في الآونة الأخيرة، ظهرت عدة رسائل من المسؤولين في وسائل الإعلام الغربية، يمكن من خلالها استنتاج أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيقدمان دعمًا أقل بكثير من السابق لأوكرانيا. وهكذا، اعترف جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية: “إنه من بين مليون قذيفة تم الوعد بتسليمها إلى أوكرانيا، أُرسِلَ ثلاثمئة ألف فقط هذا العام”. أعلنت سلوفاكيا، من جانبها، صراحة، بعد الانتخابات البرلمانية، أنها لن تقدم أي مساعدة عسكرية أخرى لأوكرانيا، في حين تواصل المجر أيضًا اتخاذ موقف مناهض لحكومة كييف، ومن ذلك إمكانية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. أما العلاقات بين أوكرانيا وبولندا المجاورة فآخذة في التدهور. في هذه الأثناء، اعترف عدد من الخبراء الأمريكيين بأن الهجوم المضاد للقوات المسلحة الأوكرانية فشل، وأنه من غير المرجح أن يتمكن نظام كييف من هزيمة موسكو، أو حتى استعادة أراضيه السابقة.
عند النظر إلى ما يحدث على الجبهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان أن هناك في الواقع ثلاث جبهات مواجهة مترابطة، الأكثر شمولًا هي المواجهة الإعلامية، وفيها نرى تناقضًا بين حالة من الغضب في الإعلام الداخلي، يقابلها حديث من جميع وسائل الإعلام الأوكرانية الناطقة باللغة الإنجليزية تقريبًا كل يوم عن “انتصارات” الجيش الأوكراني، والخسائر الفادحة لروسيا. ومع ذلك، لم تُقدَّم أي وثائق داعمة لهذه “الانتصارات” المزعومة. في المقابل، تعيد جميع وسائل الإعلام الغربية العالمية، ومنها وكالات الأنباء، ترديد الأخبار الأوكرانية في جميع أنحاء العالم، في حين يستمر حظر وسائل الإعلام الروسية في الغرب عمدًا، وهو موقف يعبر عن تحيز مفضوح.
لكن إذا لجأنا إلى شبكات التواصل الاجتماعي في أوكرانيا، فسنرى أن هناك انتقادات للحكومة الحالية على المستويين المدني والعسكري. يتحدثون عن إخفاقات الجيش الأوكراني، وتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد. إن إرسال الرجال قسرًا إلى الجبهة، ومؤخرًا تعبئة النساء، اللاتي ليس لديهن أي تدريب، ويتعرضن للموت السريع في ساحات القتال، يؤدي إلى زيادة كبيرة في المشاعر المناهضة للحكومة، فيما تواصل شعبية فولوديمير زيلينسكي الانخفاض انخفاضًا ملحوظًا. في 17 نوفمبر (تشرين الثاني)، قال زيلينسكي، في حديثه إلى وسائل الإعلام الأجنبية، إن البلاد تستعد لميدان آخر (أي احتجاجات حاشدة)، ومن الممكن حدوث انقلاب ضدها. كان هناك تلميح واضح إلى اختلاف المواقف مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني، ورد الفعل المقابل لذلك في وسائل الإعلام الغربية. تجدر الإشارة إلى أنه في الدول الغربية، هناك انتقادات متزايدة لتصرفات الحكومة الأوكرانية بشأن مجموعة متنوعة من القضايا، ولا سيما وقف إمدادات المساعدات نتيجة الفساد الداخلي، وتراكم ارتكاب الجرائم، وانتهاكات الحقوق والحريات في أوكرانيا. لقد أصبح اضطهاد السلطات الأوكرانية للكهنة، وأتباع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، موضع نقاش في الدوائر السياسية الأمريكية.
من ناحية أخرى، لا يوجد شيء مثل هذا في روسيا. الدولة والشعب في حالة وحدة كاملة، ويسجل عدد كاف من المتطوعين، ومنهم الأجانب، بانتظام، بموجب عقود، للخدمة في القوات المسلحة الروسية. كما لم تنجح الدعاية المناهضة للحكومة من الخارج، ومحاولات تقويض المجتمع. ومع ذلك، تظل الجبهة المعلوماتية من أكثر الجبهات تعقيدًا وصعوبة للتنبؤ، حيث ستستمر البيانات وسيل المعلومات الغربية في التدفق لخدمة أهداف الحرب النفسية للغرب ضد روسيا، على الرغم من الوضع الحقيقي على الجبهة العسكرية، وفي الشؤون الدولية.
أما الجبهة الثانية فتتمثل في الدعم العام الذي تحظى به أوكرانيا من جانب الغرب، ومن ذلك فرض العقوبات على روسيا، التي اتخذت بعدًا عالميًّا. وعلى الرغم من اعتماد الاتحاد الأوروبي أكثر من عشر حزم عقوبات، فضلًا عن التدابير التقييدية التي اتخذتها الولايات المتحدة، فإن الاقتصاد الروسي لم ينهر، بل أظهر نموًا بطيئًا، وفي الوقت نفسه، يتعزز سعر صرف الروبل. بالإضافة إلى إعادة التصدير، تطلق روسيا إنتاجها الخاص، من استخراج المعادن الأرضية النادرة إلى تصنيع المعدات اللازمة، ومنها تلك المستخدمة للاحتياجات العسكرية. على سبيل المثال، في مدينة ييلابوغا، تم توسيع المصنع الذي ينتج الأجهزة غير المأهولة “جيرانيوم- 2″، التي تسمى في أوكرانيا “شاهد – 136” (في الواقع، كان النموذج الأولي لإيران عبارة عن طائرة إسرائيلية بدون طيار، نقلها- على ما يبدو- إلى إيران حزب الله اللبناني). تحاول دول الاتحاد الأوروبي بناء “ستار حديدي” جديد حول روسيا، التي ترد على هذا الأمر بسياسة “التوجه شرقًا” بشكل متزايد. تُرسَل موارد الطاقة إلى الصين والهند (خاصة الهند، وهي حالة مثيرة للاهتمام، حيث تُعالَج منتجات النفط الروسية هناك، ثم تُورَّد لاحقًا إلى أسواق أخرى بأسعار مرتفعة). ولا توجد أيضًا علامات على النجاح الغربي في وقف هذا التقدم الروسي على المسار الشرقي، مع أنه في الوقت نفسه، وبسبب العقوبات الانتقامية التي فرضتها روسيا، فإن الوضع الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، ومنها بريطانيا والولايات المتحدة، يتدهور تدهورًا ملحوظًا. يمكن ملاحظة ذلك بشكل خاص مع بداية فصل الشتاء؛ لأن موارد الطاقة الرخيصة لم تعد متوافرة من روسيا.
وفي الوقت نفسه، تعمل روسيا على توسيع تعاونها مع شركائها وحلفائها. كما أظهر الصراع في فلسطين للعالم أن مصدر المشكلتين يكمن في الغرب، وقد ساعد ذلك على فتح أعين الكثيرين على الوضع في أوكرانيا، والأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها في “العملية العسكرية الخاصة”.
وأخيرًا الجبهة الثالثة عسكرية مباشرة. في الأيام الأخيرة، كانت التحركات النشطة ملحوظة في قطاعات مختلفة من الجبهة. التحصينات وحقول الألغام التي ركّبها الجيش الروسي سابقًا، والتي تسمى خط سوروفيكين، ردعت- بشكل فعال- جميع محاولات الهجوم من جانب الجيش الأوكراني، وهو ما أكده بعض المسؤولين العسكريين الأوكرانيين.
أعلنت قيادة مجموعة دنيبر الروسية مؤخرًا قرارًا بقضي بإعادة تجميع القوات في مواقع أكثر فائدة شرق نهر دنيبر، واستخدامها لشن هجوم في اتجاهات أخرى. بدأ “مرجل” يتشكل في منطقة أفدييفكا، يمكن أن يسقط فيه الجيش الأوكراني. وينتشر على نطاق عريض على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو تظهر جثث مجندات أوكرانيات في الخنادق، مما يشير إلى استنزاف القوة البشرية للجيش الأوكراني. وبعد فرض سيطرتها على المنطقة الصناعية في جنوب أفدييفكا، ستكون روسيا قادرة على ترجمة النجاح العملياتي إلى هجوم إستراتيجي، حيث ستُدَمَّر الخدمات اللوجستية للجيش الأوكراني في المنطقة.
في قرية كرينكي بالقرب من خيرسون، حيث نُقلت مجموعة من مشاة البحرية الأوكرانية عبر نهر دنيبر، أُنشئ فخ تكتيكي. وبعد أن حصلوا على موطئ قدم، بدؤوا بشن ضربات مدفعية واسعة النطاق عليهم.
كما أُحبِطَت محاولة لهجوم القوات الأوكرانية في منطقة فيربوفوي في اتجاه زاباروجيا، حيث أُسِرَ كثير من جنود اللواء الثامن والسبعين.
تمكنت القوات الروسية من إغلاق طريق إيفانوفكا- كيسلوفكا، وهو ما سيؤدي إلى قطع الإمدادات عن الوحدات المتقدمة، وإجبار الأوكرانيين على الانسحاب إلى خط الدفاع الثاني، وهو ما يحدث بالفعل.
وفي النصف الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني)، كثفت روسيا ضرباتها من اتجاهات مختلفة، سواء على الجبهة، أو ضد أهداف في عمق أوكرانيا، مما يدل على عدم الإرهاق، والاستعداد- في الوضع المناسب- لتحويل الدفاع النشط الذي اتبعته روسيا منذ بداية عام 2023 بكامله إلى هجوم واسع النطاق.
سيكون لهذا الهجوم أيضًا تأثير نفسي، وعلى الرغم من الدعاية، سيتعين على أوكرانيا والغرب الاعتراف بالهزيمة؛ ولهذا السبب، أصبح من الممكن أن نسمع الساسة الغربيين يتحدثون عن الحاجة إلى مفاوضات السلام. وفي الوقت نفسه، هناك تفاهم في موسكو على أن الولايات المتحدة، التي عطلت سابقًا عملية التفاوض في تركيا، لها الكلمة الأخيرة في هذا الأمر؛ ومن ثم، فإن المحادثة ممكنة من خلال واشنطن، حيث يوجد فهم مختلف للوضع الأوكراني، ويرغبون في الحفاظ على كييف كنقطة انطلاق لإضعاف روسيا. ولهذا السبب، يمكن أن يستمر الصراع سنوات، مع أنه من الواضح أنه ليس أوكرانيا فحسب؛ بل الاتحاد الأوروبي أيضًا، على وشك الإرهاق العسكري التقني، وفي الأشهر المقبلة سيكون هذا الإرهاق أكثر وضوحًا.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.