في الحادي عشر مِن ديسمبر (كانون الأول) 2023، أيدت المحكمة العليا في الهند قرار رئيس الوزراء ناريندرا مودي عام 2019 إلغاء المادة (370) من الدستور الهندي، التي منحت المنطقة قدرًا كبيرًا من الحكم الذاتي لكشمير، حيث قُسِّمَت الولاية التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 12 مليون نسمة إلى منطقتين تديرهما حكومة فيدرالية. وأضافت المحكمة أنه يتعين على الحكومة إجراء انتخابات في الإقليم بحلول سبتمبر 2024.
كشمير هي منطقة متنازع عليها بين الهند وباكستان، وفي عام 1947، أعطت الهند درجة معينة من الحكم الذاتي لكشمير، وذهبت إلى حد السماح لها بدستور خاص بها. ومنذ ذلك الحين، اندلعت صراعات لا تعد ولا تحصى حول هذه المنطقة، حيث شهدت حربًا باكستانية- هندية؛ إذ تُطالب الأولى بالسيادة على كشمير، فضلًا عن النشاط المُتنامي للجماعات الانفصالية والإرهابية التي تطالب باستقلال كشمير عن الهند. أدى هذا إلى عسكرة الحدود بين الجيشين الهندي والباكستاني، واندلاع الاحتجاجات والاضطرابات والعنف من جانب السكان الكشميريين- غالبيتهم مُسلمون- ضد الحكم الهندي، وقد خلقت هذه المواجهة توازنًا مروعًا للقوى، حيث تجد كشمير نفسها مسرحًا للصراع بين قوتين نوويتين.
تعود جذور الصراع الحالي إلى تقسيم شبه القارة الهندية بعد الاستقلال مِن الاستعمار البريطاني، حيث طُلب من الولايات اختيار الانضمام إلى الهند، أو باكستان، لكن ولاية كشمير تمثل حالة مُختلفة، ولها وضع خاص، فقد كان السكان في الغالب مسلمين، مع أقلية هندوسية وسيخية، لكن كان يحكمها ملك هندوسي يُدعى مهراجا هاري سينغ، واجه معضلة؛ حيث إنه إذا انضم إلى الهند سيغضب الأكثرية المُسلمة، وإذا انضم إلى باكستان سيعرض مصالح الأقليات للخطر؛ لذا اختار المهراجا أن يظل دولة مستقلة. لكن باكستان تعتزم دمج كشمير، ولو بالقوة، إذا لزم الأمر. ودرّب الجيش الباكستاني وسلَّحَ القبائل الباكستانية على الحدود الكشميرية، وأعطاهم التعليمات بشأن غزو المنطقة؛ لذا لجأ المهراجا إلى الهند طلبًا للمساعدة، فقدمت نيودلهي دعمًا عسكريًّا مشروطًا بانضمام كشمير إليها، وبالفعل أمَّنَ الجيش الهندي مناطق جامو وكشمير، في حين سيطر الجيش الباكستاني على منطقة جيلجيت.
واستمر الصراع العسكري بين نيودلهي وإسلام آباد عقودًا بشأن كشمير، دون التوصل إلى نتيجة واضحة؛ لذلك طلبت الهند من الأمم المتحدة الوساطة، وعقدت لجنة لمعالجة قضايا المنطقة، وصدر قرار يقترح انسحابات مختلفة للقوات لكلا البلدين. ومع ذلك، لم تتمكن الهند أو باكستان من التوصل إلى اتفاق بشأن أي حل؛ مما أدى إلى تفاقم حالة الجمود. وفي النهاية، أصبحت أجزاء من كشمير خاضعة لإدارة الهند، وأجزاء أخرى لباكستان، لكن الصراع لم ينتهِ بعد. ومنذ ذلك الحين، انخرط الطرفان في مناوشات وحروب واستهداف للأقليات، حتى إن الصين تورطت في الأمر، فتحالفت مع باكستان بعد الحرب الصينية الهندية عام 1962.
بعد سنوات من عدم حدوث أي تغيير تقريبًا في وضع كشمير، قرر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلغاء المادتين (370) و(35 أ) من الدستور الهندي- وهما المادتان اللتان توفران لكشمير وسكانها امتيازات معينة- بالإضافة إلى الدستور الكشميري. قد تبدو تصرفات مودي مجرد ترويج لموقف حزبه المتشدد، ومع ذلك، فإن أفعاله تشير إلى أن هذه الخطوة كانت محسوبة. ومع أن هذه الخطوة الأخيرة تجلب كثيرًا من الأخطار، فمن المرجح أن يعتقد مودي أنه استخدم إستراتيجية كبرى للخروج منتصرًا في هذا الصراع.
اختار مودي في فترة ولايته الأولى الدبلوماسية، وقام بزيارتين إلى ولايتي جامو وكشمير، واستخدم شعار رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجبايي (1996- 2004) المتمثل في (الإنسانية والديمقراطية والوعي العرقي القومي الكشميري والقيم الثقافية) للتعامل مع قضية كشمير. كما امتنع مودي عن التوصية بإلغاء المادة (370)، وبدلًا من ذلك دعا إلى مناقشة فوائد هذه المادة لمواطني جامو وكشمير، واستخدم لغة الحقوق والمواطنة لانتقاد الوضع الدستوري الخاص لكشمير باعتباره يعزل مواطنيها عن الهند، وأمر بشن ضربات محدودة للقضاء على مقاتلي حركة العدل والمساواة في كشمير الخاضعة للإدارة الباكستانية، وكانت العملية ناجحة، وقوبلت بردود فعل إيجابية جدًّا من الشعب الهندي، في حين لم تحظ في الوقت نفسه إلا بأقل قدر من ردود الفعل العنيفة من المجتمع الدولي، باستثناء باكستان.
وفي عام 2019، نُفِّذَ هجوم إرهابي مماثل على أفراد الأمن في منطقة بولواما في كشمير. وكما حدث في عام 2016، دعا المتشددون الهنود إلى الانتقام. نُفِّذَت غارة جوية في باكستان، وكان رد الفعل الدولي في حده الأدنى باعتباره هجومًا مضادًا، وفاز رئيس الوزراء مودي بإعادة انتخابه بأغلبية ساحقة، ليقرر في (5) أغسطس (آب) 2019، إلغاء المادة (370) من الدستور الهندي، التي تمنح ولاية كشمير وضعًا خاصًا، وأعلن أنه يعتزم تقسيم تلك الولاية إلى قسمين، وتحويل منطقة لاداخ وما تبقى من كشمير إلى أقاليم اتحادية، بدلًا من ولايات كاملة. وأخيرًا، قرر أيضًا إلغاء المادة (35 أ)، التي سمحت لحكومة كشمير السابقة بتحديد من هو مقيم في الولاية، ومن يُسمح له- من ثم- بشراء العقارات وبيعها داخل حدودها.
كانت هذه قرارات هندية تاريخية، وقد أدانها- على الفور- رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، كما انتقدتها الصين، التي تسيطر على أراضٍ كانت في السابق جزءًا من كشمير، ومنها بعض المناطق التي تنازلت عنها باكستان لصالح الصين عام 1963. ورأت بكين أن تصرفات نيودلهي ستعقد المفاوضات لتسوية نزاعها الحدودي المستمر بينهما منذ فترة طويلة. ومباشرة مع إعلان إلغاء المادة (370)، نُشِرَت قوات هندية أمنية إضافية في كشمير، ووُضِعَ الموجودون بالفعل في حالة تأهب قصوى، وترددت أنباء عن تكثيف القوات الجوية الهندية دورياتها فوق المنطقة، ووُضِع السياسيون المحليون في كشمير تحت الإقامة الجبرية، وفُرِضَ إغلاق على خدمات الإنترنت والهاتف.
منذ 2019، والآن بعد قرار المحكمة الهندية، سيكون لحكومة حزب بهاراتيا جاناتا في نيودلهي سيطرة كبيرة على كشمير. وبينما ستكون كشمير منطقة اتحادية ذات هيئة تشريعية- مثل دلهي- فإن سلطات الحفاظ على القانون والنظام ستقع الآن بالكامل في أيدي العاصمة، وليس سريناغار (عاصمة كشمير)، وهذا من شأنه أن يعزز- بشكل فعال- قبضة الهند العسكرية الكبيرة بالفعل على المنطقة المضطربة، ومن المرجح أن يتردد صدى قرار حكومة مودي في كشمير سنوات كثيرة قادمة.
لقد اعترض حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) الحاكم، والحركة القومية الهندوسية الأوسع- منذ فترة طويلة- على الوضع الخاص الممنوح لكشمير بموجب المادتين (35 أ) و(370). تمثل هذه البنود لكثير من القوميين الهندوس أعمال استرضاء لمسلمي وادي كشمير على يد حكومة جواهر لال نهرو على حساب الهندوس، وهم يشكون أن الهندوس قد تضرروا من هاتين المادتين، وخاصة البانديت الكشميريين (هندوس)، الذين تعرضوا لمحاولتين لطردهم من الوادي؛ الأولى بعد التقسيم، والثانية في التسعينيات.
وبناء على ذلك، أوضح حزب بهاراتيا جاناتا- منذ فترة طويلة- أنه يرغب في إلغاء هاتين المادتين. وذهب مودي إلى انتخابات عامي 2014 و2019 مع الالتزام بإلغاء المادة (370)، وقد أوفت مناورته الدبلوماسية بشأن كشمير بهذا الوعد، حيث لعب لصالح القاعدة القومية الهندوسية التي ساعدته على العودة إلى السلطة بأغلبية ساحقة. كما أنه يتماشى جيدًا- جنبًا إلى جنب- مع سلسلة من التدابير الأخرى التي تم سنّها منذ ذلك الحين، والتي تروق الجمهور نفسه، ومنها حظر الطلاق “الثلاثي” الشفهي، وبدء الترويج للغة الهندية بوصفها لغة وطنية، والحديث عن إعادة بناء معبد رام في أيوديا، حيث هدم القوميون الهندوس مسجدًا في عام 1992، وتشريع قانون مدني موحد، يضع جميع الطوائف الدينية تحت مجموعة الإجراءات القانونية نفسها المتعلقة بقضايا الزواج والميراث.
مِن جانب آخر، يرى مودي أن السياق الدولي يساعد الهند على غلق ملفات قد تسبب لها مُشكلات في خططتها الإستراتيجية، حيث يلوح في الأفق الشمالي لها خطر الصين، وهذا ما قرب نيودلهي إلى الولايات المتحدة، خصوصًا في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي عزز الشراكة بين البلدين، ولم يُبدِ انتقادات واسعة لحملة القمع الهندية في كشمير، ولم يختلف الوضع كذلك مع الإدارة الأمريكية الديمقراطية الحالية للرئيس جو بايدن، فقد أصبح للهند أهمية كبيرة في إستراتيجية الهندي- الهادئ لمواجهة التمدد الصيني في آسيا.
وربما كان الحدث الأكثر ملاءمة لمودي عام 2019 هو اندلاع الاحتجاجات في هونج كونج. ومن المرجح أن الحكومة الصينية، الحليفة لباكستان، كانت ستضطلع بدور أكثر نشاطًا في معارضة الخطوة الهندية. ومع ذلك، وبالنظر إلى اهتمام الصين فيما يتعلق بهونج كونج، فليس من المستغرب أن تتخذ بكين خطوة إلى الوراء عن قضية كشمير- باستثناء بعض الملاحظات- في حين تتعامل مع مشكلتها الأكثر إلحاحًا.
كما أن الانسحاب الأمريكي مِن أفغانستان، وتسلُّم طالبان السلطة في كابول، جعلا هناك تخوفًا هنديًّا أمنيًّا مِن الدور الذي قد تؤديه باكستان، وخاصة المخابرات الداخلية الباكستانية (ISI)التي تحافظ على علاقات وثيقة مع كل من حركة طالبان والجماعات المسلحة التي نفذت هجمات في كشمير، وأماكن أخرى في الهند؛ لذا رأت نيودلهي- بوضوح- أن هناك فرصة، وضرورة لضم كشمير.
وعندما يتعلق الأمر بكيفية رد فعل باكستان على ضم الهند كشمير، فإن الكثير سوف يعتمد على تحمل إسلام آباد المتعثرة اقتصاديًّا تكاليف تخصيص موارد كبيرة لخوض حرب بالوكالة- أو حتى عملية عسكرية تقليدية محدودة- لفرض تكلفة على نيودلهي نتيجة لهذا القرار. لكن بين عامي 2016 و2019، شنت القوات الخاصة التابعة للجيش الهندي غارات على كثير من المعسكرات الإرهابية المشتبه فيها، من خلال خط السيطرة المضطرب في كشمير. وعلى المستوى الإقليمي، نجحت حكومة مودي في تحويل منبر قمة رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي لإدانة باكستان؛ لاستخدامها الإرهاب كأداة لسياسة الدولة. كما استعرضت نيودلهي موقفها بشأن معاهدة مياه السند مع باكستان. ومع أن الهند قررت عدم المضي قدمًا في ملف المياه، فإن مودي تمكن من إرسال تحذير شديد إلى باكستان أن نيودلهي لديها خيارات متعددة لن تتردد في استخدامها إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
عسكريًّا وسياسيًّا، أصبح لدى الهند النية لأي عمل ضد باكستان قد يؤدي إلى تصعيد تقليدي كبير، أو حتى نووي. وتحاول الهند أيضًا صياغة رواية مضادة بشأن قدرة الهند على إلحاق الضرر بباكستان، فقد كان مشروع مودي العسكري الأهم هو إعادة بناء مصداقية نيودلهي في الردع، حيث كان قرار حزب المؤتمر الحاكم سابقًا لا يرد على ما اعتبر استفزازات باكستانية؛ وهو ما أدى إلى تغذية نزعة المغامرة لدى إسلام آباد.
وفي الوقت نفسه، ضُبِطَ موقف الهند، حيث أكدت أن الغارة داخل باكستان كانت مسألة لمرة واحدة في الوقت الحالي، وكانت هذه إشارة نيودلهي إلى أنها غير مهتمة بتصعيد الوضع. أرادت الهند الاحتفاظ بالسيطرة على سلم التصعيد، وتمكنت من القيام بذلك. تمكنت باكستان من خلال عدم اعترافها بالغارات الهندية عبر الحدود، من تخفيف الضغوط المطالبة بالرد الفوري. ويكمن نجاح نهج مودي في أن الضربات الهندية عام 2019 لم تُثر أي انتقادات دولية. كما لجأت الصين- حليفة باكستان- إلى الخطاب الدبلوماسي، معربة عن “الأمل في أن تتمكنا (الهند وباكستان) من إجراء حوارات لحل النزاعات على النحو اللائق، والحفاظ على السلام والأمن الإقليميين”.
لن تتبع حكومة مودي نمطًا سياسيًّا موحدًا تجاه باكستان، كما أن إبقاء باكستان في حالة تأهب هو جزء من إستراتيجية أكبر، ولكن الأمر الواضح هو أن نيودلهي لن تتردد في رفع تكاليف المغامرة الباكستانية، وسوف تضمن أن تدفع إسلام آباد ثمن محاولتها استنزاف الهند باستخدام منظمات مُسلحة، مثل عسكر طيبة، وجيش الإسلام، خصوصًا في كشمير. بالإضافة إلى ذلك، تواجه باكستان مشكلات داخلية متعددة، ومن المرجح أن تؤدي سياسات مودي إلى تفاقم تلك المشكلات الداخلية.
لقد افتتح مودي فصلًا جديدًا في تاريخ جنوب آسيا، مما يشير إلى أن الأمور لن تكون كالمعتاد من الآن فصاعدًا. لفترة طويلة، كانت نيودلهي هي التي أرادت الحفاظ على الوضع الراهن في كشمير وباكستان، والحدود مع الصين، لكن تبدو نيودلهي الآن أكثر عزمًا على تقديم نفسها بوصفها قوة فوق إقليمية في محيطها، وذلك من خلال فرض سيطرتها على كشمير، حتى لو لزم الأمر استعراض قوة غير متناسبة داخل هذا الحيز الجغرافي، ولن يكون هناك تراجع حتى عن الصدام مع باكستان إذا لزم الأمر؛ فالآن، ومع انسحاب الولايات المتحدة مِن أفغانستان، تعيش جنوب آسيا لحظة فراغ تتصارع فيها قوى عدة، أبرزها روسيا، والصين، والهند، وباكستان، وإيران، ولا تزال عواقب هذا الوضع غير واضحة، ولا يوجد سقف زمني يمكن التنبؤ به لنهاية فصل هذا الاضطراب الجيوسياسي، ولكن لا شك أن جنوب آسيا يشهد واقعًا جيوسياسيًّا قيد التشكل.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.