“لا أستطيع العيش في بلد في حالة حرب مع جيرانه”..
هكذا برر بعض اليهود الروس مغادرتهم روسيا عام 2022.
قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، في أثناء حديثه في لاس فيغاس، أمام أنصار الحزب الجمهوري من اليهود: “لقد وقفت مع رئيس وزرائكم في البيت الأبيض للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان”. أثار هذا البيان رد فعل غير غامض من جانب اليهود الأمريكيين، الذين، على الرغم من كل تعاطفهم مع دولة إسرائيل، كان رد فعلهم مؤلمًا جدًّا على أي اتهامات بالولاء المزدوج. مباشرة بعد خطاب ترمب، أعلنت اللجنة اليهودية الأمريكية (AJC) أن “رئيس وزراء إسرائيل، هو رئيس بلاده، وليس بلدنا، والادعاءات التي تقول عكس ذلك، سواء من الأصدقاء المخلصين، أو من الأعداء الخبثاء، لا تؤدي إلا إلى تأجيج التعصب”[1]. إلا أن ما يرفضه يهود الولايات المتحدة ربما كان موضع ترحيب من يهود روسيا، كما أظهرت أحداث العامين الماضيين بوضوح.
لم تكن بداية “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، نقطة تحول في تاريخ روسيا وأوروبا فحسب؛ بل كانت نقطة تحول مهمة في تاريخ يهود روسيا. أثارت هذه العملية جدلاً في المجتمع الروسي، لكن طوال عام 2022، دعم زعماء الديانات الرئيسة في البلاد بشكل عام موقف الحكومة. وبالفعل، في أبريل (نيسان) 2023، وصفت صحيفة “واشنطن بوست” البطريرك كيريل بأنه: “أحد أبرز المؤيدين للحرب”[2] في سبتمبر (أيلول) 2023، أكد أيضًا المفتي الأعلى لمسلمي روسيا، طلعت تاج الدين، دعمه وتأييده “للعملية العسكرية الخاصة”، مشيرًا إلى أن مسلمي البلاد “دعموا هذه العملية، منذ اليوم الأول”[3]. صرح رئيس الطائفة البوذية التقليدية في روسيا “سانغا”، بانديتو خامبو لاما أيوشيف، أنه “كان يصلي من أجل المقاتلين الروس في شرق أوكرانيا”[4].
إن غياب ممثلي الجالية اليهودية في الاتحاد الروسي عن هذه الحالة الجماعية من المؤيدين لا يمكن أن يمر دون أن يلاحظه أحد، خاصة أنه في الأشهر التالية، اتخذ كثير من الممثلين البارزين لليهود الروس موقفًا نشطًا مناهضًا للحكومة. وكان التحرك الأكثر شهرة هو مغادرة الحاخام الأكبر لكنيس موسكو، بنحاس غولدشميت، روسيا، وإعلانه- صراحةً- معارضة “العملية العسكرية الخاصة”، وأتبع ذلك، بدعوة اليهود أيضًا إلى الفرار من روسيا. وقد قال على نحو محدد: “إن روسيا تعود إلى شكل جديد من الاتحاد السوفيتي، وخطوة بخطوة يُسدل الستار الحديدي مرة أخرى… لذلك أعتقد أن الخيار الأفضل لليهود الروس هو المغادرة”[5]. الحاخام الوحيد المعروف الذي تحدث علنًا دعمًا “للعملية العسكرية الخاصة” هو نائب رئيس مؤتمر المنظمات والجمعيات الدينية اليهودية في روسيا (КЕРООР) شلومو زلوتسكي، وذلك في مقابلة مع قناة “TV Rain” التليفزيونية الدعائية الغربية.
في حين صرح سيميون دوفجيك، صاحب قناة “المسألة اليهودية” على التيليغرام: “حسنًا، كما تعلمون، أي مجتمع، بما في ذلك المجتمع اليهودي، ليس متجانسًا، ويمكن أن تكون هناك آراء مختلفة، ولكن يجب أن أقول إن هذا الحاخام، شلومو زلوتسكي، هو الشخص الوحيد عمليًّا، والممثل الوحيد داخل المجتمع اليهودي في موسكو الذي دعم الحرب في أوكرانيا!”[6].
ويبدو أن تصريح دوفجيك قريب من الحقيقة، وتؤكده الهجرة الجماعية لليهود الروس إلى إسرائيل بعد فبراير (شباط) 2022. بعد ستة أشهر من بدء الأعمال العسكرية في أوكرانيا، استقبل مطار بن غوريون، نحو 19 ألف مهاجر من روسيا[7]. ما يثير الاهتمام بشكل خاص هو تركيبة موجة الهجرة هذه، التي لوحظ من بينها أبرز الشخصيات الإعلامية. على سبيل المثال، من بينهم المغنية آلا بوغاتشوفا، أكبر نجمة في موسيقى البوب السوفيتية في السبعينيات والثمانينيات، وزوجها الممثل الكوميدي أندري غالكين، أحد أشهر الكوميديين في روسيا، ومغني الروك الشهير سيرغي سليباكوف، وزميله أندري ماكاريفيتش، والمخرج تيمور بيكمامبيتوف، وكذلك أناتولي تشوبايس، نائب رئيس وزراء الحكومة الروسية السابق، الذي ترتبط شخصيته في نظر معظم الروس بالكارثة الاقتصادية التي حدثت في أوائل التسعينيات[8]. أعرب هؤلاء جميعًا- بدرجة أو بأخرى- عن رفضهم “العملية العسكرية الخاصة”، أو دعمهم نظام كييف الحالي. أصبح تصريح رئيسة ياندكس السابقة إيلينا بونينا، التي غادرت إلى إسرائيل بسبب “إحجامها عن العيش في بلد في حالة حرب مع جيرانه”، معروفًا على نطاق عريض. وقد أثار هذا البيان كثيرًا من التعليقات الساخرة، ليس فقط في روسيا، ولكن في الخارج أيضًا. وكما كتب إيغور فاسيليف، المراسل الخاص لصحيفة “فزغلياد”، فإن عبارة “لا أستطيع العيش في بلد في حالة حرب مع جيرانه، واختيار إسرائيل بدلًا من روسيا، يمثلان حالة من ازدواجية المعايير المفضوحة”[9].
في المقابل، استغلت الصحافة الغربية هذه التصريحات لأغراض دعائية، لتتخذها أساسًا للترويج للدعاية القديمة، التي تتهم روسيا بـ”معاداة السامية”، في حين كتب موقع “The Jewish Chronicle” البريطاني: “لقد دمر بوتين النهضة اليهودية في روسيا”، مدعيًا أن الكرملين: “سيعيد حتمًا توجيه الغضب الناجم عن الأخطاء والإخفاقات في الحرب تجاه اليهود[10]“. كما اتهم متحف الهولوكوست التذكاري في واشنطن، الزعيم الروسي بوتين، باستخدام “أكاذيب معادية للسامية”[11].
وكما تعلمون، فإن الجريمة التي لم ترتكب هي الأصعب في دحضها، والكرملين يفضل عدم مناقشة ما يحدث اليوم مع الجالية اليهودية، ويتجاهل- بازدراء- الاتهامات بمعاداة السامية. والأمر الوحيد الذي لا تستطيع موسكو تحمله، هو تعرضها للوم من الشخصيات الثقافية اليهودية، التي غادرت البلاد، متجاهلة الجرائم التي ارتكبها المتواطئون الأوكرانيون مع النازيون ضد اليهود.
يمكن وصف موقف اليهود الروس من الصراع في أوكرانيا بالسلمية ورفض العنف، لكن ما دحض هذا الادعاء، عملية القتل المستمرة لسكان قطاع غزة، التي بدأت بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، حيث أدى هجوم حماس على إسرائيل إلى اجتياح جيش الدفاع الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية، الذي قُتل خلاله أكثر من 30 ألف مدني فلسطيني، ووجهت اتهامات خطيرة بالإبادة الجماعية والنهب والاغتصاب إلى الجيش الإسرائيلي.
كل هذه الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، لم تزعج اليهود الروس، ولا المهاجرين الجدد إلى إسرائيل، واليهود الذين بقوا في روسيا، والأشخاص الذين هاجروا إلى أراضي دول ثالثة، بل إنهم أيدوا بالإجماع تقريبًا العمليات العقابية الأكثر وحشية التي قام بها جيش الدفاع الإسرائيلي.
صرح مكسيم غالكين، الذي سبق ذكره أعلاه، أنه: “إذا كنت قد خدمت في الجيش الإسرائيلي، وكان هناك على الأقل بعض الأسباب التي تدفعني إلى الذهاب الآن للدفاع عن إسرائيل، فسوف أذهب”. وتمنى نجم الروك السابق أندري ماكاريفيتش النصر لـ”مقاتلينا”، وقال إنه “يعد الساعات حتى انتصارنا”. وفي وقت لاحق، أنتج أيضًا فيلمًا دعائيًّا مخصصًا للمستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، التي تُقدَّم على أنها أراضٍ يهودية في الأصل.
وقال المذيع التليفزيوني الساخر فيكتور شندروفيتش، الذي هاجر إلى أوروبا: “يؤسفني أنني لست في إسرائيل الآن. في مثل هذه الأيام أود أن أكون هناك”. ولكن ربما كان البيان الأكثر إثارة للصدمة يعود إلى تمارا إيدلمان، ابنة المؤرخ السوفييتي الشهير ناثان إيدلمان، الذي انتقل إلى البرتغال، حيث قالت: “أنظر إلى لقطات الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وأشعر بالشماتة والتعطش، إلى إسالة دماء الأعداء، والقول هيّا أيها الأبطال في جيش الدفاع الإسرائيلي، اضربوا هؤلاء الأوغاد مرة أخرى!”[12].
في حين ذهب كبير حاخامات روسيا، بيريل لازار، شخصيًّا إلى قطاع غزة؛ لدعم الجنود الإسرائيليين. وقال في كلمته: “أنا تلميذ مدرسة مناشيم مندل شنيرسون، الذي قال مرارًا وتكرارًا: إن الجنود هم أقدس ما في الشعب اليهودي. إن قيامكم أيها الجنود بالتضحية بأنفسكم كل يوم هو أعلى مستوى روحي يمكن أن يصل إليه الإنسان… اعلموا أنكم تنقذون الشعب اليهودي، ليس فقط في إسرائيل. بل تنقذون الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم”[13]. تجدر الإشارة إلى أن بيرل لازار، أو أي حاخام آخر، لم يزر القوات الروسية في المنطقة العسكرية الشمالية، ولم يعربوا عن أي دعم لهم.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة في هذا الوضع هو حقيقة أنه على الرغم من الخيانة الواضحة لجزء كبير من المجتمع اليهودي للكرملين، بالإضافة إلى تعاطفهم العلني المؤيد لإسرائيل، فإنه لا يوجد نمو في المشاعر المعادية لليهود في روسيا، حيث تظل سياسة الدولة إيجابية تجاه اليهود في روسيا. وفي رسالته إلى الجمعية الفيدرالية في 29 فبراير (شباط) 2023، قال فلاديمير بوتين: “لقد أثبت جنودنا وضباطنا- المسيحيون والمسلمون والبوذيون وأتباع اليهودية، وممثلو المجموعات العرقية والثقافات والمناطق المختلفة، في الواقع، أفضل من ألف كلمة، أن التماسك والوحدة التي دامت قرونًا من الزمن بين شعب روسيا هي قوة عظيمة قاهرة”[14].
الحادث الوحيد الملحوظ المعادي لليهود خلال “العملية العسكرية الخاصة”، وعملية “السيوف الحديدية الإسرائيلية”، الذي يمكن اعتباره يحمل صفة “العداء” لليهود، هو الذي وقع في مطار محج قلعة، في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. في ذلك اليوم، انتشرت شائعات في جميع أنحاء جمهورية داغستان الفيدرالية الروسية، مفادها أنه أُجلِيَ الإسرائيليون إلى الجمهورية، وبدأ حشد من الناس أعمال شغب في مطار أويتاش الدولي. ولقي هذا الحدث صدى دوليًّا عريضًا، مع أن ما حدث اتخذ طابعًا تراجيديًّا. وكما كتب المدونون الروس: “لقد نظموا مذبحة في داغستان، لكن اليهود لم يحضروا”. ونتيجة لذلك، لم يتضرر سوى الجزء الداخلي من المطار، وعدد قليل من ضباط الشرطة ومثيري الشغب.
أعلنت وسائل الإعلام الغربية والروسية المعارضة، على نحو متوقع، أن الأحداث التي وقعت في محج قلعة كانت بمنزلة “إحياء لمعاداة السامية التقليدية في روسيا”، مدعين أن ما شوهد بالأمس في داغستان، لا يمكن وصفه إلا بأنه “عرض مخيف للكراهية والتعصب والترهيب”. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي: “يمكن مقارنة هذا الحادث بالمذابح التي وقعت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لليهود في روسيا، وأعتقد أن هذا ربما يكون وصفًا مناسبًا بالنظر إلى الفيديو الذي شاهدناه”[15]. ومع ذلك، فإن هذه الحادثة لا يمكنها تفسير العلاقات بين يهود روسيا والدولة والمجتمع من خلال إسقاط نماذج أوائل القرن العشرين على يومنا هذا.
لقد أظهرت أحداث العامين الماضيين أن اليهود الروس لا يربطون أنفسهم بالبلد الذي ولدوا ونشؤوا فيه. حتى المذيع التليفزيوني فلاديمير سولوفيوف، الذي ربما يكون أشهر صحفي مؤيد للحكومة في روسيا، قال بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) إنه لولا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، لذهب إلى إسرائيل “للدفاع عن شعبه”[16].
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تبنت السلطات الروسية والسكان اليهود في البلاد رواية صهيونية تعتبر اليهود مهاجرين من الشرق الأوسط، ومواطنين محتملين في إسرائيل، ولدوا ويعيشون في روسيا بحكم الظروف فقط. ومن المثير للاهتمام أن هذا يتداخل مع النظرة الليبرالية للعالم لكثير من ممثلي المثقفين اليهود، الذين اعتبروا أنفسهم ممثلين “للعالم الغربي المتحضر”، مرة أخرى بسبب الظروف التي أجبرتهم على العيش في “روسيا غير الديمقراطية”.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن جزءًا كبيرًا من قادة الجالية اليهودية في روسيا هم مواطنون أجانب، وجاءوا إلى هذا البلد من الخارج. ولد الحاخام الرئيس للاتحاد الروسي بيريل لازار في ميلانو، وعاش ودرس في الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1990. يشغل أبناؤه، الذين لم ينشؤوا أيضًا في روسيا، مناصب كبار حاخامات سيمفيروبول، وكراسنودار، وسوتشي. أما بنحاس غولدشميت، الحاخام الرئيس السابق لموسكو، الذي لم يعارض علنًا ”العملية العسكرية الخاصة” فحسب، بل اتهم القيادة الروسية بمعاداة السامية، فقد وُلد في زيورخ، وجاء لأول مرة إلى الاتحاد السوفيتي عام 1989. ولد الحاخام الأكبر لسانت بطرسبورغ مناخيم مندل بيفزنر، في نيويورك. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من هؤلاء الأشخاص يمثلون الحركات في اليهودية، التي تقع مراكزها خارج روسيا، في الولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول. ليس من المستغرب أن يأخذ الحاخامات الروس في الحسبان الاتجاهات السياسية الحالية في وطنهم.
ومع ذلك فإن السلطات الروسية لا تنوي حاليًا اتخاذ أي خطوات يمكن تفسيرها على أنها تعدٍّ على حقوق الطائفة اليهودية. أولًا وقبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى موقف رئيس روسيا فلاديمير بوتين قائم على الإخلاص تقليديًّا لحلفائه وشركائه، حتى لو فشلوا في تحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقهم. ومن الأمثلة على هذه الشراكة، تعاون الكرملين مع حركة تشاباد- لوبافيتش. يعتقد أستاذ الدراسات اليهودية في جامعة ميشيغان، زفي غيتلمان، أنه بعد توليه منصبه، دخل بوتين في مواجهة مع الأوليغارشية اليهودية المؤثرة، مثل فلاديمير جوسينسكي، وبوريس بيريزوفسكي. ووفقًا لغيتلمان: “عندما عارض بوتين هؤلاء الأوليغارشيين، شعر أن هذا يمكن تفسيره على أنه معاداة للسامية. ثم خاطب على الفور- علانية، وعلى نحو واضح ودراماتيكي- حركة تشاباد- لوبافيتش”. كان هذا بمنزلة بداية تحالف طويل متبادل المنفعة، حيث أصبحت حركة تشاباد- لوبافيتش، بمساعدة بوتين، الاتجاه الديني السائد عن اليهودية بين السكان غير المتدينين إلى حد كبير”.
واليوم، يبدو بوتين متعاطفًا مع الصعوبات التي قد يواجهها حلفاؤه من حركة تشاباد- لوبافيتش في الغرب بشأن المواقف المناصرة علنًا لروسيا، ولا يضغط عليهم لحملهم على إظهار قدر أكبر من الولاء[17].
هناك عامل مهم آخر يجبر السلطات على تجاهل المساعي المناهضة لروسيا من جانب كثير من الزعماء اليهود، وهو الحرب في أوكرانيا. يصف الجانب الروسي النظام الحالي في كييف بأنه خليفة للمتعاونين مع النازيين، الذين شاركوا بنشاط في إبادة السكان اليهود. تنشر وسائل الإعلام- بانتظام- مواد مخصصة لدور القوميين الأوكرانيين في إبادة اليهود، وتوفر أيضًا مواد تثقيفية عن الأشخاص الذين شاركوا- بنشاط- في إبادة اليهود داخل أوكرانيا الحديثة. وفي أحد خطاباته، أشار بوتين- على وجه التحديد- إلى أن النازيين والمتعاونين الأوكرانيين أبادوا “مليونًا ونصف المليون يهودي في أوكرانيا”[18].
ليس لدينا إحصاءات عن كيفية تغير المواقف تجاه اليهود في روسيا خلال العامين الماضيين. والمنطقة الوحيدة التي لوحظت فيها المشاعر المعادية لليهود في الأشهر الأخيرة هي شمال القوقاز، وهو ما ينبغي أن يدفع اليهود الروس إلى الشعور بالأسف. لعدة قرون، وحتى وقت قريب جدًا، كانت منطقة شمال القوقاز، واحدة من أكثر المناطق الإسلامية الصديقة لليهود في العالم. وكما كتب أحد المراقبين المؤيدين للغرب: “لقد أصبح اليهود في شمال القوقاز جزءًا من الفسيفساء العرقية والثقافية المحلية، وقد بقيت هذه الذاكرة، سواء في ذاكرة اليهود أنفسهم، أو في تصور جيرانهم. لقد ظل اليهود جزءًا من التقاليد المحلية”[19].
حاولت بعض الجماعات اليهودية في روسيا النأي بنفسها عن الدعم النشط “للعملية العسكرية الخاصة”، وإظهار الولاء لإسرائيل. ومع ذلك، انخفض تأثير الجالية اليهودية في روسيا انخفاضًا ملحوظًا، ويرجع ذلك- في المقام الأول- إلى أسباب موضوعية، إذ غادر البلاد خلال العامين الماضيين نحو 40 ألف يهودي، ذهب نصفهم تقريبًا إلى إسرائيل، وهذا رقم مهم للمجتمع الذي يبلغ عدد سكانه 200 ألف نسمة حتى عام 2022. كان كثير من المهاجرين من السياسيين، والصحفيين، ورجال الأعمال ذوي النفوذ، الذين لم يكن من الممكن إلا أن يشكل غيابهم عن الفضاء الإعلامي الروسي تراجعًا في النفوذ. بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، سمعت مرارًا وتكرارًا من الصحفيين ووسائل الإعلام المختلفة أن عدد المنشورات المؤيدة لإسرائيل في منشوراتهم قد انخفض انخفاضًا ملحوظًا، ويرجع ذلك أساسًا إلى هجرة اليهود الذين عملوا في هذه المؤسسات الصحفية والاعلامية.
اعتمدت سياسة الاتحاد السوفيتي في حالة حدوث أزمة خطيرة في السياسية الخارجية السوفيتية، اتخاذ خطوات لتنظيم الجالية اليهودية في الاتحاد السوفيتي، والمرتبطة بهم في الخارج، لدعم الدولة. خلال الحرب العالمية الثانية، في 7 أبريل (نيسان) 1942، أُنشئت “اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية”، ودعت “الإخوة اليهود في جميع أنحاء العالم، إلى مساعدة روسيا السوفيتية”. وبعد مرور أربعين عامًا، في 29 مارس (آذار) 1983، أُنشئت “لجنة مناهضة الصهيونية” بهدف المعارضة الكاملة للصهيونية وإسرائيل. ومع أن هاتين المنظمتين أعلنتا أهدافًا سياسية خارجية بحتة، فإن كلتاهما ضمت نخبة من يهود الاتحاد السوفيتي، الذين تناولوا مختلف جوانب الحياة اليومية للجالية اليهودية، ومثلوا مصالحها أمام السلطات، وأظهروا أيضًا ولاء الجالية للدولة. وسيظهر المستقبل ما إذا كانت السلطات الروسية سوف تستعير الخبرة السياسية السوفيتية فيما يتعلق بالقضية اليهودية، أو أنها ستطور أساليب جديدة وأكثر حداثة لهذه المشكلة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.