الدفاع والأمن

اليابان- الخليج العربي.. غياب فاعلية الأمن الإقليمي


  • 12 فبراير 2024

شارك الموضوع

تعمل اليابان على تعزيز علاقاتها مع دول الخليج بما يتجاوز أمن الطاقة، حيث تحاول طوكيو أن تحجز لها مكانًا في ضوء مشروعات العواصم الخليجية الطموحة لنقل التكنولوجيا، ومشروعات الطاقة المتجددة والسياحة لتنويع مصادر اقتصاداتها المعتمدة على النفط والغاز. وقد قامت وزيرة الخارجية اليابانية يوكو كاميكاوا بعدة زيارات للشرق الأوسط على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأجرت حوارات سياسية قائمة على حل الدولتين، واتفاقيات أوسلو؛ في محاولة للوصول إلى تهدئة تمنع اندلاع حرب إقليمية، لتبدو اليابان عازمة على تقديم نفسها على أنها لاعب “مستقل” نسبيًّا عن الولايات المتحدة فيما يَخص السلام والأمن في الشرق الأوسط.

وقد أعاق تصور اليابان على أنها تابعة للولايات المتحدة أي دور محتمل في تشكيل البنية الأمنية الإقليمية لبلدان الخليج، لكن استمرار الاعتماد الياباني على التحالف الأمريكي لمعالجة التهديدات الأمنية من الصين وكوريا الشمالية لم يعد يعني أيضًا دعم المواقف الأمريكية في الخليج، لا سيما في ظل صعود النفوذ الصيني، حيث أدركت طوكيو أن التعاون المتقطع مع الهند في تطوير مواني الخليج، والوجود المتزايد لحماية المصالح في ممرات الملاحة البحرية المهمة، لم يترجم بعد إلى محاولات منسقة لتشكيل تعاون أمني ياباني- خليجي.

يوفير الخليج ما يتراوح بين (70 %) و(75 %) من احتياجات اليابان من النفط (الخام والمنتجات). ومنذ عام 1991، أصبحت اليابان “العميل الأساسي” للغاز القطري، واستقبلت أولى الشحنات من الغاز الطبيعي المسال عام 1997. وفي عام 2019، كانت قطر ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال لليابان بعد أستراليا وماليزيا، في حين أصبحت الإمارات العربية المُتحدة أكبر مورد للنفط الخام للسوق الياباني؛ لذا، وبينما كانت الولايات المتحدة تاريخيًّا مؤيدة لإسرائيل، حاولت اليابان إظهار موقف أكثر تأييدًا للفلسطينيين لاسترضاء دول الخليج، وضمان إمداداتها من النفط والطاقة. ومع ذلك، انخرطت دول الخليج الآن في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وأصبحت تعتمد الوجود الأمريكي العسكري في المنطقة، لكن هذا لا يُعطي أفضلية لليابان؛ بل هناك انتقادات أن طوكيو تستفيد مجانًا من الأمن العالمي.

الأمن القومي الياباني.. منظور مُشوش

في أول إستراتيجية يابانية تاريخية للأمن القومي صدرت في عام 2013، حددت اليابان سياسة “المساهمة الاستباقية في السلام”، حيث خصت الوثيقة- صراحة- أمن “الممرات البحرية الممتدة من الخليج العربي حتى بحر الصين الجنوبي إلى اليابان”، وأصبح كونو تارو أول وزير خارجية ياباني يحضر حوار المنامة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، وفي عام 2019 شارك تارو بصفته وزيرًا للدفاع في حوار المنامة، وأعلن رغبة اليابان في الاضطلاع بدور إقليمي أكثر نشاطًا، لا سيما في جهود الحفاظ على الأمن البحري، وحرية الملاحة في المنطقة. وفي حوار المنامة 2022، شارك وفد أمني ياباني رفيع المستوى برئاسة الأدميرال إيجاوا هيروشي، المدير العام للتخطيط والسياسات الدفاعية في وزارة الدفاع اليابانية، وذلك لمناقشة التهديدات الأمنية، وعلى رأسها هجمات حركة أنصار الله (الحوثي) من اليمن على سفن التجارة والشحن الدولية.

نهاية عام 2023، أدانت الحكومة اليابانية (بشدة) استيلاء الحوثيين على السفينة التجارية المرتبطة برجل أعمال إسرائيلي في البحر الأحمر، بعد أيام من تهديدهم باستهداف السفن الإسرائيلية، في تصعيد جديد لهجماتهم ضد إسرائيل ردًا على حربها على غزة. وناشد مجلس الوزراء الياباني السعودية وعُمان وإيران التواصل مباشرة مع الحوثيين للإفراج عن طاقم السفينة الذي لا يوجد به مواطنون يابانيون، ولكن شركة “نيبون يوسين” اليابانية هي التي تدير السفينة.

ومع ذلك، لم تعلن اليابان- صراحة- عن أي تحرك عسكري نحو مياه الممرات الإستراتيجية في الخليج العربي، علمًا بأنه سبق لقوات الدفاع الذاتي القيام بعدة عمليات في الخليج، مثل عملية فجر الخليج، ومهمة كاسحة الألغام لقوات الدفاع الذاتي البحرية بعد حرب الخليج عام 1991، وكان هذا أول انتشار خارجي ياباني منذ عام 1945. ويوجد قادة قوات الدفاع الذاتي البحرية وضباط الاتصال أيضًا في مقر قوة المهام المشتركة 151 في البحرين، وهي قوة متعددة الجنسيات لمكافحة الإرهاب، وأُنشئت فرقة عمل لمكافحة القرصنة في عام 2009 بموجب تفويض من الأمم المتحدة، وتقوم قوات الدفاع الذاتي البحرية بعمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن، بالإضافة إلى التدريبات البحرية مع الشركاء في المياه الإقليمية، مثل الهند.

وهذه ليست المرة الأولى؛ ففي عام 2019، أعلنت اليابان أنها لن تنضم إلى الولايات المتحدة في مهمة أمنية لحماية السفن التجارية المارة عبر ممرات مائية رئيسة في الشرق الأوسط، وستدرس بدلًا من ذلك نشر جيشها بشكل مستقل. ومن خلال تتبع تصورات اليابان لأمن الخليج، وبالرغم من حديث طوكيو عن تعميق الأمن مع الخليج، فإن الإجراءات الملموسة لم تكن كافية. على سبيل المثال، الشراكة اليابانية الإستراتيجية الشاملة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أُعلنت عام 2017، تضمنت نقل التكنولوجيا الدفاعية، وعقد اجتماعات أمنية منتظمة، وعُيِّنَ ملحق دفاعي في السفارة اليابانية، وهناك سرب تدريب من قوات الدفاع الذاتي البحرية اليابانية يرسو دوريًّا في دولة الإمارات العربية المتحدة، إلا أن طوكيو رفضت إتمام صفقة طائرات النقل “كاواساكي سي- 2” لصالح الإماراتيين.

أما فيما يتعلق بالتعاون الياباني- السعودي فقد شهد زخمًا مع زيارة العاهل السعودي الملك سلمان إلى اليابان عام 2017، وتضمنت اتفاقًا لبداية عصر “التكنولوجيا مقابل النفط”، فالرياض راغبة في الانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط والطاقة المتجددة، وترى طوكيو  أن تلك فرصة لتعزيز العلاقات من خلال أن تصبح شريكًا في الرؤية السعودية 2030. ولكن عندما قرر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الاستعانة باليابان في المساعدة على تعزيز صناعة الأسلحة المحلية الناشئة في المملكة العربية السعودية، كان موقف طوكيو غامضًا؛ مما بدد زخم التعاون، حتى زار رئيس الوزراء شينزو آبي المملكة العربية السعودية أوائل عام 2020، وشرح مهمة قوات الدفاع الذاتي البحرية في الخليج، وأعرب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن “دعمه الكامل” لجهود الأمن والاستقرار، لكن لم تُتخَذ أي إجراءات تعاون أو تنسيق جديدة من الجانبين.

التحوط الياباني والفاعل الإيراني

بشكل عام، تبنت الحكومة اليابانية موقفًا حذرًا- إلى حد ما- تجاه مزيد من التعاون العسكري العلني مع الإمارات العربية المتحدة، أو المملكة العربية السعودية؛ لأن كلتا الدولتين العربيتين في صراع بالوكالة مع إيران، لا سيما في اليمن. ويشير هذا- مرة أخرى- إلى سلوك التحوط، وعدم الانحياز بشكل واضح. ومع أن اليابان توقفت عن استيراد النفط من إيران بعد تعرضها لضغوط من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، فإنها ما زالت تسعى إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع طهران؛ من أجل الحفاظ على التدفق المستمر للنفط والغاز الطبيعي المسال من خلال مضيق هرمز.

تاريخيًّا، حافظت اليابان على علاقة ودية مع إيران، حتى بعد الثورة الإسلامية عام 1979، واستمرت في شراء النفط من إيران، على الرغم من التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران. وكما تشير نظرية التحوط، كان هذا مثالًا مبكرًا لاختيار اليابان مسارًا مختلفًا عن مسار حليفتها الولايات المتحدة، ومحاولة تقديم نفسها كلاعب أكثر استقلالية. ومع أن اليابان تبنت موقفًا أكثر تأييدًا للولايات المتحدة، أقرب إلى موقف “دبلوماسية دفتر الشيكات” خلال حرب الخليج وصولًا إلى انتشار قوات الدفاع الذاتي في العراق عام 2004، فإنها تواصل بذل الجهود لإيصال إشارة إلى إيران بأنها ليست متحالفة تمامًا مع الولايات المتحدة. ومع أنها ليست طرفًا في الاتفاقية، فقد واصلت اليابان دعم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة. ومرة أخرى، تعكس أنماط السلوك هذه- على نحو وثيق- الافتراضات المضمنة في نظرية التحوط.

إن علاقة اليابان المستمرة مع إيران كانت بمنزلة تحدٍّ للسياسات التي تبنتها القوى الغربية الأخرى، مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة. وفي عام 2017، بلغت قيمة التجارة بين اليابان وإيران نحو (4.05) مليار دولار. ومن هذا المبلغ، استوردت اليابان بضائع بقيمة (3.23) مليار دولار من إيران، منها (98 %) من النفط الخام. صدرت اليابان إلى إيران بضائع بقيمة (851) مليون دولار، معظمها من المركبات، والآلات، والمعادن، والمواد الكيميائية، والمعادن اللافلزية. ولا تعد إيران شريكًا اقتصاديًّا مهمًّا لليابان، باستثناء إمدادات النفط، وصادرات السيارات.

منذ نهاية الحرب الباردة، كانت سياسات اليابان في الخليج ترتكز- إلى حد كبير- على الولايات المتحدة. ومع ذلك، في حالة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، يبدو أن اليابان تفضل الابتعاد قليلًا عما قد يبدو أنه موقف الولايات المتحدة الأكثر عدوانية، وتقديم نفسها لإيران شريكًا تجاريًّا غير غربي. وإلى جانب مشروعات الطاقة والتجارة، كانت اليابان الدولة الوحيدة في الكتلة الغربية التي حافظت على علاقاتها مع إيران بعد الثورة. وعلى الرغم من الضغوط المتزايدة الناجمة عن جولات العقوبات الأمريكية على إيران، وتقليص مشترياتها من النفط، فإن اليابان حاولت الحفاظ على شراكات متعددة الجوانب لأطول فترة ممكنة، وقائمة على التحوط.

اليابان- الصين.. مواجهة محدودة في الخليج

ومع تزايد المنافسة من الصين على إمدادات النفط منذ مطلع القرن العشرين، بدأت اليابان بتعزيز علاقاتها مع الخليج. وقد تصورت مبادرة عام 2000، التي طرحها وزير الخارجية آنذاك كونو يوهي، علاقة متعددة المستويات تتضمن الأبعاد السياسية والأمنية لأول مرة، إلى جانب مجالات جديدة للتعاون، تشمل الثقافة، والطيران، والتكنولوجيا. وفي التنافس الصيني الياباني، احتلت منطقة الخليج (والشرق الأوسط بشكل عام) المقعد الخلفي بعد جنوب شرق آسيا وإفريقيا. من المؤكد أن المنافسة في مجال الاستثمار والبنية الأساسية بين مبادرة الحزام والطريق الصينية والشراكة اليابانية من أجل جودة البنية التحتية موجودة في جنوب شرق آسيا وإفريقيا، لكنها أقل وضوحًا في دول الخليج. وبينما تنمو مشروعات مبادرة الحزام والطريق سريعًا في المنطقة، من خلال صفقات بمليارات الدولارات، فإن بنك التعاون الدولي، المدعوم من الدولة اليابانية، يشهد انخفاض محفظته المالية إلى ربع قيمتها في السوق الخليجية. وبوصفهما مستهلكين رئيسين للنفط، تهتم كل من الصين واليابان بتأمين إمدادات الطاقة الطويلة الأجل من المنطقة، وقد قامت كلتاهما باستثمارات في حقول الغاز والنفط في دول الخليج، وحاولا تنويع علاقاتهما الاقتصادية غير النفطية.

نشر اليابان قوات الدفاع الذاتي البحرية في الخليج والمحيط الهندي يعد مسألة تتعلق بحماية إمداداتها من الطاقة المنقولة على متن السفن المدنية، وحرية الملاحة البحرية عبر الممرات الملاحية المهمة، لكن الصين تتخوف من عمليات النشر هذه، وتراها ذريعة لتوسيع الحضور الياباني في الخارج لمواجهة التوسع الصيني، لا سيما بعد القاعدة البحرية الصينية في جيبوتي. وفي عام 2017، أعلنت وسائل الإعلام الصينية أن ثلاثة غواصين من قوات الدفاع الذاتى البحرية اقتربوا من سفينة حربية صينية، وهو ما نفته الحكومة اليابانية. وفي العام نفسه، وسّعت اليابان قاعدتها في جيبوتي توسيعًا طفيفًا (من 12 هكتارًا إلى 15 هكتارًا)، ويُزعم أن ذلك يرجع إلى الوجود الصيني، وكان قرب القواعد البحرية اليابانية والصينية في جيبوتي مصدرًا لبعض الاحتكاكات، حيث حلقت طائرات يابانية فوق القاعدة الصينية، لكنها توقفت عن القيام بذلك عام 2016، واتخذت جميع الأطراف تدابير لخفض التصعيد.

ولا يبدو أن الاستثمار أو القواعد العسكرية لليابان وللصين هي محاولة مواجهة مع الآخر بشكل مُباشر؛ بل هي أدوات سياسية واضحة نسبيًّا للحفاظ على علاقات جيدة مع الخليج، وضمان إمدادات مستقرة من الطاقة. وبالمثل، فإن كلا البلدين حذر من التورط في الصراعات الداخلية والإقليمية في المنطقة.

خاتمة

لم تتمكن اليابان من ترجمة اللحظة الخليجية التي تريد الانفتاح شرقًا حتى اللحظة، ولم تستطع أن تندمج مع نظام أمني إقليمي، وأبقت على التصورات السائدة داخل المنطقة بشأن تبعية اليابان للولايات المتحدة، التي تستمر في تقويض محاولاتها للتحوط وتقديم نفسها باعتبارها لاعبًا أكثر “استقلالية”. وفي ضوء الأهمية الإستراتيجية المستمرة لمنطقة الخليج من حيث الطاقة الهيدروكربونية، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والتجارة غير النفطية المتنامية مع اليابان، يجب على طوكيو أن تلتزم بسياسة “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة”، و”المساهمة الاستباقية في السلام”، مع التركيز القوي على حرية الملاحة البحرية عبر الممرات المائية في الخليج، حيث لا يعني ما سبق- بالضرورة- العداء مع إيران، ولكن عليها تحمل أعباء الأمن الدولي وتكاليفه.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع