أبحاث ودراسات

“الهند” الواحدة أو أكثر


  • 3 نوفمبر 2024

شارك الموضوع

كثير من المناقشات في وسائل الإعلام الغربية والعربية تصور الواقع السياسي في الهند على أنه صراع بين تطرف ديني هندوسي يتبناه حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، ورؤية علمانية يمثلها حزب المؤتمر المُعارض، ولكن هذا التصور غير دقيق؛ لأن الأغلبية الهندوسية التي تؤيد حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي تتمتع بمكانة مرموقة ومهيمنة في الحياة الثقافية الهندية؛ لذا، بتفكيك الخطاب المعارض، نجد أنه ليس علمانيًّا؛ بل هو إعادة صياغة للفكر الهندوسي.

الواقع السياسي الهندي الحالي يدور حول فكرة الدولة الاتحادية، أو ماذا تعني الوحدة في الهند؟ فقد اجتمعت أحزاب مثل حزب المؤتمر، وحزب عام آدمي، وغيرهما من أحزاب أصغر، لمهاجمة سياسات حزب بهاراتيا جاناتا الذي يقوض حقوق الولايات. وصاغ راؤول غاندي -زعيم حزب المؤتمر- الصراع الأيديولوجي بين حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا على أنه بين الدولة المركزية والدولة الاتحادية في الهند، والسبب في ذلك هو أن أحزاب المعارضة أدركت أن مواجهة الفخر القومي المركزي لحزب بهاراتيا جاناتا، وتصوراته لما يُعرف بـ”الهندوتفا”، تتم من خلال إعادة إحياء الفخر الاقليمي، لا سيما أن حزب بهاراتيا جاناتا نجح في فتح حاجز الطبقات في “ولايات ماندال”، وهو ما تشهد عليه عودتهم إلى السلطة في ولاية أوتار براديش خلال انتخابات عامي (2014) و(2019)، لكنه لم يتمكن من إختراق البنغال الغربية بسبب عدم قدرته على تقديم تصور سياسي مناسب لاختلاف الهوية واللغة لهذا الإقليم؛ ما يجعل الهند تعيش في لحظة أقرب إلى السبعينيات عندما انتفضت الأقاليم ضد نظام أنديرا غاندي.

عاد المستوى المطلق من المركزية خلال حُكم مودي لنفس مستوى سنوات حكم أنديرا، فالأخيرة كانت تعمل على تمرير قوانين مهمة دون تداولها، واستغلت الوضع الاستثنائي لولايات جامو وكشمير، واستخدمت منصب الحاكم في الولايات أداةً لإحباط المعارضة. إن هذه المركزية السياسية التي اتبعها حزب المؤتمر خلال فترة حُكمه لم تتوقف إلا خلال عصر الائتلاف (1989- 2014)، أي بعدما فقد أغلبيته المُطلقة، وأصبحت الأحزاب الإقليمية الأصغر حجمًا أجزاء فعلية أو محتملة من الائتلاف الحاكم. اليوم، لم يعد حزب بهاراتيا جاناتا يتمتع بأغلبية مطلقة في مجلس النواب، وأصبح يشعر بالحاجة إلى اتباع مسار حزب المؤتمر في التكيف؛ ومن ثم فإن احترام المعايير الديمقراطية والحكم اللا مركزي لا يقوم في الهند إلا في إطار صفقة سياسية.

مركزية القوة لحزب المؤتمر ومركزية إسناد الفضل إلى حزب بهاراتيا جاناتا

هناك اختلافات مهمة بين نموذج أنديرا ونموذج مودي المركزي؛ أولًا- بينما كانت المركزية في عهد أنديرا غاندي -في الأغلب- أداة لسياسة القوة، فإن المركزية في عهد مودي لها أساس أيديولوجي جوهري. والموقف المتناقض لحزب بهاراتيا جاناتا تجاه الفيدرالية ينبع مباشرة من أيديولوجية “الأمة الواحدة” للقومية الهندوسية، التي تعود إلى الأيام التي عارضت فيها منظمة “آر إس إس”، تحت قيادة “إم إس جولوالكار”، إعادة التنظيم اللغوي للولايات. والواقع أن المقصود هنا هو تركيز السلطة، ليس من أجل ذاتها؛ بل لخدمة رؤية لتحويل الأمة. على سبيل المثال، يرتبط الإطار المركزي لسياسة التعليم الجديدة (2020) ارتباطًا صريحًا بهدف “هندنة” التعليم؛ أي جعله تعليمًا هنديًّا موحدًا.

وثانيًا- تختلف آلية استخدام المركزية المالية والإدارية لتحقيق مكاسب حزبية، فقد عملت أنديرا غاندي على نحو مباشر -إلى حد ما- باستخدام الأموال لبرامج الرعاية الاجتماعية لصالح الولايات التي يحكمها حزب المؤتمر، ومعاقبة الولايات التي تحكمها المعارضة، في حين يعمل مودي على نحو أكثر دهاءً، إذ أصبح تخصيص المنح المالية بطريقة حزبية مقيدًا بشدة وفقًا للقواعد التي أقرتها لجنة المالية الرابعة عشرة. والآن تتم التحويلات من المركز إلى الولايات في الغالب وفقًا لقواعد ومعايير محددة. ومع أن حكومة حزب بهاراتيا جاناتا أسست نصيبها الخاص من المركزية المالية (نظام ضريبة السلع والخدمات، على سبيل المثال)، فإن الساحة التي يسعى فيها مودي إلى تحقيق ميزة حزبية هي المركزية الإدارية.

يستهدف مودي شعبيته في الولايات مِن خلال “إسناد الفضل” إليه على خطط الرعاية الاجتماعية التي ترعاها الحكومة المركزية، وتنفذها وتراقبها نيودلهي عن كثب، وتُسوَّق بقوة باسم رئيس الوزراء وصورته، حتى تخلق دعمًا شعبيًا للحكومة المركزية ومودي. مع أن الخطط لا تُموَّل بالكامل من العاصمة. في الواقع، بعد لجنة المالية الرابعة عشرة، فقد تغيرت حصة الحكومة المركزية في معظم هذه الخطط التي كانت نسبتها من 80 إلى 90 في المئة إلى نسبة تتراوح من 50 إلى 60 في المئة. ومع ذلك، وبسبب قوة الإعلام التي يتمتع بها حزب بهاراتيا جاناتا، فإن الناس ينسبون الفضل في هذه الخطط إلى مودي والحكومة المركزية، وهذا يقوض شعبية حكومات الولايات.

مستقبل الفيدرالية الهندية

لقد نجحت الفيدرالية الهندية في البقاء مدة طويلة؛ لأنها النموذج الوحيد القادر على استيعاب التنوعات الكبيرة للهويات التي تتألف منها الهند. ولقد تأرجحت الفيدرالية الهندية بين نموذجي التنافس والتعاون على مدى العقود الثمانية الماضية، ويرجع هذا إلى أن البنية الدستورية التي تحكم الفيدرالية غامضة، فالدستور الهندي “وحدوي وفيدرالي وفقًا لمتطلبات الوقت والظروف”. وكانت احتياجات تطوير المؤسسات الحكومية الناشئة وملاحقة التنمية الاقتصادية تتطلب أن يظل الهيكل الدستوري مرنًا، وأن يُمنح الاتحاد الجزء الأكبر من الصلاحيات، وهذا يعني أن العمل الفعلي للفيدرالية الهندية كان دائمًا مرتبطًا بالثقافة السياسية، وليس بالبنية القانونية.

وتاريخيًّا، خلال هيمنة حزب المؤتمر (1947- 1989)، عمل النظام الفيدرالي بسلاسة -إلى حد ما- في مجمله، حيث كانت الحكومة المركزية ومعظم حكومات الولايات تحت سيطرة حزب المؤتمر، قبل الوصول إلى حقبة النزاع، أو مرحلة الائتلاف (1989- 2014)، وهي ذروة الفيدرالية الهندية، حيث جمعت الأحزاب الإقليمية قوة كبيرة بوصفها “صانعة الملوك”، وساعدت على دفع إصلاحات جوهرية في اللا مركزية المالية والإدارية. وقد عرفت فترتا مودي الأولى والثانية مرحلة مشابهة بهيمنة حزب المؤتمر، حيث سُوِّيَت أغلب الصراعات على نحو مركزي، واليوم، وخلال مرحلة حُكمه الثالثة، تبدأ حقبة النزاع مِن جديد ضد المركزية.

وبالرغم من الصراع الحالي الداخلي على السلطة والنفوذ في الهند، سمحت الفيدرالية -بوضعها المضطرب- للولايات بالتعبير ديمقراطيًّا عن استيائها من سياسات العاصمة المركزية، وفي الوقت نفسه تستفيد الولايات من النمو الاقتصادي الذي يحققه نظام قوي، والإصلاحات الجادة فيما يتعلق بالتمويل، والعمالة، والأراضي، والزراعة ، وتستطيع بناء رأس مالها السياسي الخاص لتصبح مدافعة بقوة عن الهويات الإقليمية واللغوية. ومن غير المرجح في المدى المنظور أن تحيد الهند عن الفيدرالية، التي أصبح الصراع بين الهويات الإقليمية والمركزية سمة فريدة فيها.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع