المقدمة
إثر إعلان الكرملين أن قوات حفظ السلام التابعة له المنتشرة في إقليم ناغورنو كاراباخ– محل الصراع المسلح بين أرمينيا وأذربيجان- بدأت بمغادرة المنطقة، تحطمت الأسطورة القائلة إن الأقدام الروسية لا تغادر أبدًا الأراضي التي تطؤها، فخلال الأسبوع الجاري لم تنسحب قوات حفظ السلام الروسية آخذة معها أسلحتها وعتادها فحسب؛ بل حملت معها جزءًا كبيرًا من النفوذ الروسي في منطقة القوقاز، حيث غادرت القوات الروسية البلاد للمرة الأولى منذ قرنين، تاركةً منطقة القوقاز ساحة جديدة للتنافس بين القوى الإقليمية والدولية، في منطقة اعتبرتها موسكو منذ فترة طويلة فناءً خلفيًا لها.
ثمة إشكالية طرحها الانسحاب الروسي من المنطقة عن تآكل ثقل موسكو الجيوسياسي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي، وتراجع القوة الروسية في جنوب القوقاز بعد حربها الشاملة في أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ولعل تخلي موسكو الطوعي عن أداة مهمة للضغط على أذربيجان تطور مهم، يشير إلى أن روسيا إما حصلت على مكتسبات في مقابل خسارتها حليفها التقليدي- أرمينيا- وإما أنها ستعتمد على أذربيجان بدرجة أكبر في المرحلة المقبلة، ما يفرض الإجابة عن تساؤل رئيس مفاده: كيف يمكن فهم الانسحاب الروسي في سياق الديناميكيات الجيوسياسية المعقدة؟
تمركزت قوات حفظ السلام الروسية، التي تضم ما يقرب من 1960 جنديًا، و90 ناقلة جند مدرعة، و380 عربة وآلية أخرى، في إقليم ناغورنو كاراباخ؛ لمراقبة وقف إطلاق النار في الإقليم كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار الثلاثي الصادر في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا، والذي أنهى حرب كاراباخ الثانية في 27 سبتمبر (أيلول) 2020، التي أطلق فيها الجيش الأذربيجاني عملية عسكرية لاستعادة أراضي يعتبرها تابعة له تاريخيًّا في الإقليم المتنازع عليه، وبعد معارك استمرت 44 يومًا، توصل طرفا النزاع إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ينص على استعادة باكو السيطرة على محافظات واقعة تحت السيطرة الأرمنية.
عندما نشرت روسيا قواتها العسكرية قبل أربعة أعوام في ناغورنو كاراباخ كانت مهمتها واضحة؛ وهي الحفاظ على وقف إطلاق نار بين أرمينيا وأذربيجان لتجنب نزاع جديد في القوقاز، لكن هذا الوضع تغير في سبتمبر أيلول (الماضي) مع سيطرة جيش باكو على هذه المنطقة، ففي حين أن غرض قوات حفظ السلام كان يهدف جزئيًا إلى حماية السكان الأرمن في كاراباخ، فإن الجنود الروس لم يتخذوا أي إجراء خلال الحصار الإنساني الذي فرضته أذربيجان تسعة أشهر، أو عندما استعادت أذربيجان ناغورنو كاراباخ في سبتمبر (أيلول) 2023؛ مما أدى إلى نزوح جماعي للأرمن.
وإثر العملية العسكرية في سبتمبر (أيلول) 2023، أعلنت أذربيجان تمكنها من استعادة السيادة على الإقليم بكامله، وبدء الانفصاليين الأرمن الانسحاب وتسليم أسلحتهم بموجب اتفاق جديد لوقف إطلاق النار، وأوضحت الرئاسة الأذربيجانية حينها أن باكو تهدف إلى إعادة الاندماج السلمي للأرمن في الإقليم، وتدعم عملية التطبيع بين أرمينيا وأذربيجان، واستعاد الجيش الأذري هذه المنطقة الجبلية في غضون ساعات، منهيًا بذلك الجمهورية المعلنة من جانب واحد، ويشكل الأرمن غالبية سكانها.
ولم يقف في وجه ذلك الجنود الروس الذين رأوا أن لا سبب لبقائهم في المنطقة، وأعلنت موسكو منذ أيام أن قوات حفظ السلام التابعة لها المنتشرة في إقليم كاراباخ بدأت مغادرة المنطقة، وهو ما اعتبرته أرمينيا خيانة مباشرة من حليفتها الإستراتيجية، خاصة أن هذا الإعلان جاء أيضًا بعد إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في أذربيجان في فبراير (شباط) 2024، ثار الحديث حينها أن السبب وراء تبكير موعدها الأصلي في عام 2025 هو لتجنب التزامن مع نهاية ولاية قوات حفظ السلام، حيث كان من الممكن أن تستخدم روسيا هذا الوضع للضغط على أذربيجان، أو زعزعة استقرار المنطقة، لكنها لم تفعل ذلك.
حكمت موسكو منطقة القوقاز خلال الإمبراطورية الروسية، ثم في الحقبة السوفيتية، وعندما اندلعت الحرب بين أرمينيا وأذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، سعت موسكو إلى أداء دور الوسيط للحفاظ على إرثها الثقافي في الجمهوريات السوفيتية السابقة، لكن أثار الإعلان المفاجئ لموسكو انسحاب قوات حفظ السلام من الإقليم، وسط وضع جيوسياسي سريع التطور في جنوب القوقاز، التساؤل عن دوافع هذا القرار، خاصة أن أذربيجان تقع في بؤرة اهتمام روسيا، فخلال السنوات القليلة الماضية، ضعف موقف موسكو في المنطقة، في حين تعزز موقف باكو، ويرجع ذلك- إلى حد كبير- إلى الحرب الروسية الواسعة النطاق على أوكرانيا، التي استنزفت الموارد والاهتمام الروسي، كما كان لتعميق العلاقات بين أذربيجان وتركيا، إلى جانب الدعم التركي لطموحات أذربيجان الجيوسياسية، دور فعال في هذا التحول.
أدى تراجع نفوذ روسيا في أرمينيا إلى تحول العلاقات إلى أذربيجان، حيث تحتاج موسكو إلى باكو وأنقرة، من أجل الحفاظ على طرق التجارة والخيارات مفتوحة، وتسهيل وصول روسيا إلى الشركاء خارج المنطقة، مثل إيران والهند، وقد أدى ذلك إلى زيادة التعاون التجاري والعبور داخل الثالوث الروسي- الأذربيجاني- الإيراني، خاصة مع تزايد اعتماد روسيا على المعدات العسكرية الإيرانية، مثل طائرات شاهد بدون طيار، في جهودها الحربية.
وبناءً على هذا، أسفر تعزيز العلاقات الروسية الأذربيجانية، بما في ذلك في المجال العسكري، إلى فقدان أرمينيا الثقة بروسيا كمدافع عن مصالحها، وفي سبيل ذلك سعت أرمينيا جاهدة إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلال عن روسيا، وتوثيق العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والغرب بشكل عام، ما جعل العلاقات بين موسكو ويرفان تتوتر في الشهور القليلة الماضية، حيث تخشى أرمينيا من شن روسيا حربًا هجينة عليها بهدف تنصيب حكومة أكثر تأييدًا لروسيا، من خلال الاستفادة من الضغط الأذربيجاني ضد أرمينيا، واستغلال الاستياء بين الأرمن المنفيين من كاراباخ المقيمين في أرمينيا، مما يؤدى في النهاية إلى فقدان السيادة الأرمينية في الإقليم.
وقد يكون لقرار موسكو سحب تفويض حفظ السلام قبل عام من انتهاء صلاحيته عدة أسباب، من أهمها ما يرتبط بجدوى دور القوات العسكرية الموجودة في الإقليم؛ حيث إن وجود الجيش الروسي في ناغورنو كاراباخ كان في الأساس وجودًا سياسيًّا؛ نظرًا إلى قلة عدد جنود وحدته العسكرية، وفي أعقاب استعادة أذربيجان منطقة كاراباخ، وما تلا ذلك من نزوح أرمن كاراباخ، أصبح الدور الذي تؤديه قوات حفظ السلام متناقضًا، واستنادًا إلى وظيفتهم الرسمية، لم يعودوا يخدمون غرضًا رسميًّا، نظرًا إلى أن أذربيجان أنهت الصراع فعليًّا، ولم يعد هناك الآن أي أرمن تقريبًا في كاراباخ لحمايتهم.
ومع ذلك، فقد قامت تلك القوات بالدور نفسه الذي قامت به جميع الوحدات العسكرية الروسية الأخرى في دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، مثل مولدوفا، وأرمينيا، وجورجيا، وأوكرانيا، وبيلاروس، ودول آسيا الوسطى، حيث كانت بمنزلة أداة روسية مفيدة للضغط أو التأثير في الدولة المضيفة، إذ إن موسكو أرادت الاحتفاظ بجيشها في الإقليم كدليل على قدرتها على بسط نفوذها على مناطق سيطرتها التقليدية، لكن الحرب في أوكرانيا أعادت خلط الأوراق، واستحوذت على موارد الكرملين واهتمامه منذ فبراير (شباط) 2022.
“لا يبقى أي مكان مهم فارغًا”؛ هذا أكثر ما يثير قلق روسيا من جراء انسحابها من إقليم كاراباخ، فبانسحابها هذا تخسر روسيا نقاط ارتكازها التاريخية في القوقاز إلى الأبد، وتترك فناءها الخارجي للقوى الإقليمية والدولية تتنافس فيه، وفي هذا السياق تتضح أبرز خسائر روسيا فيما يلي:
1-تنافس القوى الإقليمية والدولية على القوقاز:
يعمل الغرب بنشاط على ملء فراغ النفوذ في أرمينيا، وبمساعدة فرنسا، وكذلك اليونان والهند بدرجة أقل، يعاد تسليح الجيش الأرمني، حيث كثفت فرنسا، التي تعد موطن عدد كبير من الجالية الأرمنية، دعمها الدبلوماسي ليريفان خلال الأشهر الماضية، ووفرت رادارات وصواريخ دفاعية متطورة، وهو ما جعل روسيا تنزعج علنًا بشأن تقارب أرمينيا مع الغرب، وطالبت وزارة الخارجية الروسية هذا الأسبوع يريفان بالتنصل من التقارير التي تفيد بأنها تعمل على تعميق العلاقات العسكرية مع الدول الغربية.
لكن من غير المرجح أن تمنع تلك المساعدات أرمينيا من أزمة عسكرية محتملة، وقد لا يؤدي ذلك إلا إلى تأجيل الصدام الحتمي في الصراع الذي يلوح في الأفق، وفي هذا السياق، تظهر أيضًا تحديات جديدة لأذربيجان، التي تتعلق بمصالح الدول الأخرى؛ ما يؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية، وقد يجذب التصعيد في المنطقة تركيا- الحليف العسكري الرئيس لأذربيجان- التي تواجه مباشرة إيران صاحبة العلاقات التاريخية والسياسية مع أرمينيا، ويعمق من هذا الصراع؛ التحول المحتمل لسيطرة أذربيجان على ممر زانجيزور، الذي يمكن أن يغير- كثيرًا- التوازن الجيوسياسي لصالح تركيا، ما يفرض تحديات إستراتيجية أمام إيران من جراء توسيع نفوذها في آسيا الوسطى.
ومن جانب آخر، فإن علاقة أذربيجان بإسرائيل التاريخية، التي تنطوي على المساعدة في المنتجات النفطية، تزيد حدة التصورات السلبية لدى إيران، كما ينعكس في وسائل الإعلام الإيرانية المختلفة، وهذا من شأنه تعقيد المشهد الحالي بين اللاعبين الرئيسين؛ ومن ثم تصعيد الصراع في منطقة جنوب القوقاز بين القوى الإقليمية والدولية.
2-فقدان روسيا ثقة أرمينيا لصالح كسب ثقة أذربيجان:
قد يعود انسحاب بوتين من كاراباخ إلى الحفاظ على العلاقات الودية مع أذربيجان وتركيا في وقت يعاني فيه الكرملين العزلة بسبب حرب أوكرانيا، حيث يكشف تحليل السياسة الخارجية لأذربيجان في عهد الرئيس إلهام علييف سعيه إلى إقامة علاقات متوازنة مع روسيا، من خلال إستراتيجية ترمي إلى الحفاظ على الاستقرار، وتعزيز الشراكات الاقتصادية والعسكرية المفيدة بين موسكو وباكو. في المقابل، تهدف روسيا إلى تقويض طموح رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، في توثيق العلاقات أرمينيا مع الدول الغربية، وهو الموقف الذي يعتبره الكرملين تهديدًا مباشرًا لنفوذ روسيا في القوقاز.
ومع أن روسيا لا تزال تحتفظ بقاعدة عسكرية تضم ثلاثة آلاف جندي في أرمينيا، كان انسحاب قوات حفظ السلام بمنزلة القشة الأخيرة ليريفان، حيث اعتبرت الأخيرة أن موسكو خانت الشعب الأرمني؛ لذا ركز رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في تصريحاته الأخيرة على علاقاته مع الغرب، واستمر في مهاجمة الحليف التقليدي الذي يتهمه بالفشل، مشددًا على أن أرمينيا ليست حليفة روسيا في الحرب في أوكرانيا، وبهذا فقدت موسكو قدرتها على استغلال النزعة الانفصالية الأرمينية في القوقاز لتحقيق النفوذ الإقليمي لروسيا.
3-تآكل مهمة قوات حفظ السلام الروسية:
تم نشر قوات حفظ السلام الروسية في كاراباخ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وكُلفت في البداية بحماية السكان الأرمن من الأعمال الانتقامية المحتملة من جانب أذربيجان بعد وقف الأعمال العدائية العسكرية في المنطقة، ومع ذلك، واجهت هذه المهمة تحديات غير متوقعة عندما حدث نزوح جماعي للسكان الأرمن من المنطقة في الفترة ما بين 25 سبتمبر (أيلول) و3 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، هذا التحول الديموغرافي الدراماتيكي ترك المنطقة شبه خالية من المدنيين، مما أدى إلى تقويض مبرر مواصلة جهود حفظ السلام، ونتيجة لهذا لم تنجز وحدة حفظ السلام مهمتها بالكامل على النحو المنشود والمنصوص عليه في الاتفاق الثلاثي، فمن الناحية النظرية، فإرسال قوة روسية لحفظ السلام كان ينبغي أن يؤدي إلى استقرار الوضع في المنطقة فترة طويلة، لكن هذا لم يتحقق، واستمر الصراع المسلح بين أرمينيا وأذربيجان على منطقة كاراباخ.
التوجهات التي تتبناها روسيا والدول الغربية في أرمينيا تظهر إستراتيجيات وأهدافًا متباينة، فقد يتىتب على انسحاب موسكو من إقليم كاراباخ، تآكل ثقلها الجيوسياسي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي؛ مما يسلط الضوء على مستقبل التزامها بالحفاظ على الوجود الروسي في جنوب القوقاز، وعلى العكس من ذلك، فإن الغرب، وخاصة فرنسا ودول الناتو الأخرى، ينظر إلى سياسته في أرمينيا باعتبارها موقفًا مربحًا للجانبين، ويتلخص هدفهم الرئيس في ترسيخ موطء قدمهم على مرحلة القوقاز في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي، وتنطوي هذه الإستراتيجية على دعم الجيش الأرميني وتعزيز نفوذه، على الرغم من الأخطار المحتملة على أمن المنطقة في حالة تصاعد الصراع.
وبالنظر إلى أذربيجان، يتطلب الوضع الحالي مواصلة سياستها الخارجية الحذرة والمتوازنة، ومن شأن تنفيذ هذه الإستراتيجية بنجاح أن يعزز- إلى حد كبير- مكانة أذربيجان الجيوسياسية في المنطقة، ما قد يساعد البلاد على تجنب مزيد من الصراعات، والحفاظ على علاقات مستقرة مع اللاعبين الإقليميين الرئيسين، وتعزيز نفوذها باعتبارها قوة محورية في جنوب القوقاز، وهذا يفرض على باكو موازنة تحركاتها الدولية بعناية، لا سيما في سياق التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في المنطقة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.