يعيش في الهند جالية يهودية صغيرة يبلغ عددها (6000) نسمة في التعداد السكاني لعام 2011، ولا يكاد يكون وجودهم معروفًا إلا في المناطق المعنية؛ بسبب الهجرة إلى إسرائيل منذ عام 1948، حيث بلغ عددهم آنذاك ما بين 25 و30 ألف نسمة. عُرف مُعظم اليهود في الهند باسم اليهود البغداديين أو العراقيين، مع أن توافد اليهود على الهند كان من غرب آسيا ككل، وكان أول مستوطن يهودي بغدادي هو شالوم بن هارون من حلب، سوريا، الذي وصل عام 1790، واستقر في سورات، في غرب الهند[1]. ويعود الفضل إلى صهره موسى كوهين في تأسيس الجالية اليهودية في كلكتا.
في القرن التاسع عشر، كان هناك نحو 100 يهودي من بغداد، والبصرة، وحلب، واليمن، شكلوا مستعمرة سورات اليهودية الناطقة بالعربية، وأبرزهم كانت عائلة ساسون، التي قادت سلالة تجارية امتدت من كلكتا وبومباي إلى سنغافورة وشانغهاي، وحصلت على لقب “روتشيلد الشرق”، وجنوا ثرواتهم من خلال تجارة القطن، والحرير، والجوت، والتبغ، والنيلي، والأفيون، وشهد فندق السلام الفائق الفخامة، الذي بناه فيكتور ساسون، وكذلك متنزه ساسون في شنغهاي، على الارتباط الوثيق بين التجار اليهود البغداديين في الهند وغيرهم من التجار الأوروبيين في ذلك الوقت.
عندما وصل اليهود البغداديون لأول مرة إلى مدينتي بومباي وكلكتا الساحليتين، سارعوا إلى إدراك مزايا المراكز الحضرية التي يحكمها البريطانيون. وتحت مظلة الراج البريطاني، لم يُنشئ هؤلاء المهاجرون اليهود إلى الهند مؤسسات مالية كبرى فحسب، مثل بنك الهند، وبورصة كلكتا؛ لكنهم أنشؤوا أيضًا مساحات اجتماعية ومؤسسية، مثل المدارس والمعابد اليهودية. وقد عملت هذه العناصر الاجتماعية والثقافية على تلبية متطلبات المجتمع الآخذ في التوسع، الذي جاء غالبيته إلى الهند من خلال نظام الهجرة المتسلسلة. في البداية، واتباعًا لمبادئ حاخامية بغداد والقدس، نظر يهود كلكتا إلى أراضي أجدادهم للحصول على التوجيه في الأمور التجارية والروحية، ولكن تدريجيًّا، ومع مرور الوقت، ضربوا جذورًا راسخة في المدينة، وتطلعوا إلى البريطانيين لتلبية احتياجاتهم المدنية والاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وصول البغداديين إلى الهند بعد أن ثبت البريطانيون أنفسهم حكامًا، كانت له عواقب أثرت في العلاقات بينهم وبين بقية السكان. عند وصولهم إلى الهند- بوصفهم وافدين جددًا- رأى البغداديون الذين لم يكونوا على دراية بأسلوب الحياة الهندي، أن الانقسام العرقي يتميز- على نحو رئيس- بالاختلاف في لون البشرة الذي يبقي الحاكم والمحكومين منفصلين؛ لقد رأوا أيضًا ختم الدونية الذي وُضع على المحكومين، وشعروا بالازدراء الذي يُعاملون به؛ لذا، في ظل هذه الظروف، كان من غير الملائم لليهود البغداديين تعريف أنفسهم بأنهم هنود، ومع بشرتهم الفاتحة قليلًا، يمكنهم البقاء متميزين، ومنفصلين.
بعد تمرد عام 1857، رُسِمَت الخطوط الفاصلة بين البريطانيين والهنود على نحو أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. وقد اختفى كل ما كان ليبراليًّا في الراج البريطاني، مع ظهور الجانب العنصري للإمبريالية. لقد أحدث هذا اضطرابًا عميقًا في موقف المجموعات الوسيطة، مثل اليهود البغداديين؛ ونتيجة لذلك، أصبح اليهود في كلكتا مرتبطين بالبريطانيين، وانضموا إلى الأندية التي استُبعِدَ الهنود منها على نحو صارم، وربطوا مؤسساتهم التجارية والصناعية بغرف التجارة البريطانية.
واتخذ معظم يهود الهند أسلوب حياة أوروبيًّا من حيث اللباس والأخلاق والعادات. وكان هناك بعض الفوائد الملموسة في تصنيفهم على أنهم “أوروبيون”، فقد كانت جداول الرواتب مختلفة بين “الأوروبيين” و”السكان الأصليين”، وكان لدى الأوروبيين مزيد من الفرص التجارية، والائتمانات المصرفية، وما إلى ذلك؛ لذا وجد اليهود الذين لهم علاقات وثيقة مع الحكام البريطانيين أن عملياتهم التجارية تتوسع. وكانت جمعية الدفاع الأوروبية مفتوحة فقط للأوروبيين، بما في ذلك اليهود. وانضم اليهود والأرمن إلى الجوقة مع الأوروبيين الآخرين؛ احتجاجًا على نص مشروع قانون ينص على المحاكمة أمام قضاة هنود. وقد استلزم موقف اليهود هذا الرفض التدريجي والكراهية لما عُرف بالـ “اليهودي العربي في الراج البريطاني”.
خلال الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت المعلومات عن الهولوكوست تتسرب، قيدت بريطانيا هجرة الشعب اليهودي الأوروبي إلى بريطانيا بموجب قانون الأجانب لعام 1905، لكنها سمحت لهم بالسفر إلى الهند، ربما للاستفادة من الوجود السلمي السابق للمجتمع هناك، فقد كانت الجالية اليهودية الهندية في حالة مستقرة. ولم يكن هناك عنف ضدها، داخليًّا أو خارجيًّا، تاريخيًّا. وعبّر جواهر لال نهرو، رئيس الوزراء الهندي، عن تعاطفه مع ضحايا المحرقة: “قلة من الناس يستطيعون حجب تعاطفهم العميق مع اليهود طوال القرون الطويلة من أفظع الاضطهاد الذي تعرضوا له في جميع أنحاء أوروبا. ولا يزال عدد أقل من الناس قادرين على قمع سخطهم على الأعمال الوحشية والقمع العنصري لليهود الذي انغمس فيه النازيون خلال السنوات القليلة الماضية، والذي يستمر حتى اليوم. وحتى خارج ألمانيا، أصبح اصطياد اليهود هواية مفضلة لمختلف الجماعات الفاشية”.
وتلقى حزب الكونغرس الحاكم آنذاك في الهند في وقت لاحق كثيرًا من الطلبات من الأعضاء اليهود في الجمعية الهندية الألمانية، ولجنة الطوارئ الألمانية، وغيرها من المنظمات العاملة في أوروبا، لتصبح الهند نقطة عبور لليهود الفارين من الاضطهاد النازي في ألمانيا، وبولندا المحتلة، ومناطق أخرى، وأصدر القائم بأعمال القنصل الهولندي في ليتوانيا، جان زوارتينديك، والقنصل الياباني في ليتوانيا، تشيوني سوغيهارا، أكثر من (4400) تأشيرة عبور مهدت الطريق للوصول إلى فلسطين بوصفها وجهة نهائية لليهود عبر المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية في جنوب إفريقيا، وأستراليا، والهند[2].
أصبحت بومباي في الهند نقطة عبور رئيسة، حيث كان كثير من اليهود يضطرون في كثير من الأحيان إلى الانتظار عدة أشهر للحصول على تأشيرات دخول إلى فلسطين، وجنوب إفريقيا، والبرازيل، من بين أماكن أخرى، في ظل رفض العراق ومصر تسهيلات العبور لهؤلاء الأشخاص بسبب المشاعر العربية الغاضبة من الاستيطان آنذاك. وقد أنشأت جمعية الإغاثة اليهودية (JRA) مكاتب في بومباي وكلكتا، وشكّلت القنصلية البولندية في بومباي، العاملة منذ عام 1933- على الفور- لجنة الإغاثة البولندية (PRC)، وأصبحت نشطة في تقديم الإغاثة لهؤلاء الأشخاص، بالتعاون مع جمعية الإغاثة اليهودية، وأسهم كثير من الصناعيين الهنود والمؤسسات الخيرية، ومنهم عائلة تاتا الشهيرة، بسخاء في هذه الجمعية. وقد منحت حكومة بومباي تأشيرات دخول لـ330 شخصًا؛ لإجلائهم من رومانيا، ويوغوسلافيا.
يشكل يهود الهند واحدة من الجاليات اليهودية النادرة التي عاشت في سلام، ولم يواجه اليهود الهنود قط أي نوع من الاضطهاد، أو معاداة السامية في الهند، بل مارسوا الديانة والعادات اليهودية دون أي عوائق، باستثناء بضع سنوات خلال الحكم البرتغالي، الذي كان امتدادًا لمحكمة التفتيش في الهند. ووفقًا للتقاليد المحلية، تحولت كثير من العائلات اليهودية إلى المسيحية خلال تلك الفترة، وشكلت كل ست أو ثماني عائلات نفسها في مجموعة، ولم تتزاوج من خارجها، وعاش معظم اليهود في القرى، وكانت لهم علاقات ودية مع جيرانهم غير اليهود. إن صورة اليهودي في نظر العالم المسيحي والإسلامي على أنها مخلوق يعيش في حالة من عدم الاستقرار تحت رحمة متقلبة لم تكن صحيحة على الإطلاق في الهند، وتمتع اليهود بمشاركة كاملة في حياة المجتمع العام.
عام 1947، ومع استقلال الهند، تنازل جميع أمراء الهند عن سلطتهم للحكومة الهندية المركزية، وأصبحت البلاد ديمقراطية علمانية، وكان هذا يعني لليهود أنهم فقدوا امتيازاتهم السياسية؛ فقد كانت إحدى السياسات الأولى لحكومة نهرو حظر استيراد السلع الفاخرة، وكان كثير من اليهود تجارًا يجلبون إلى الهند السلع الفاخرة، مثل المشروبات الكحولية من المملكة المتحدة، والملابس الفاخرة من أوروبا، وكانوا يبيعونها في الأساس إلى البريطانيين، وغيرهم من النخب في الهند، وقد تسبب التغيير السياسي في مشكلات اقتصادية لهم. وكذلك تأميم مزارع جوز الهند (المحصول النقدي الأكثر قيمةً اقتصاديةً في المنطقة) التي كانت مملوكة لهم جزئيًّا. كما أُمِّمَت شركات الكهرباء والنقل والمياه، وحصل أصحابها اليهود على تعويضات، لكن كثيرًا من الموظفين اليهود فقدوا وظائفهم، وتسببت العوامل السياسية والاقتصادية والدينية في رحيلهم إلى الخارج، وخاصة إلى إسرائيل.
يبلغ عمر الجالية اليهودية الهندية قرونًا، ولا بد من الإشارة إلى أن المعابد اليهودية تقع في مناطق ذات أغلبية مسلمة في أحمد آباد، ومومباي. وحتى الآن، المؤسسات آمنة، ومحمية من أفراد من كلا المجتمعين، ولم يُبلَّغ عن أي حادث من أي من هذه المعابد اليهودية. في الواقع، يبرز هذا استثناءً عالميًّا آخر، يتمثل في عيش اليهود والمسلمين معًا في وئام واحترام وحماية أماكن العبادة، لكنَّ هناك اختبارًا حقيقيًّا وصعبًا قد يؤثر في استمرار هذه الثقافة المتسامحة في ظل الاستقطاب العالمي المتزايد في غرب آسيا، على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.