الحرية والديمقراطية هناك.
تأسست شركة “دي بيرز” للألماس في القرن التاسع عشر على يد سيسيل رودس في جنوب إفريقيا، ومثّلت جزءًا كبيرًا من تجارة التصدير في جنوب إفريقيا تحت نظام الفصل العنصري الأبيض المتعصب. كما تضررت بشدة صادرات البرتقال والتفاح. اعترف النظام أن الضغط الاقتصادي كان عاملًا رائدًا في قرار إلغاء الفصل العنصري، والتحول نحو الديمقراطية والمساواة في الحقوق لجميع المواطنين.
ثمة أمل في أن يتبع المواطنون الإسرائيليون وشركاتهم يومًا ما مسار جنوب إفريقيا، ويدركوا أن المساواة في الحقوق لجيرانهم الفلسطينيين هي أفضل للأعمال وللأمن من الاحتلال والقمع، ونظام الفصل العنصري.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.