كشف تقرير اقتصادي صدر مؤخرًا عن وزارة المالية الهندية، للفترة من 2023 إلى 2024، عن زيادة الاستثمار الصيني المباشر في الهند. كما بدأت نيودلهي بمنح الموافقات للاستثمارات الصينية في قطاع التصنيع الإلكتروني؛ مما يشير إلى احتمالات تهدئة صينية- هندية في ظل المواجهات العسكرية التي بدأت منذ 2020 في وادي جالوان، وقيدت نيودلهي آنذاك تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر من البلدان التي تشترك في الحدود معها. كما وضعت قانونًا يتطلب موافقة الحكومة المركزية للاستثمار في الهند، وهو ما عمل على منع استحواذ الصين العدائي المحتمل على الشركات الهندية في أثناء وباء (كوفيد- 19)، بالإضافة إلى قانون استهدف مزيدًا من الشفافية والمساءلة للمحاسبين القانونيين وأمناء الشركات؛ ردًا على واقعة تورط أكثر من (200) محاسب قانوني ساعدوا الشركات الصينية على انتهاك قانون الشركات لعام 2013، و(400) محاسب قانوني آخر ساعدوا على تأسيس شركات صينية في الهند.
التهدئة الصينية- الهندية ليست مفاجأة؛ فقد زار وزير الخارجية الصيني الهند في مارس (آذار) 2022 لمناقشة النزاع الحدودي. وبينما تريد الصين أن يُنظَر إلى قضية الحدود على نحو منفصل عن العلاقات الأوسع، أكدت الهند أن قضية الحدود والعلاقات الأوسع لا يمكن فصلها. وبينما لا تزال الهند حازمة في هذا الموقف، فإنها قد تتطلع إلى إعادة التواصل مع الصين لسببين:
السبب الأول: تريد الهند الاستفادة من إستراتيجية الصين +1 التي تستخدمها كثير من الشركات الآن لتقليل أخطار سلاسل التوريد الخاصة بها في أعقاب (كوفيد- 19). وقد أدت الجائحة، إلى جانب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، إلى دفع الشركات إلى البحث عن سبل أخرى، والهند بحجمها الجغرافي وسكانها بديل جذاب. وتريد الهند جذب الاستثمار المباشر الأجنبي من دول أخرى، منها الصين، خاصة أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يفرضان رسومًا على السلع القادمة من الصين؛ وهنا يمكن أن تصبح الهند عقدة تصنيع للشركات الصينية التي تصنع في الهند، وتصدر إلى جميع أنحاء العالم.
السبب الثاني: ترى الهند فترة من الفرص للتطور السريع، وهو ما يتطلب إرساء حدود مستقرة. ففي أوائل تسعينيات القرن العشرين، نجحت الصين في حل كثير من نزاعاتها الإقليمية حتى يتسنى لها التركيز على الإصلاحات والتنمية الاقتصادية، وشمل هذا توقيع اتفاقيات حدودية مع الهند في عامي 1993 و1996 للحفاظ على استقرار الحدود. والآن، أصبحت الهند في وضع مماثل مع الصين في تسعينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتبحث عن السلام على الحدود للتركيز على القوة الاقتصادية.
لقد حاولت كل من الهند والصين حل القضايا العالقة بينهما؛ فرفعت الهند القيود المفروضة على الاستثمارات الصينية، وأصدرت الصين بيان “العمل معًا لفتح صفحة جديدة في قضية الحدود”، ولكن كانت هناك تغييرات جوهرية في العلاقات الهندية الصينية منذ عام 2020 يصعب عكسها. فمن ناحية، أدى بدء بكين المواجهة في شرق لاداخ، ونشرها قوات وبنية أساسية إضافية في خط السيطرة الفعلية منذ عام 2020 إلى زيادة التوتر بين نيودلهي وبكين، سواء على المستوى الإستراتيجي أو التكتيكي. ومن ناحية أخرى، أدت عدوانية الصين على الحدود مع الهند والصراع بين الولايات المتحدة والصين إلى تقريب نيودلهي وواشنطن، وخاصة في مجال التعاون الدفاعي. وتنظر الصين إلى هذا التعاون الدفاعي المتزايد بين الهند والولايات المتحدة بوصفه عنصرًا رئيسًا في إستراتيجية واشنطن الأوسع لاحتواء بكين. ومن منظور الصين، فإن تحالف الهند المتزايد مع الولايات المتحدة، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يعقد أي تقارب محتمل بين الطرفين.
من وجهة نظر نيودلهي، يجب استيفاء شرطين لبدء ذوبان الجليد في العلاقات الهندية الصينية؛ الشرط الأول هو موافقة الصين على الانسحاب الكامل من خط السيطرة الفعلية، الذي يستلزم حل المواجهتين المتبقيتين عند ديبسانج وديمشوك المهمتين إستراتيجيًّا. والشرط الثاني هو خفض التصعيد بالكامل من خلال سحب القوات الإضافية التي جلبتها الصين بعد عام 2020، وإعادة الالتزام بالتفاهمات الحدودية التي توصلت إليها الهند والصين منذ أوائل التسعينيات؛ لذا يظل من غير المرجح أن تعود العلاقات الهندية الصينية قريبًا إلى الوضع الذي كانت عليه قبل عام 2020. حتى إذا استؤنف التعاون الاقتصادي بين الهند والصين، فإن إعادة التوازن الإستراتيجي لن تكون ناجحة؛ لأن القضية الأساسية المتمثلة في النزاع الحدودي لا تزال دون حل. وبالإضافة إلى ذلك، سوف تستمر المنافسة بين الهند والصين في آسيا، بغض النظر عن قضية الحدود، حيث ستستمر طموحات الصين الإستراتيجية في المنطقة، بما في ذلك جهودها لتوسيع النفوذ، في التصادم مع المخاوف الأمنية والجيوسياسية الهندية؛ مما يجعل أي تفاهم إستراتيجي صعبًا.
كما أن بدء نيودلهي بإعطاء الضوء الأخضر للاستثمارات الصينية، سيفرض عليها ضمان عدم استثمار الصين في قطاعات إستراتيجية تتعلق بالأمن القومي، مثل الطاقة، والاتصالات، والدفاع، وسيتطلب هذا من الحكومة الهندية مراجعة قائمة القطاعات الحيوية دوريًّا لإضافة أو إزالة استثمارات، بالإضافة إلى وضع تدابير لحماية الشركات الهندية في القطاعات التي تتمتع فيها الصين بميزة تنافسية. على سبيل المثال، تنمو صناعة الألعاب المحلية في الهند بسرعة، حيث ارتفعت الصادرات بنسبة (60) في المئة بين عامي 2018 و2023 من (200) مليون دولار أمريكي إلى (300) مليون دولار، ولكن صناعة الألعاب الصينية بلغت قيمتها (44.8) مليار دولار أمريكي عام 2023. وبسبب هذه الظروف، إذا سُمح للصين بإنشاء وحدة تصنيع الألعاب الخاصة بها في الهند، فسيكون لذلك تأثير سلبي في الشركات المحلية. ومن الممكن أن تتعامل الحكومة الهندية مع هذا الوضع من خلال إلزام الصين بإقامة مشروعات مشتركة في هذه القطاعات كشرط أساسي للاستثمار، ليس فقط لحماية الصناعات الهندية؛ ولكن لتوطين التكنولوجيا أيضًا.
ختامًا، إن التعامل مع الاستثمارات الصينية ينطوي على أخطار مرتبطة بها، مثل تلك المتعلقة بأمن البيانات، وخصوصية البيانات، والتجسس الإلكتروني. على سبيل المثال، جمع (تيك توك – TikTok) بيانات المستخدمين سرًّا من الهند قبل أن تحظره الحكومة الهندية. وفي مثل هذا السيناريو، تُجبر الحكومة الهندية أن تتبنى نهجًا حذرًا في إعادة التعامل مع بكين. كما أن الميزان التجاري بين البلدين يميل لصالح الصين؛ لذا فإن سياسة الاعتماد على الذات التي تنتهجها الهند، ورغبتها في جعل التصنيع المحلي قادرًا على المنافسة عالميًّا، تمنع إمكانية تطبيع العلاقات الاقتصادية على المدى الطويل مع بكين، لكن هذا سوف يستغرق وقتًا حتى تتمكن نيودلهي من تطوير قدرات التصنيع وسلاسل التوريد لتحل محل اعتمادها الحالي على الصين في السلع الوسيطة؛ ومن ثم فإن العجز التجاري للهند مع الصين سوف يزداد حتى تتمكن نيودلهي من تنويع مصادر استيرادها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.