مقالات المركز

باكستان- الهند.. الصراع على الورقة الفلسطينية


  • 19 أكتوبر 2023

شارك الموضوع

منذ يوم 7 أكتوبر(تشرين الأول) يقوم الجيش الإسرائيلي بعملية عسكرية واسعة النطاق، قد يتبعها اجتياح بري لقطاع غزة الفلسطيني؛ ردًّا على هجوم مفاجئ وناجح قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على جنوب إسرائيل، خلف أكثر مِن ألف قتيل، ومئات الأسرى والمصابين. وقد دعمت واشنطن الخطط الإسرائيلية دعمًا كاملًا، وامتنعت- بشكل خاص- عن الحث على ضبط النفس، فيما فشل مجلس الأمن في أخذ قرار يقضي بوقف إطلاق النار. 

وسط تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، أبدت باكستان دعمها لفلسطين، ودعت إلى “وقف الأعمال العدائية”، وقالت وزارة الخارجية الباكستانية- في بيان صحفي- “إننا ندعو المجتمع الدولي إلى العمل معًا من أجل وقف الأعمال العدائية، وحماية المدنيين، وإحلال السلام الدائم في الشرق الأوسط”. وأكد البيان الرسمي كذلك أن باكستان دعت باستمرار إلى حل الدولتين، باعتباره مفتاح السلام الدائم في الشرق الأوسط، مع حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية يرتكز على القانون الدولي، ويتماشى مع قرارات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وقرارات منظمة المؤتمر الإسلامي، حيث ينبغي إنشاء دولة فلسطين ذات السيادة والمتصلة أراضيها على أساس حدود ما قبل عام 1967، وعاصمتها “القدس”.

تُلقي الحرب الحالية على قطاع غزة الضوء على وجهات النظر المختلفة بين الهند وباكستان بشأن إسرائيل، حيث أصبحت الهند بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا القومي مُتعاطفة- تعاطفًا مطلقًا- مع إسرائيل، في حين ترفض باكستان الاعتراف بإسرائيل، لا سيما أن إحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية لإسلام آباد هي الدفاع عن إقليم كشمير، المتنازع عليه مع نيودلهي، ذي الأغلبية المسلمة؛ ما يجعل دعم فلسطين ورقة حشد دبلوماسي متوقع للبلدان العربية والإسلامية خلف باكستان في أي صدام سياسي أو عسكري مع الهند.

التزمت الهند- عقودًا طويلة- بالدفاع عن القضية الفلسطينية، حيث كان قرار التقسيم ونشوء دولة إسرائيل عام 1948 يُنظر إليه على أنه فعل استعماري من بقايا الإمبراطورية البريطانية، وأصبحت فلسطين على رأس أولويات حركة عدم الانحياز التي أسستها الهند، ومصر، وبعض البلدان التي تحررت من الاستعمار في حقبة الخمسينيات والستينيات وما تلاها، وقد استغلت نيودلهي التعاطف الإسلامي والعربي الكبير مع القدس لاحتواء دعمهم المتوقع لباكستان، ونشأت علاقة سياسية قوية خلال مطلع السبعينيات بين رئيسة الوزراء أنديرا غاندي وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في محاولة مِن غاندي (ابنة- جواهر لال نهرو أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز) لتخفيف الآثار السلبية لهزيمة باكستان في حرب عام 1971، وإنشاء دولة بنغلاديش.

وبالرغم من الصورة العلمانية للهند، فإن القضية الفلسطينية بدأت تخرج عن طابعها اليساري، وشعار الاستقلال، وسقوط الاستعمار، ورمزية تبني الهندوس والمسلمين لقضية عادلة كدليل على التعايش، وتأخذ بُعدًا دينيًّا بأنها قضية تشكل الصراع بين المسلمين وغير المسلمين (هندوس أو يهود)، مع أن الحكومات الهندية المتعاقبة ما قبل رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي كانت حريصة على عدم إغضاب الأقلية المسلمة الوازنة في الهند، التي تمثل نحو 15% مِن ناخبي البلاد، كما شكّل الأمن القومي الهندي بُعدًا آخر في تبني قضية فلسطين؛ فهناك تصور دائم عن إمكانية أن تستغل باكستان غضب المسلمين الهنود من أي تصرف فيه ازدراء أو تجاهل لإحدى القضايا الجوهرية لهم، التي تتعلق أكثر بالقدس الشريف كأحد المقدسات ودور العبادة الإسلامية، وتشحن الشارع الإسلامي ضد نيودلهي.

استخدمت باكستان الهوية الإسلامية كأحد أسلحتها للصراع مع الهند، لكن مواقفها مِن فلسطين تاريخيًّا لم تكن داعمة باستمرار، حيث قاد الجنرال محمد ضياء الحق فرقة باكستانية حاربت المُنظمات الفلسطينية داخل الأردن عام 1970، فيما عُرفت بأحداث أيلول الأسود، التي نتج عنها رحيل هذه الفصائل عن الأراضي الأردنية، وعدم استخدامها في مقاومتهم ضد إسرائيل. وسبق ذلك خلال الخمسينيات أن أصبحت إسلام آباد عضوًا في حلف بغداد الأمريكي (مع إيران، وتركيا، والعراق) لاحتواء الخطر الشيوعي المتمدد؛ ما جعل البلدان القومية العربية والبلدان المُستقلة حديثًا في آسيا وإفريقيا، التي فضلت التقرب مِن الاتحاد السوفيتي آنذاك، تنظر بتشكك دائم إلى المواقف الباكستانية من قضايا التحرر الوطني، لكن عام 1979 شكّل حدثًا فارقًا، حيث تم الغزو السوفيتي لأفغانستان، واندلعت الثورة الإسلامية في إيران؛ ما جعل الساسة الباكستانيين ينخرطون في مشروع إحياء الإسلام السياسي المقاتل ضد الشيوعية، وجعل على باكستان لزامًا أن تدعم أهم القضايا الإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين.

عام 1991، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بدأت الهند تنظر بكثير مِن القلق إلى مكانتها في الشرق الأوسط، الذي شكّل أهم مورد نفط لها، وإحدى أكبر الأسواق للأيدي العاملة والبضائع الهندية، فيما دَعمَت باكستان مكانتها، لا سيما في الخليج؛ ما دفع نيودلهي إلى أخذ نهج أكثر واقعية، فبعد انحيازها في الماضي إلى جانب القوميين العرب العلمانيين، بدأت الهند بتحسين علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، هذا بالإضافة إلى الاعتراف الدبلوماسي الكامل بإسرائيل عام 1992، فيما أبقت إسلام آباد على الأيديولوجيا الإسلاموية في سياستها، وهذا أدى إلى تضرر العلاقات مع الخليج، الذي نظر بتشكك إلى فائدة هذه الأيديولوجيا، لا سيما بعد أحداث الفوضى والدمار التي ضربت العالم العربي بعد عام 2011.

بالرغم من تباين العلاقات العربية، لا سيما الخليجية، مع باكستان والهند؛ حيث بعدت عن الأولى، واقتربت من الثانية، فإن إسلام آباد وجدت فائدة لدعم القضية الفلسطينية على جبهتها الداخلية، حيث كانت سردية “اضطهاد المسلمين على يد اليهود في إسرائيل” مناسبة تمامًا لقول مثلها على يد الهندوس، ولكن في كشمير؛ ما يجعل هناك حاجة دائمة إلى الحفاظ على جيش ضخم وقوي وفاعل على الساحة السياسية، ولو كان هذا على حساب التنمية الاقتصادية، واستقرار المجتمع، في حين وجدت الهند أن الابتعاد عن دعم القضية الفلسطينية، والتقرب مِن إسرائيل، يخدم مصالحها الأمنية، خصوصًا ما بعد عام 1999، حيث قدمت تل أبيب مساعدة مهمة للجيش الهندي في حربه في إقليمي جامو وكشمير. وبينما يُنظر إلى الجيش الباكستاني كحليف للولايات المتحدة، قرر الجيش الهندي أن يكون حليفًا لإسرائيل، لا سيما أن الأخيرة وفرت له كثيرًا مِن الأسلحة.

تشهد باكستان حاليًا جدلًا في القنوات التليفزيونية الوطنية الرئيسة، والصحف، ومنصات التواصل الاجتماعي، بشأن ما إذا كان ينبغي على إسلام آباد إعادة النظر في موقفها من إسرائيل، ويأتي هذا في ضوء تطبيع البلدان العربية (الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والمغرب، والسودان) العلاقات مع إسرائيل، فيما عُرف بإتفاقيات إبراهام عام 2020، فيما تخوض المملكة العربية السعودية مفاوضات متقدمة مع الولايات المتحدة لعقد صفقة سلام مع إسرائيل- توقفت ما بعد العدوان على غزة وفقًا لتصريحات رسمية سعودية- لكن لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ بالبرلمان الباكستاني أعلنت لإذاعة صوت أمريكا: “الدرس الأول من الحرب على غزة هو أن ما يسمى بالجدل أو النقاش بشأن الاعتراف بإسرائيل في باكستان قد دُفن، وهذا صحيح”، ولكن وزارة الخارجية الباكستانية اتخذت موقفًا أقل تشددًا بشأن الحرب وأعلنت: “نحن نراقب- عن كثب- الوضع في الشرق الأوسط، نحن قلقون بشأن التكلفة البشرية للوضع المتصاعد”.

اليوم، يتزايد الغضب العالمي إزاء ارتفاع عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين، وهذا سيؤدي إلى الحد من الدعم الهندي لإسرائيل، غير أنه مِن المتوقع أن يكون هذا على المدى القصير، لكن في مجال صنع السياسات الخارجية، أصبح التواصل بين نيودلهي وتل أبيب غير خاضع لتأثير الأقلية المُسلمة، ولا موقف البلدان العربية والإسلامية التي انخرطت في أزماتها الداخلية، وقلَّ الاهتمام بالقضايا ذات البعد الأيديولوجي، وكان على رأسها القضية الفلسطينية ما بعد الربيع العربي. الموقف الباكستاني الآن، وإن كان رافضًا للتعامل مع إسرائيل شعبيًّا، فإنه رسميًّا سيبقى في إطاره الدبلوماسي؛ بالحث على وقف إطلاق النار في غزة، والتفاوض على حل الدولتين دون تطوير له؛ حتى لا تصطدم إسلام آباد مع الولايات المتحدة، أو الهند، في ظل أن البلاد تعيش اضطرابًا جماهيريًّا نتيجة الواقع السياسي المنقسم، والأوضاع الاقتصادية المُتدهورة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع