تقارير

انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية على دول جنوب القوقاز


  • 5 مارس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: commonspace.eu

لقد غيرت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022 معطيات المعادلة الأمنية الإقليمية والدولية، وأثارت مخاوف من إمكانية حرمان جنوب القوقاز من السيادة والسلامة الإقليمية، إذ تشهد منطقة جنوب القوقاز- المنطقة التي كانت على مفترق طرق لمصالح القوى العظمى عدة قرون- تحولًا سريعًا، فلم تؤد الحرب التي دخلت عامها الرابع إلى تعميق التوترات القائمة فحسب؛ بل أثرت أيضًا في تصورات المجتمع الدولي وسياساته فيما يتصل بتلك المنطقة؛ ما قد يجبر البلدان الثلاثة التي تشكل منطقة جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان) على إعادة تنظيم آفاق سياساتها الخارجية.

سياسات دول جنوب القوقاز تجاه الحرب الروسية الأوكرانية

لقد كان الموقع الجيوسياسي للمنطقة، بوصفها جسرًا بين أوروبا وآسيا، وتحيط بها قمم جبال القوقاز الشامخة، نعمة ونقمة في الوقت نفسه؛ فمن ناحية، تستطيع بلدان جنوب القوقاز أن تستفيد من كونها حارسة لتدفقات التجارة التي تمر عبرها، لكن من ناحية أخرى، فإن هذا التموضع الإستراتيجي جعل المنطقة ساحة للتنافس بين القوى الإقليمية، وفي مقدمتها روسيا، وتركيا، وإيران، ومع الحرب الروسية الأوكرانية [1] أصبح الوضع الإقليمي أكثر هشاشة؛ ما أضاف أخطارًا جديدة إلى البيئة الأمنية الهشة، وهو ما انعكس على سياسات دول جنوب القوقاز تجاه طرفي الحرب.

ولعل جورجيا كانت الدولة الوحيدة من بين الدول الثلاث التي أدانت روسيا إدانة مباشرة؛ نظرًا إلى كونها الدولة القوقازية الوحيدة التي لها سياسة خارجية واضحة مؤيدة للغرب، والتي تطمح إلى عضوية الاتحاد الأوروبي والناتو، وأيضًا الدولة الوحيدة في الإقليم التي خاضت حربًا مع روسيا، لكنها مع ذلك حاولت أن تبتعد عن دعم أوكرانيا دعمًا كاملًا على الصعيد الرسمي، غير أن هذا لم يمنع الدعم الشعبي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، إذ شهدت العاصمة الجورجية تبليسي [2] مظاهرات حاشدة منذ بدء الحرب لدعم كييف، وإدانة موسكو.

وفي مقابل هذا، سعت أذربيجان إلى تبني نهج متوازن تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، إذ كان الدعم الذي قدمته روسيا لأرمينيا في صراع كارباخ دافعًا إلى حذر باكو من دعم مطلق لموسكو في الحرب، لكن امتناع أذربيجان عن انتقاد روسيا في العلن لم يمنعها من تقديم الدعم على نحو غير مباشر لكييف، من خلال تأكيد وحدة أراضيها وسلامتها؛ ومن ثم كانت سياسة الحياد هي السياسة الأكثر أمانًا لباكو للحفاظ على شراكاتها مع موسكو وكييف، في حين اتخذت أرمينيا (الشريك الوثيق لروسيا) سياسة أكثر دعمًا لموسكو، دون استعداء أوكرانيا؛ نظرًا إلى طبيعة التحالف الإستراتيجي بين روسيا وأرمينيا؛ إذ تعتمد يريفان على موسكو اعتمادًا شبه كامل، خاصة في المجالات الاقتصادية والأمنية؛ ما قلل مساحة مناورتها للحفاظ على علاقة وثيقة مع أوكرانيا بعد الحرب.

تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على جنوب القوقاز

لقد كانت حرب روسيا على أوكرانيا عام 2022 صدمة للوضع الراهن لم تشهدها منطقة القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وعاشت على إثرها دول القوقاز سلسلة من التقلبات نتيجة لتطور الصراع الواسع النطاق بين روسيا والغرب في أوكرانيا [3]. وبوقوفها على مفترق طرق، بدأت البلدان الثلاثة التي تشكل هذه المنطقة تبرز الآن بوصفها دولًا عازلة جديدة في عالم مجزأ على نحو متزايد.

وعلى إثر ذلك، عانى اقتصاد بلدان القوقاز؛ بسبب اعتمادها الكبير على التجارة الروسية، والانخفاض الحاد في التحويلات المالية، لكن بعد أن فرضت الدول الغربية عقوبات وقيودًا أخرى أدت إلى الحد كثيرًا من التجارة بين روسيا والغرب، تحولت منطقة القوقاز إلى رابط طبيعي لاستمرار تدفق التجارة، وأصبحت فجأة الطرق السريعة والسكك الحديدية القليلة الرئيسة التي تربط روسيا عبر المنطقة بالعالم الخارجي أكثر قيمة للقوى الخارجية.

وتحول الطريق البري الذي يربط روسيا مباشرة مع تركيا عبر جورجيا إلى خط عملاق من الشاحنات، وقد رأت حكومة جورجيا في هذا فرصة ذهبية، وأصبحت البلاد التي يبلغ عدد سكانها 3,6 مليون نسمة أكثر أهمية وقيمة لطرفي الصراع. ولأن روسيا كانت بحاجة إلى طرقها اللوجستية، فقد كان الغرب يشعر بالقلق من احتمال انحراف جورجيا عن مسارها الموالي للغرب؛ لذا حاول كلا المعسكرين استقطاب جورجيا؛ فسعت موسكو إلى تقديم الجزر لجورجيا للتأكد من أنها تقف إلى جانبها، كما رفعت قيود التأشيرات، والحظر المفروض على الرحلات الجوية المباشرة بين المدن الجورجية والروسية. وفي المقابل، قرر الاتحاد الأوروبي [4] ترقية جورجيا إلى صفة العضو المرشح الرسمي، مع أن انضمام البلاد فعليًّا إلى الاتحاد الأوروبي لا يزال بعيدًا.

ولمواكبة تلك التطورات، وبفضل الشعور بالنفوذ الاقتصادي المكتسب حديثًا، بدأت حكومة جورجيا في تعزيز علاقاتها التجارية الإقليمية؛ إذ أقرت البلاد قانونًا مثيرًا للجدل يهدف إلى الحد من نفوذ المنظمات غير التجارية الممولة من الغرب في البلاد. ورغم الاحتجاجات الشعبية، نجحت الحكومة في دفع القانون من خلال البرلمان، وفي اليوم التالي لإقرار القانون، منحت الحكومة الجورجية أيضًا مناقصة لتطوير أول ميناء بحري عميق على البحر الأسود لشركة صينية، وهو ما يُنظر إليه بوصفه عامل تغيير لقواعد اللعبة التجارية في المنطقة، ولكن من المرجح أن تستفيد روسيا أيضًا من موقعها بجوار منطقة أبخازيا في جورجيا التي تسيطر عليها، إذ تعمل روسيا على بناء منشأة بحرية في أبخازيا على بعد 25 ميلًا فقط من الميناء الجديد، وهو ما من شأنه أن يسمح لها بممارسة النفوذ على تدفقات التجارة التي تُعالَج هناك.

وعلى نحو مماثل، شهد المشهد الجيوسياسي في جنوب القوقاز، وخاصة فيما يتصل بمنطقتي أوسيتيا الجنوبية [5] وأبخازيا، تحولات كبيرة في أعقاب الحرب الدائرة في أوكرانيا، فقد أشعل الصراع فتيل المناقشات بشأن سلامة الأراضي والسيادة، وأثر في التحالفات الإقليمية، إذ اضطر الاتحاد الأوروبي إلى النظر في علاقته مع جورجيا، وبالإضافة إلى ذلك، ومع مواجهة روسيا للعزلة الدولية، حولت دعمها للمنطقتين المنفصلتين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا نحو المجهود الحربي في أوكرانيا. ولأن هذا الدعم لا يقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل يشمل أيضًا أبعادًا اقتصادية وسياسية، فإن روسيا تسعى إلى الحفاظ على نفوذها في المنطقة في ظل نظام عالمي متغير.

ومع ذلك، راجعت موسكو أولوية الدعم الذي ينبغي لها أن تستمر في تقديمه للأنظمة الانفصالية القائمة؛ ومن ثم ارتبطت أهم العواقب الرئيسة لتراجع العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأوسيتيا الجنوبية في احتمال إضعاف الأداء الاقتصادي لأوسيتيا الجنوبية نتيجة انخفاض الدعم من راعيها الأساسي. وعلى النقيض من أبخازيا، لا تستطيع أوسيتيا الجنوبية تنويع اقتصادها، وحتى قبل الحرب، كانت الطريقة الوحيدة التي اكتسبت بها عوائد مالية هي العمل كقناة خارجية تمول من خلالها روسيا عملياتها في دونباس، وقد منحها هذا دخلًا إضافيًّا من المعاملات المصرفية دون أي مشاركة مباشرة في العملية العسكرية الروسية.

لقد أثرت الخريطة الجديدة لتدفقات التجارة التي نشأت بعد الحرب في أوكرانيا أيضًا في حسابات أذربيجان [6] -الجمهورية الغنية بالنفط الواقعة على بحر قزوين- فقد احتاجت أوروبا إلى غاز أذربيجان بعد أن قررت قطع أغلب الإمدادات الروسية، وسعت إلى زيادة التجارة بين آسيا الوسطى والصين عبر ما يسمى الممر الأوسط الذي يمر عبر أذربيجان وجورجيا متجاوزًا روسيا، ومن ناحية أخرى، كانت موسكو بحاجة إلى أذربيجان لتطوير مشروع طموح لربط روسيا بإيران ثم بالهند.

وبرزت مكانة أذربيجان بوضوح بعد أن امتلكت كل أوراق النفوذ الاقتصادي لروسيا والدول الغربية؛ ما أتاح الفرصة لزعيمها إلهام علييف للتحرك بحسم لاستعادة منطقة كاراباخ بكاملها، فمنذ عقود ظلت منطقة كاراباخ، المعترف بها دوليًّا جزءًا من أذربيجان، موضع نزاع بين الأرمن والأذربيجانيين. وفي عام 2023، اضطر أكثر من 100 ألف أرميني، كانوا يعيشون في المنطقة منذ قرون، إلى الفرار من منازلهم خوفًا من الانتقام، وفي عام 2024، تبعتهم قوات حفظ السلام الروسية التي أكملت انسحابها من المنطقة، ولأول مرة في تاريخها، سيطرت أذربيجان على أراضيها السيادية بالكامل.

جنوب القوقاز بين روسيا والولايات المتحدة

ينطوي مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية على أخطار أمنية جديدة لدول جنوب القوقاز الثلاث المثقلة بالفعل بالبيئة الأمنية المضطربة، ما يؤدي إلى تصعيد الاستقطاب المجتمعي والسياسي. إن دول المنطقة سوف تضطر إلى الحد من عواقب الضغوط الروسية، وحماية السيادة الوطنية وسلامة أراضيها واستقلالها، وهو ما يستدعي تعزيز القوانين واللوائح الدولية المتعلقة بسلامة أراضي المنطقة.

وإذا تغيرت أراضي أوكرانيا بسبب الحرب، فإن هذا من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة على الدول الثلاث؛ لأن لدى منطقة جنوب القوقاز [7] تاريخًا طويلًا من الصراعات والهيمنة الروسية بدرجات متفاوتة، وقد تتفاقم تلك العداءات في ظل إطالة أمد الحرب، وفي أسوأ السيناريوهات، قد تؤدي الحرب الروسية على أوكرانيا إلى مزيد من الانقسامات بين بلدان جنوب القوقاز للإبقاء على علاقات جيدة مع روسيا، أو لتجنب استعدائها، وضمان الحصول على أقصى قدر من الحكم الذاتي.

وبالإضافة إلى الأخطار الأمنية العنيفة التي قد تواجهها المنطقة، تشهد منطقة جنوب القوقاز ضغوطًا اقتصادية جديدة بسبب استمرار الحرب، وخاصة إذا استمرت الدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا، وقد بدأت مؤشرات تلك الضغوط المرتبطة بتدهور قيمة الروبل الروسي، وانخفاض النشاط التجاري والاقتصادي تؤثر في هذه المنطقة. غير أن الواقع الجغرافي الاقتصادي الجديد يصب في صالح الدول الثلاث، إذ إن تراجع نفوذ روسيا [8] جعلها من بين اللاعبين الآخرين في جنوب القوقاز، ولم يعد بوسعها تجاهل دور الصين والاتحاد الأوروبي وإيران وتركيا والولايات المتحدة هناك، فضلًا عن أن التعددية الجيوسياسية والجيواقتصادية الناشئة في المنطقة جعلت أرمينيا وأذربيجان وجورجيا أكثر جرأة في الانخراط مع كل القوى الخارجية، ومن المرجح أن تسعى أذربيجان في التعامل مع كل القوى على للحفاظ على أمنها القومي وسط المستجدات الراهنة، في حين تجد أرمينيا نفسها في حالة معقدة من انعدام الأمن؛ ما يؤثر في منظورها الحالي لسياساتها الخارجية، أما جورجيا ليس أمامها إلا أن تحافظ على موقفها المتعدد الأطراف.

لقد أسفرت الحرب في أوكرانيا عن تسريع ما بدأ بحرب كاراباخ [9] عام 2020، إذ انحازت موسكو إلى أذربيجان بدلًا من حليفتها أرمينيا، وكان قرار موسكو البقاء بعيدًا في الوقت الذي استعادت فيه باكو السيطرة على كاراباخ يُنظر إليه على نطاق عريض على أنه خيانة ليريفان؛ ما جعل أرمينيا تُعيد النظر في علاقاتها مع روسيا، إذ يدور حديث في يريفان عن الانسحاب من التحالف الأمني الذي تقوده موسكو تحت اسم منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بعد أن فشلت عضوية أرمينيا فيه في منع هزيمتها في كاراباخ، واحتلال أذربيجان عدة مناطق في أرمينيا نفسها، ويأتي هذا في إطار بحث أرمينيا عن شركاء جدد بدلًا من موسكو؛ لذا تسعى إلى توثيق علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة.

وفي المقابل، أدى هذا إلى تزايد التقارب بين موسكو وباكو، حيث تستغل أذربيجان تركيز موسكو على أوكرانيا لتحقيق أهدافها بالكامل، إذ أصبحت باكو مستعدة للمضي قدمًا لتوثيق نفوذها الاقتصادي في المنطقة، فعلى سبيل المثال، تحاول أذربيجان -بدعم من موسكو- السيطرة على رابط تجاري رئيس من شأنه أن يربط إقليم ناخيتشيفان التابع لها من خلال خط سكة حديدية عبر أرمينيا، يمتد بعد ذلك إلى تركيا، ومن شأن هذا أيضًا أن يؤدي إلى إنشاء خط سكك حديدية مباشر بين روسيا وتركيا.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن استمرار الحرب في أوكرانيا قد يجلب بعض التغييرات السياسية والاقتصادية العالمية في جنوب القوقاز، وقد تحاول روسيا تعزيز نفوذها في جنوب القوقاز تعويضًا عن الضعف في أوروبا الشرقية. ومن ناحية أخرى، سيحاول الغرب الاستفادة من تلك الفرصة، وزيادة آليات نفوذه المباشر في المنطقة، إذ  تحاول الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، الاستفادة من الوضع الجيوسياسي الملائم لتعزيز وجودها في جنوب القوقاز، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى كون دول جنوب القوقاز ليس لها أهمية استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة [10]؛ ما قد يجعلها تتوخى الحذر في الانخراط في تلك المنطقة، على عكس الدول الأوروبية التي تنظر إلى المنطقة من منظور أمني.

وفي المحصلة، يشكل جنوب القوقاز  جزءًا من المجال الأمني الأوروبي والشرق أوسطي، ويؤدي دورًا مهمًّا فيهما؛ ومن ثم فإن دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع سينعكس -بالضرورة- على طبيعة علاقات دول جنوب القوقاز بالقوى الإقليمية والدولية، لا سيما أن الحرب في أوكرانيا كشفت عن نقاط ضعف روسيا في تلك المنطقة؛ ما أثر في حسابات الدول الثلاث في منطقة كانت موسكو تتمتع فيها تقليديًّا باليد العليا على الجهات الفاعلة المحلية والخارجية المتنافسة؛ ما يمكن معه القول إن الحرب الروسية الأوكرانية هي بداية لإعادة جدولة النظام الإستراتيجي الجديد في جنوب القوقاز.

 

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع