
تدرك الدول في الألفية الثالثة أن القوة لم تعد تقاس فقط بامتلاك الأسلحة النووية، أو عدد الدبابات، أو حتى حجم الاقتصاد التقليدي، بل باتت تعتمد على السيطرة على المواد الخام التي تُشغّل الثورة التكنولوجية الرابعة والتحول الأخضر. وفي هذا السياق تبرز المعادن الحيوية (Critical Minerals) كأحد أهم مفاتيح الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، إذ تشمل الليثيوم والكوبالت والنيكل، ومعادن الأرض النادرة، والغرافيت والنحاس العالي النقاوة، وكلها عناصر لا غنى عنها في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وتوربينات الرياح، والألواح الشمسية، وأشباه الموصلات، وأنظمة الدفاع المتقدمة. وباكستان، التي ظلت عقودًا طويلة في خانة “الدولة النووية الفقيرة”، أو “الدولة الفاشلة المحتملة”، تمتلك فرصة تاريخية نادرة لقلب هذه الصورة رأسًا على عقب، ليس عن طريق المساعدات الدولية أو القروض، بل عن طريق استثمار احتياطياتها الضخمة والمُهملة من هذه المعادن الحيوية، وخاصة في إقليم بلوشستان، وجيلجت- بلتستان، والمناطق الشمالية الغربية.
يُقدر خبراء جيولوجيون أن باكستان تمتلك خامس أكبر احتياطي ذهب ونحاس في العالم في منجم ريكو ديق ببلوشستان وحده، بقيمة تقديرية تتجاوز تريليون دولار أمريكي حسب تقديرات عام 2023، إضافة إلى احتياطيات ضخمة من الليثيوم في منطقة شيغار بجيلجت- بلتستان، ومن الكوبالت والنيكل في مناطق حدودية مع أفغانستان، ومن معادن الأرض النادرة في المناطق الشمالية. وهذه الاحتياطيات ليست مجرد أرقام في تقارير جيولوجية، بل تمثل فرصة لتحويل باكستان من دولة تعتمد على الإعانات والديون إلى لاعب مركزي في سلاسل التوريد العالمية للطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة، ومن ثم إلى قوة جيوسياسية لا يمكن تجاهلها.
لكن الطريق ليس ممهدًا؛ فالمعادن الحيوية ليست مجرد سلعة اقتصادية؛ بل أصبحت سلاحًا جيوسياسيًّا يُستخدم للضغط والمساومة والتحكم. والصين التي تسيطر اليوم على أكثر من 70% من معالجة معادن الأرض النادرة، وعلى نسبة كبيرة من الكوبالت والغرافيت، تدرك جيدًا أن أي لاعب جديد يدخل هذا المضمار سيُهدد هيمنتها. وفي الوقت نفسه، تراقب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان -بقلق بالغ- أي محاولة صينية لتعزيز نفوذها في باكستان من خلال مشروعات التعدين؛ لأن ذلك سيمنح بكين نفوذًا إستراتيجيًّا على الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني (CPEC) وعلى ميناء جوادار، ومن ثم على طرق الطاقة والتجارة في المحيط الهندي.
إن باكستان تجد نفسها اليوم في قلب مثلث جيوسياسي معقد: من جهة الصين التي تريد احتكار المعادن الحيوية في باكستان كي تؤمّن سلاسل توريدها بعيدًا عن التهديدات الأمريكية في مضيق ملقا، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة التي تسعى إلى كسر الهيمنة الصينية عن طريق إستراتيجيات (Friend-shoring) و (Re-shoring)، وترى في باكستان بديلًا محتملًا للكونغو (مصدر 70% من الكوبالت العالمي) وأمريكا اللاتينية (مصادر الليثيوم). وفي المنتصف تقف الهند التي ترى أي تقارب باكستاني-صيني في مجال المعادن الحيوية تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي؛ لأنه سيمنح باكستان موارد مالية ضخمة يمكن أن تُستخدم لتعزيز قدراتها العسكرية، أو لتمويل جماعات متطرفة في نظر نيودلهي.
لكي تنجح باكستان في تحويل ثروتها المعدنية إلى قوة جيوسياسية حقيقية، يجب أن تتجاوز النموذج الاستعماري القديم القائم على تصدير المواد الخام الرخيصة، واستيراد المنتجات الباهظة الثمن، فالدول التي نجحت في هذا المجال، مثل أستراليا وكندا، لم تكتفِ ببيع الليثيوم أو النحاس الخام؛ بل طورت صناعات تحويلية محلية وشراكات إستراتيجية مع الشركات الغربية واليابانية والكورية، وفرضت شروطًا صارمة على نقل التكنولوجيا وحصص الأرباح. أما النموذج الإفريقي (جمهورية الكونغو الديمقراطية، وزامبيا، وغينيا) فهو نموذج الاستغلال والفساد والفقر المُدقع رغم الثروات الضخمة، وهو النموذج الذي تسعى الصين إلى تكراره في باكستان من خلال قروض فخاخ الديون، وعقود غير شفافة.
الفرصة الذهبية لباكستان تكمن في استغلال التنافس الأمريكي- الصيني لصالحها؛ فالولايات المتحدة أطلقت عام 2022 قانون خفض التضخم (Inflation Reduction Act) الذي يمنح إعفاءات ضريبية كبيرة للسيارات الكهربائية التي تستخدم معادن حيوية من “دول صديقة”، أو من دول لديها اتفاقيات تجارة حرة مع واشنطن. وباكستان يمكن أن تكون مرشحة قوية لهذا التصنيف إذا استثمرت في بناء علاقات إستراتيجية مع واشنطن، ومع شركات أمريكية، مثل تيسلا، وجنرال موتورز، وليفيا (في الليثيوم). وفي الوقت نفسه، يمكن لإسلام آباد أن تستفيد من الخبرة الصينية في البنية التحتية والتمويل السريع دون أن تُسلم لها كامل السيطرة على المناجم.
الخطوة الأولى تتمثل في إصلاح قطاع التعدين داخليًّا؛ فالقوانين الحالية التي تعود إلى عام 1948، واللوائح الإقليمية المتناقضة، والفساد المستشري، كلها أمور تحول دون أي استثمار جدي. ومشروع ريكو ديق نفسه ظل متعثرًا أكثر من عقدين بسبب نزاعات قضائية، ومطالب بلوشية انفصالية، ورفض المحكمة العليا عقدًا سابقًا مع شركة تشيلية- كندية. ولا يمكن لأي مستثمر عالمي أن يخاطر بمليارات الدولارات في بيئة قانونية غير مستقرة، وفي مناطق تعاني تمردًا مسلحًا؛ ومن ثم فإن أول اختبار لجدية الدولة الباكستانية هو حل هذه المعضلة من خلال قانون تعدين جديد شفاف وعادل يضمن حقوق المقاطعات، ويوزع الأرباح توزيعًا منصفًا، ويمنح المستثمرين ضمانات قانونية طويلة الأمد.
الخطوة الثانية هي التحول من تصدير المواد الخام إلى بناء سلسلة قيمة محلية، فمنجم ريكو ديق ينتج نحاسًا وذهبًا، لكن النحاس العالي النقاوة (99.99%) مطلوب بشدة في صناعة السيارات الكهربائية، وباكستان تستورد حاليًا كل احتياجاتها من النحاس المكرر. وكذلك الليثيوم الموجود في جيلجت- بلتستان يمكن تحويله محليًّا إلى هيدروكسيد الليثيوم أو كربونات الليثيوم بدلًا من تصديره خامًا إلى الصين، وهذا يتطلب شراكات إستراتيجية مع شركات كورية (مثل LG Chem وPosco)، ويابانية (مثل Panasonic)، وأوروبية (مثل Umicore البلجيكية، التي تمتلك التكنولوجيا وتبحث عن مصادر متنوعة بعيدًا عن الصين).
الخطوة الثالثة هي تحويل الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني من مجرد طريق بري وميناء إلى مركز صناعي للطاقة الخضراء، فجوادار يمكن أن يصبح مركزًا لتكرير المعادن الحيوية، وتصنيع البطاريات، وتجميع السيارات الكهربائية؛ مما سيجعل الممر هدفًا إستراتيجيًّا للغرب أيضًا، وليس للصين فقط، وهذا سيجبر واشنطن على التعامل مع باكستان بوصفها شريكًا لا يمكن تجاهله، بدلًا من اعتبارها “دولة عميلة”، أو “ملاذًا للإرهاب”.
من الناحية الأمنية، فإن الثراء المعدني قد يشكل خطرًا إذا لم يُدَر بحكمة، فتمرد بلوشستان يغذيه شعور بالتهميش والاستغلال، وأي مشروع تعديني جديد سيُنظر إليه على أنه احتلال جديد إذا لم يستفد منه السكان المحليون على نحو مباشر؛ ومن ثم فإن تخصيص نسبة كبيرة من الأرباح لتطوير البنية التحتية والتعليم والصحة في بلوشستان وجيلجت- بلتستان ليس مجرد عدالة اجتماعية؛ بل ضرورة أمنية قصوى. كما أن الجيش الباكستاني الذي يملك نفوذًا كبيرًا في هذه المناطق يجب أن يتحول من “حارس” للمشروعات إلى “شريك” في التنمية المستدامة.
على الصعيد الدولي، يمكن لباكستان أن تؤدي دور الوسيط في سوق المعادن الحيوية؛ فهي عضو في منظمة التعاون الإسلامي، ولديها علاقات تاريخية مع دول الخليج التي تبحث عن استثمارات خارج النفط، ويمكن أن تشكل تحالفًا إسلاميًّا للمعادن الحيوية، يضم إندونيسيا (أكبر منتج للنيكل)، وماليزيا، وتركيا، وباكستان نفسها؛ مما سيمنح العالم الإسلامي ثقلًا جديدًا في الجيوسياسية التكنولوجية.
في الختام، فإن باكستان تقف اليوم على مفترق طريق تاريخي؛ فإما أن تستمر في دور الدولة المتلقية للمساعدات والقروض، راهنةً مستقبلها بإملاءات صندوق النقد وشروط الصين، وإما أن تستثمر احتياطياتها من المعادن الحيوية بذكاء وسيادة لتصبح قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية لا يمكن تجاهلها. الخيار ليس اقتصاديًّا فقط؛ وإنما وجودي، فالدول التي ستسيطر على المعادن الحيوية في العقود المقبلة هي التي ستكتب قواعد النظام العالمي الجديد، وباكستان تملك كل المقومات لتكون من بين هذه الدول، شريطة أن تتحلى قيادتها بالرؤية والشجاعة والنزاهة اللازمة لتحويل الثروة المدفونة تحت الأرض إلى قوة فوق الأرض.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير