تقدير موقف

الهند والتحول في السياسة الخارجية


  • 20 فبراير 2025

شارك الموضوع

عُرِّفَ جنوب آسيا منذ فترة طويلة في الهند بوصفه المجال الأساسي للنفوذ، ومع ذلك، فإن الخلل في التوازن على مستوى المنطقة بين سياسات “الجوار أولًا” والسياسات الفعلية التي تضع “الأمة أولًا” يشير إلى تحول إستراتيجي عميق، فهناك دعوات في الولايات المتحدة لإحياء إستراتيجية منفصلة لجنوب آسيا تتماشى مع أولويات منطقة المحيطين الهندي والهادئ بدلًا من أولويات شبه القارة نفسها؛ مما يؤدي إلى إضعاف جنوب آسيا كما حددته الهند تقليديًّا. ومع ذلك، حتى في حين تعمل الجهات الفاعلة من خارج المنطقة مثل الصين والولايات المتحدة على توسيع نفوذها بحذر في شبه القارة، فإن التناقض الرئيس يكمن بين دول المنطقة نفسها.

إن التحول الأخير في العلاقات بين الهند وبنغلاديش هو الأحدث بين سلسلة من التغيرات التي طرأت على جوار نيودلهي، والتي يمكن إرجاعها إلى اتجاه جديد نحو تبني سياسة خارجية تضع “الأمة أولًا” بدلًا من “الجوار أولًا” في شبه القارة الهندية. إن السياسة الخارجية التي تضع “الأمة أولًا” مدفوعة بالقومية المحلية، وتستند إلى الاعتماد الصريح على العلاقات خارج المنطقة بدلًا من سياسة “الجوار أولًا”، التي تدور حول وضع قيمة عالية للعلاقات الودية مع الجيران. ومع أن الهند وكثيرًا من جيرانها أبدت في أوقات مختلفة نيتها ​​في وضع الجوار أولًا، فإن الأمر يتطلب وضع سياسات محددة لتحقيق هذه النتيجة.

لقد اتخذ الانجراف نحو سياسة “الأمة أولًا” مسارات مختلفة في شبه القارة. الهند من خلال إعادة انتخاب مودي في عام 2019، وسريلانكا من خلال الأزمة المالية في عام 2021، وبنغلاديش من خلال “ثورة ملونة “، ونيبال من خلال صرامة النظام السياسي الجديد، وأفغانستان بسبب حُكم حركة طالبان المُتطرف، وميانمار من خلال الانقلاب العسكري والحرب الأهلية التي تلته، وباكستان من خلال تاريخ صعب من الصراع المدني – العسكري. وقد دفع هذا الهند إلى التشكيك في فائدة سياسة “الجوار أولًا” في منطقة منقسمة بشدة.

لقد وضعت الهند نفسها شريكًا ذا أولوية لجيرانها في جنوب آسيا، وساهمت على نحو كبير في اقتصاداتهم، ولديها تاريخ طويل في دعم جيرانها في أوقات الأزمات. خلال الحرب الأهلية الأفغانية، كانت الهند هي التي دعمت تطلعات الأفغان العاديين. خلال الأزمة المالية في سريلانكا، سمح دعم الهند أكثر من صندوق النقد الدولي أو الصين للسريلانكيين بتجاوز أسوأ اللحظات. خلال زلزال نيبال، كانت الهند واحدة من أوائل المستجيبين. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، بدأت البلدان تشعر بالحاجة إلى تنويع اقتصادها بعيدًا عن الهند، والسعي إلى إعطاء الأولوية لتحقيق المصالح الوطنية من خلال العلاقات خارج المنطقة بدلًا من تركيز سياساتها على الجوار.

دفعت أولويات سريلانكا في المحيط الهندي إلى الدخول في شراكة إستراتيجية مع الصين بشأن تمويل ميناء هامبانتوتا. بالإضافة إلى ذلك، وبصرف النظر عن دعوة الجهات الفاعلة من خارج المنطقة إلى شبه القارة، فإن التفاعل المعقد بين السياسة المحلية والحاجة إلى التنمية الاقتصادية في هذه البلدان أدى إلى زيادة المشاعر المعادية للهند. ويتجلى ذلك في خطاب “طرد الهند” الذي شوهد في الفترة التي سبقت الانتخابات في نيبال وبنغلاديش وجزر المالديف. ومع ذلك، في كثير من المناسبات، تكون هذه الحملات نتيجة لعوامل محلية وأيديولوجية أكثر منها بسبب سلوك هندي محدد. على سبيل المثال، في بنغلاديش، تُقدَّم نسخة منقحة من التاريخ في المناهج الدراسية. في نيبال، أدت القضايا الإقليمية وتوترات التنمية على المستويين الوطني والمحلي إلى مشاعر معادية للهند. إن هذا الخطاب المعادي للهند في السياسة الانتخابية المحلية يعمل ضد الأهداف المعلنة لهذه البلاد المتمثلة في زيادة الاتصال والشراكة الإقليمية.

يمكن القول إن العداء تجاه الهند في الجوار هو نتيجة لقيام دول المنطقة باستغلال القوى الإقليمية لتعظيم مكاسبها. ومع ذلك، يزعم منتقدو السياسة الخارجية الهندية أن عبء دفع المنطقة نحو التكامل يقع على عاتق نيودلهي، وأن مصالحها الوطنية الأساسية تتطلب علاقات ودية وقوية في شبه القارة. إن الحد من عدم الاستقرار في الجوار لا يفيد الدول المجاورة فحسب؛ بل إنه يصب أيضًا في مصلحة الهند السياسية، حيث إن احتمالات انتشار الصراع بسبب القومية الإقليمية عالية. عام 2022، أفاد البنك الدولي أن التجارة الإقليمية في جنوب آسيا لم تمثل سوى (5%) من إجمالي التجارة. إن كبح مشاعر الأمة أولًا والتركيز على نهج الجوار الذي يركز على التجارة يمكن أن يساعد على نحو مباشر في تسريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد. كما ستسمح سياسة الجوار أولًا للجيران بالتعامل على نحو أكثر فاعلية مع الجهات الفاعلة الإقليمية الإضافية، مثل الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي.

إن بعض الانتقادات القوية للسياسة الخارجية الهندية، مثل الحاجة إلى نهج دبلوماسي أكثر صرامة تجاه نيبال، والانخراط مع قوى المعارضة في بنغلاديش، ودفع التكامل الإقليمي من خلال رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، ومبادرة خليج البنغال للتعاون التقني والاقتصادي المتعدد القطاعات، وتنفيذ المشروعات بكفاءة أكبر في الجوار، والانخراط في حوار مع باكستان، ودعم الديمقراطية في ميانمار، والكف عن التعامل مع الصين بوصفها شبحًا، تؤخذ على محمل الجد في نيودلهي. وفي المقابل، ينبغي لجيران الهند أيضاً أن يعيدوا تقييم أهمية التعددية الإقليمية، التي يدُعَم من خلالها الجوار؛ لأنهم سيستفيدون من النمو الاقتصادي الهندي، وسوقها المتنامية، ومشروعاتها في مجال الاتصال الإقليمي.

وبالإضافة إلى ذلك، تحتاج الهند إلى العمل مع الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا للحماية من النفوذ خارج المنطقة الذي يضر بالمصالح الهندية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال زيادة الآليات الثنائية مع هذه القوى العظمى. وفيما يتعلق بالصين، يشير التحسن الأخير في العلاقات إلى إمكانية زيادة المشاركة. في الماضي، اقترحت الصين نموذجًا هنديًّا صينيًّا إضافيًّا في جنوب آسيا، معترفًا بقيادة الهند في المنطقة. كما دعمت الصين مشاركة الهند في مبادرة الحزام والطريق، وبرنامج تدريب للدبلوماسيين الأفغان أجرته الهند والصين على نحو مشترك عام 2018. وفي حين سيكون هناك حذر في نهج الهند تجاه الصين بسبب عنصر المنافسة بين البلدين، فإن التمني بالتخلي عن المشاركة الصينية ليس هدفًا واقعيًّا لنيودلهي. تحتاج الهند والصين إلى البدء في مشاركة محدودة في جنوب آسيا.

إن إعادة بناء العلاقات الإقليمية تتطلب العودة إلى التفكير الإستراتيجي الطويل الأجل، سواء داخل جنوب آسيا، أو بمساعدة الشركاء العالميين. لقد أعاق الاتجاه الأخير المتمثل في إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الضيقة على التعاون الإقليمي جهود التكامل، في حين أدت السياسات التفاعلية القصيرة الأجل المدفوعة بعدم الاستقرار المحلي إلى تعميق هذه الانقسامات. ولتحقيق الاستقرار الدائم في جنوب آسيا، يتعين على البلدان استعادة التوازن الدقيق بين الأولويات الوطنية وواقع الترابط الإقليمي، والالتزام بمبادئ التقدم الجماعي.

إن النهج الذي يركز على الجوار لديه الكثير ليقدمه لدول المنطقة. ولتحقيق الوحدة الإقليمية المستدامة داخل جنوب آسيا، يتعين على الدول أن تتخلى عن السياسات القومية القصيرة الأجل لصالح نهج تعاوني مع جيرانها يقوم على التكيف المتبادل والمشاركة الواسعة النطاق، حيث تُوازَن الشراكات الاقتصادية البراغماتية مع المشاركة السياسية. ومن ناحية أخرى، وبينما قد تحتاج الهند إلى التخلي عن النفوذ الاجتماعي والثقافي مع سعي جيرانها إلى اتباع نهج أكثر براغماتية، فإن الحفاظ على بعض الحضور في شؤون المنطقة أمر ضروري لأمن نيودلهي. وعلى هذا، وبروح التكيف المتبادل، سوف تقدم الهند فرص التنمية الاقتصادية والإقليمية، في حين يتعين على جيرانها ضمان الاستقرار السياسي، والبيئة الآمنة والممكنة، لحماية مستقبل جنوب آسيا كمفهوم.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع