شهدت منطقة الخليج العربي في التاسع من سبتمبر (أيلول) الجاري حدثًا مفصليًّا تمثل في تنفيذ إسرائيل ضربة جوية دقيقة داخل العاصمة القطرية، استهدفت مقرًا لقيادة حركة حماس في أثناء وجودها في الدولة التي عُرفت تاريخيًّا بدور الوسيط في النزاعات الإقليمية وتوازنها بين أطراف الصراع. هذا التطور لم يكن مجرد عملية عسكرية محدودة الأثر؛ بل حمل دلالات سياسية وأمنية عميقة على المستويين الإقليمي والدولي، إذ جسد تحديًا مباشرًا لسيادة دولة خليجية ترتبط بعلاقات معقدة مع كل من الولايات المتحدة وإيران، وتُعد مركزًا رئيسًا للقواعد العسكرية الغربية في المنطقة.
من هنا طرحت الضربة تساؤلات جوهرية عن قدرة الأطراف الأخرى -وفي مقدمتها إيران- على مواجهة هذا التحدي أو توظيفه لصالحها، فإيران تُعد فاعلًا محوريًّا في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، سواء من خلال أدواتها المباشرة، مثل الحرس الثوري وبرامجها العسكرية، أو من خلال شبكات حلفائها الممتدة من لبنان إلى اليمن، مرورًا بالفصائل العراقية والفلسطينية؛ ما يجعل دراسة انعكاسات هذا الهجوم على إيران تتجاوز البعد العسكري المباشر لتشمل أبعادًا إستراتيجية ودبلوماسية واقتصادية، حيث تبدو طهران اليوم أمام اختبار معقد: هل تنجح في استثمار الضربة لتعزيز موقعها بوصفها قوة مدافعة عن القضية الفلسطينية ومحور مقاومة في مواجهة إسرائيل، أم أنها ستتكبد خسائر إستراتيجية أمام حلفائها، وزيادة الضغوط عليها في الداخل والخارج؟ وهو ما يبرز أهمية تفنيد المكاسب المحتملة والخسائر الإستراتيجية، واستشراف الخيارات المتاحة أمام إيران في مرحلة ما بعد الهجوم؛ ما قد يعيد رسم التوازنات في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط خلال الأشهر المقبلة.
من المنظور الإيراني، ما حدث في الدوحة يمثل دليلًا عمليًّا على أن وجود قواعد أو تحالفات مع الولايات المتحدة لا يضمن الحماية المطلقة للدول، خاصةً عندما تُقدم إسرائيل بوصفها طرفًا فاعلًا مستقلًا قادرًا على العمل داخل فضاءات حليفة لواشنطن، وقد تستغل طهران هذا لتروج أن الاعتماد على الضمانات الأمريكية هش، وأن دول المنطقة لا يمكنها الاكتفاء بهذه المظلة لحفظ أمنها وسيادتها، وهذا يعزز موقف طهران في الخطاب الإقليمي، ويُستخدم دبلوماسيًّا لضرب مصداقية السياسات الأمريكية في الخليج.
تُقرأ الضربة داخليًّا في أوساط صنع القرار الإيرانية على أنها إحراج لقدرات طهران على الحماية والردع، فإذا لم يعد بإمكان إيران منع ضربات دقيقة تستهدف حلفاء أو قنوات تفاوضية يربطونها بهم، فإن ثقة بعض حلفائها قد تهتز؛ مما يفرض على طهران إعادة تقييم الآليات التي تعرضها كشبكة حماية، سواء من خلال دعم لوجستي، أو استخباري، أو رمزي؛ ما يفتح نقاشًا داخليًّا عن جدوى أدوات النفوذ غير المتكافئة وفاعليتها، فأي سياسة خارجية تُعرض موارد الدولة للخطر، أو لا تحقق انتصارات ملموسة، يمكن أن تستغلها المعارضة لإدانة نفقات المشروع الخارجي على حساب الوضع المعيشي المتدهور.
في المقابل، تراها طهران فرصة إعلامية ودبلوماسية عن طريق تنديد علني لتعبئة الشعوب الإسلامية، والسعي إلى حشد مواقف مناهضة لإسرائيل في المحافل الدولية، وقد توظفه طهران لربط الحادث بسردية أوسع عن التصعيد الإسرائيلي، وفشل واشنطن في الحفاظ على استقرار المنطقة، وهو ما قد يمنح طهران رصيدًا شعبيًّا ودبلوماسيًّا قصير الأمد بين دول ومجتمعات عربية وإسلامية، لكن على المستوى العملي قد ترى طهران الضربة مبررًا لرفع مستوى الضغط عن طريق وكلائها، لكن صناع القرار الإيرانيين سيدركون أن أي تنفيذ واسع أو غير محسوب قد يؤدي إلى مواجهة شاملة تُكلف إيران ثمنًا باهظًا.
وبينما كانت طهران تحقق بعض المكاسب عن طريق قنوات هادئة مع الدول الخليجية لخفض التوتر الاقتصادي والدبلوماسي، فإن الضربة على قطر قد تُعيد بناء سردية مفادها أن أي توجه إلى التصعيد يعقد مسارات التفاهم، ويجعل دول الخليج تتبنى سياسات أمنية أقرب إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة من باب حماية المصالح؛ ما يحدّ قدرة إيران على توسيع شبكات التفاهم؛ لذا إذا اختارت طهران نهجًا تصعيديًّا، أو إذا فُسرت مواقفها على أنها داعمة لعمليات ما بعد الضربة على نحو عدواني، فهناك خطر أن تستعيد بعض القوى الغربية سياسات تقييدية دبلوماسيًّا، أو اقتصاديًّا.
سارع الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان إلى تقديم دعمه في مكالمة هاتفية مع أمير قطر بعد ساعات من الهجوم الإسرائيلي الذي وصفه بأنه عدوان صارخ، وظاهرة من الجرائم المستمرة التي تُهدد استقرار المنطقة، مع التأكيد أن إيران ستكون إلى جانب قطر، وتتخذ أي إجراء ضروري لدعمها، مع الدعوة إلى وحدة الدول الإسلامية للرد على هذا العدوان، ليس فقط قولًا بل بالفعل؛ ما يكشف مدى رغبة القيادة الإيرانية في إبراز العلاقات مع قطر على أنها تحالف إستراتيجي مهم، وإظهار أن إيران ليست مكتفية بالتصريحات؛ بل تستعد للتحرك إن اقتضى الأمر، وأيضًا تأكيد أن الخطاب ليس للاستهلاك الإعلامي فقط؛ بل مع دعوات عملية إلى التضامن الإسلامي. وفي القمة الإسلامية التي انعقدت في قطر في الخامس عشر من سبتمبر (أيلول) الجاري، اعتبر بيزشكيان أن إسرائيل قد تخطت كل الخطوط الحمراء، مطالبًا بوقف دعمها السياسي والدبلوماسي من الغرب، وبتوحيد الموقف الإسلامي والعربي ضدها، وحاول استغلال القمة لتشديد عزلة إسرائيل دوليًّا، وخلق جبهة عربية إسلامية مشتركة للمطالبة بتحرك سياسي ودولي، وربما إجراءات عقابية، أو مقاطعة دبلوماسية.
في السياق نفسه، كشف بيان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن الضربة على قيادة حماس في الدوحة تناقض كل القوانين الدولية، وخرق صارخ لميثاق الأمم المتحدة وللمبادئ المعروفة في العلاقات الدولية، ما يهدف إلى وضع إيران للحدث في إطار قانوني دولي ليس فقط كنزاع سياسي؛ مما يمكن إيران من المطالبة بمساءلة موسعة لإسرائيل، في حين وصف وزير الخارجية عباس عراقجي الهجوم بأنه عدوان على الأرض القطرية، وقال إن إيران تقف مع أشقائها القطريين والفلسطينيين في مواجهة هذا الاعتداء، وهو ما يعد دعوة إلى عمل جماعي بين الدول الإسلامية لمواجهة ما سمّاه “الهيمنة الصهيونية الآتية”، والمطالبة بتضامن إسلامي، ووقف التجاوزات الإسرائيلية، حيث يستخدم عراقجي الخطاب الأخلاقي والديني لإضفاء شرعية على الموقف الإيراني، وتشجيع الرأي العام الإسلامي على دعم إيران، كما يسعى إلى كسب التأييد من الدول الإسلامية من خلال دعوة العمل الموحد، وربط العدوان بسياسات الهيمنة الإسرائيلية كما ترى طهران.
وكتب أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني على منصة (X) أن العدوان على قطر يحمل رسالة موجهة إلى دول المنطقة، مفادها: “استعدوا لهيمنة إسرائيل”؛ لتدفع لغة لاريجاني إلى خلق شعور بالتهديد المُرتقب، وتحفيز الردع داخل المنطقة، وإثارة هواجس بأن إسرائيل قد تتجاوز حدودها؛ مما قد يحفز الدول الأخرى إلى تعزيز قدراتها الأمنية، أو تغيير سياساتها تجاهها، في محاولة لبث الخوف السياسي كأداة ضغط على دول المنطقة.
ولم تختلف لغة الخطاب الإعلامي في نظرته إلى الهجوم، حيث ركزت الصحافة الرسمية والمقربة من الحرس الثوري على التنديد بالضربة، والمطالبة برد فعل عنيف ضد اعتداءات إسرائيل المتكررة؛ لتعبئة القاعدة الشعبية، في حين تداولت الصحف الإيرانية المعارضة أن هذا الهجوم ليس فقط ضد حماس؛ بل ضربة للوساطة القطرية، وسيضر بعملية السلام ووقف إطلاق النار. ورغم عدم صدور بيان رسمي يُعلن فيه الرد العسكري على نحو مباشر من طهران، فإن الجماعات المدعومة إيرانيًّا استخدمت بيانات تحذيرية تُشير إلى أن هذه الاعتداءات لن تبقى دون ثمن. هذا الأسلوب يتيح لإيران أن تُرسل إشارات قوية دون التزام رسمي يُلزمها بتصعيد شامل، مما يوفر لها هامش مناورة؛ ومن ثم تعكس تصريحات إيران، سواء على الصعيد الرسمي أو غير الرسمي، رغبة في استثمار الحدث في المجالات الدبلوماسية والإعلامية أكثر منها في الاشتباك العسكري المباشر، ما يدل على وعي طهران بحدود القدرة على الرد، خاصة مع الأخطار المرتبطة بالعقوبات الدولية، والوضع الاقتصادي الهش، والأخطار الأمنية المتداخلة.
قدمت الضربة الإسرائيلية على قطر فرصة ذهبية لإيران من أجل إعادة تثبيت نفسها بوصفها قوة مقاومة في العالمين العربي والإسلامي، وأعطتها ورقة للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي الوقت نفسه مكنتها من اختراق بيئة الخليج سياسيًّا وإعلاميًّا، تتضح أبرز تلك الفرص فيما يلي:
مع أن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة شكّل فرصة لإيران لإعادة توظيف خطابها المعادي لإسرائيل، وإبراز دورها بوصفها مدافعة عن محور المقاومة، فإن التداعيات المباشرة وغير المباشرة لهذا الهجوم تفتح الباب أمام جملة من الخسائر المحتملة لطهران على المستويات السياسية والأمنية والإستراتيجية، تنكشف ملامحها فيما يلي:
يعطي الهجوم الإسرائيلي على قطر طهران حزمة من الفرص الخطابية، لكنه في الوقت نفسه يضعها أمام سيناريوهات خسارة دبلوماسية واقتصادية واجتماعية؛ لذلك فإن الخيار الأكثر عقلانية من منظور طهران هو مسار تحفظي ذكي يجمع بين استغلال دبلوماسي وإعلامي لتقويض رواية الخصم، إلى جانب دعم تكتيكي ومحسوب لحلفاء إيران، فضلًا عن بذل جهود سرية لإعادة فتح قنوات تفاهم مع دول إقليمية لتخفيف أثر العزلة المحتملة. وبناءً على التطورات الراهنة، يمكن القول إن المماطلة الإيرانية المتعمدة في الرد الميداني المباشر -مع ترك مساحة لحلفائها، وللردود غير المُعلنة- تبدو السيناريو الأرجح على المدى المنظور؛ ومن ثم فإن الميدانين الدبلوماسي والإعلامي سيبقيان ساحة محورية لطهران لاستثمار الضربة، في حين سيظل احتمال تحركات تكتيكية محدودة من خلال الفصائل المدعومة من إيران قائمًا إذا رأت الجمهورية الإسلامية أن هذا الرد يمنحها هامشًا من المناورة لإنقاذ نفوذها في المنطقة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.