خلال قمة العشرين الأخيرة، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية التزامها بالعمل المشترك مع حكومات الهند، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والاتحاد الأوروبي؛ لإنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. ومن المتوقع أن يتألف الممر من خطين منفصلين؛ الأول: الممر الشرقي، الذي يربط الهند بالخليج العربي، والثاني: الممر الشمالي، الذي يربط الخليج العربي بأوروبا.
سيعتمد المشروع على النقل البري عبر السكك الحديدية، وتعتزم الدول المشاركة مد خطوط لشبكات الكهرباء، والاتصال الرقمي، وأنابيب لتصدير الهيدروجين النظيف من أجل تأمين سلاسل التوريد الإقليمية، وزيادة إمكانية الوصول إلى التجارة، وتحسين طرق النقل، وزيادة الكفاءة، وخفض التكاليف، وتوليد فرص العمل، وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، ودعم الجهود الاقتصادية والاجتماعية للحد من التأثيرات البيئية السلبية من خلال تعزيز الاتصال بين آسيا والخليج العربي وأوروبا.
يعكس مشروع الممر الجديد التغيرات التي حدثت في السياسة الهندية، خاصةً تجاه الصين، فالأخيرة صاحبة مشروع الحزام والطريق المشابه في الربط بين الصين والشرق الأوسط وأوروبا عبر ممرات برية وبحرية، وتواجه بكين اتهامات متزايدة بخصوص ما يُعرف بفخ الديون للدول النامية المشاركة معها في مخططها، بالإضافة إلى اتهامات بانتهاكات تتعلق بالبيئة. واستهدف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي هذه النقطة، مؤكدًا أن المشروع الهندي سيحترم السلامة الإقليمية، ويعزز الجدوى المالية، بدلًا من زيادة عبء ديون الدول، وذكر أيضًا أن مشروعات ربط البنية التحتية يجب أن تتبع القواعد البيئية.
بإلقاء الضوء على العلاقات الهندية- الصينية نجد أن الاشتباك الحدودي بينهما في يونيو 2020 أدى إلى تراجع العلاقات إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وتخلت حكومة مودي عن نهجها الحذر في التعامل مع السياسة الخارجية، وبدأت بملاحقة مصالح الهند الجيوسياسية بشكل أكثر حزمًا، ليصبح مشروع الممر الاقتصادي هو التنفيذ الأوضح لإعلان وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار، الذي أعلن أن البيئة الإستراتيجية العالمية شهدت تغيرات كبيرة في السنوات الأخيرة. وفي عالم متعدد الأقطاب يتألف من الأصدقاء والأعداء، وتوازنات القوى والقيم المتضاربة، سيتعين على الهند أن تؤكد مبدأ “الهند أولًا”، وأن تتخلى عن مسارها السابق المتمثل في “الرومانسية السياسية” لصالح “موقف واقعي يتسم بمزيد من المخاطرة”.
ولقد برزت الهند بوصفها واحدًا من الاقتصادات الرائدة في العالم، وأصبحت قدرتها على تحمل مسؤوليات أكبر أكثر وضوحًا، وهي واحدة من القوى الناشئة القليلة التي يمكن أن تضاهي الصين من حيث الحجم والمكانة، كما أنها دولة مجاورة للصين، معها نزاعات إقليمية وتناقضات جيواستراتيجية هيكلية. ومع تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، تحرص نيودلهي على استغلال هذه الانقسامات لمصلحتها الخاصة؛ ولذلك فقد أصبحت مشاركًا راغبًا في محاولة واشنطن احتواء الصين.
تعمل الهند على تعزيز علاقاتها العسكرية والدفاعية مع الولايات المتحدة، مع أنها لا تزال حذرة ومتشككة من واشنطن، فقد قامت السلطات العسكرية والسياسية الهندية بوزن الإيجابيات والسلبيات، ومنحت “أولوية إستراتيجية” تدريجيًّا للتحوط الإستراتيجي من الصين، إن لم تتمكن من احتوائها؛ ومن ثم زيادة انخراطها في المشروعات التي تطلقها الولايات المتحدة، سواء كأانت تجارية أم عسكرية وأمنية.
كما تحاول نيودلهي أن تُحبط أو تنافس النفوذ المتزايد لبكين داخل المنصات المتعددة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، أو مجموعة البريكس، أو مجموعة العشرين؛ لذا استغلت منصة الأخيرة لإعلان مشروع تجاري يستهدف تطويق الصين، ويعلن انحيازها- بشكل متزايد- إلى المواقف التي يتبناها الغرب.
بدأت الهند بالسعي نحو تعزيز مكانتها كدولة “عدم انحياز” رائدة على دول جنوب العالم، لا سيما أن فجوة التنمية مع الصين تقوض دور نيودلهي في آسيا الوسطى، وفي إفريقيا، وأمريكا اللاتينية؛ لذا تحاول (أي نيودلهي) أن تبني صيغة أخرى من خلال التعاون مع الغرب، والتوسع في إنشاء التحالفات التجارية التي تجذب مزيدًا من بلدان الجنوب التي تعاني الأزمات الاقتصادية والغذائية الطاحنة، لكن هذا التنافس الهندي- الصيني قد يزيد الضرر عالميًّا، ويؤدي إلى الاختلال الوظيفي للهيئات المتعددة الأطراف، ويعوق حركة التنمية والازدهار الاقتصادي المنشود.
من المتوقع أن يمر خط السكك الحديدية عبر الإمارات العربية المتحدة، والسعودية، والأردن، وإسرائيل، لكن الأخيرة لا تتمتع بعلاقات رسمية مع الرياض، ما يعني أن المشروع الاقتصادي قد يكون هو أول تعاون تجاري مباشر بين الرياض وتل أبيب في إطار صفقة التطبيع المزمع توقيعها، وتجري المفاوضات حاليًا بشأن شروطها وبنودها، وما يترتب على هذا التطبيع من متغيرات إقليمية بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ومن شأن ممر العبور الجديد أن يعزز أيضًا العلاقات بين واشنطن والرياض، التي توترت بسبب قضايا تشمل حقوق الإنسان، وسياسة النفط، والدعم السعودي المتصور لروسيا في حربها على أوكرانيا، وزيادة التعاون السعودي مع الصين. ومن ناحية أخرى، لا يمكن التخلي عن الرياض، لا سيما أن البلاد بدأت بالتخطيط لتعزيز بنيتها التحتية الوطنية كجزء من خطط بتريليونات الدولارات لتحويل اقتصادها بعيدًا عن النفط. وإلى جانب النقل، تدرس إنشاء شبكات اتصال جديدة، سواء في النقل، أو الكهرباء، أو البيانات، في جميع أنحاء المنطقة، وخارجها.
فيما سيمثل المشروع تعزيزًا لمكانة إسرائيل عالميًّا، ويزيد انخراطها مع محيطها العربي، حيث أُعلِنَت تل أبيب بوصفها “مفترق طرق مركزيًّا- بوابة للبحر المتوسط” في ممرٍ اقتصاديٍّ رئيسٍ يربط بين أوروبا والشرق الأوسط والهند. وعلى الرغم من توتر العلاقات بين الحكومة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة والبيت الأبيض الديمقراطي حاليًا، فإن نتنياهو- من خلال فيديو رسمي- عبَّر عن شكره للرئيس الأمريكي بايدن وإدارته على الجهد الكبير الذي قاد إسرائيل إلى ما وصفه بأنه أكبر مشروع في تاريخ البلاد.
عام 2017، وقعت دولة الإمارات العربية المتحدة عشرات الاتفاقات الإستراتيجية مع الهند، ومن بين اتفاقيات التعاون الإماراتي الهندي، ثلاث اتفاقيات تناولت الأمن الغذائي من خلال إنشاء أطر تعاون إماراتية هندية في مجالات تصنيع الأغذية، والنقل البحري، والخدمات اللوجستية للشحن والتخزين. وتعد هذه الاتفاقيات نقطة انطلاق لتطوير البنية التحتية اللوجستية لما عُرف آنذاك “بممر الغذاء”.
وقد شهدت قمة (I2U2)، التي عُقدت في 14 يوليو 2022، بين الولايات المتحدة والهند والإمارات وإسرائيل، إعلان تطوير خط تجاري من نيودلهي حتى أبو ظبي، ثم وصولًا إلى تل أبيب وشواطئ البحر المتوسط، ليمثل نقطة توازن مع النفوذ الصيني المتوسع في منطة المحيط الهندي والخليج العربي. ويضمن هذا الخط التجاري الأمن الغذائي للدول الأعضاء، حيث ستوسع الهند نشاطها الزراعي، وستزيد الاستثمار والإنتاج من خلال استغلال التكنولوجيا والدعم الاسرائيلي، ثم يتم التصدير إلى أبو ظبي، التي ستؤدي دور المورد الغذائي لبلدان الخليج، فيما تتولى تل أبيب نقل المحاصيل والمنتجات الزراعية إلى أوروبا، من خلال موانيها إلى أوروبا.
وبالاطلاع على مشروع الممر التجاري، نجد أن خرائطه مُطابقة تمامًا لما عُرف بممر الغذاء، ما يعني أن تجمع (I2U2) قد توسع ليضم السعودية والأردن، فيما تبقى مشروعات الإمارات الطموحة لتحقيق الأمن الغذائي، والتحول إلى نقطة عبور ومركز لوجيستي إقليمي مهم، قائمة دون تغيير.
كما أشرنا إلى أن الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا كان هو ممر الغذاء الهندي الإماراتي الإسرائيلي، فإنه قد عُرِفَ أيضًا خلال ولاية الرئيس الديمقراطي باراك أوباما بـ”طريق الحرير الجديد”، وقد أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون أن الولايات المتحدة سترعى هذا المشروع الذي سينطلق من أفغانستان لربط البلاد بجيرانها؛ لزيادة إمكاناتها الاقتصادية، لكن المشروع لم يُنفذ قط.
كما يواجه المشروع تحديًا سياسيًّا؛ حيث ترغب الهند في تجاوز باكستان، وإيران، التي لن تتعامل معها الولايات المتحدة، لصالح الربط بالسكك الحديدية بين أوروبا ودول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى إسرائيل، ولكن تركيا تحاول إنشاء خط سكك حديدية بين إسطنبول وإسلام آباد عبر إيران، وهذا قد يعني خط سكك حديدية أقصر، ويمر عبر الشرق الأوسط، ويربط بين آسيا وأوروبا؛ ما يفقد الممر الاقتصادي الهندي جدواه الاقتصادية، هذا بالإضافة إلى أن خط السكك الحديدية ليس مهيئًا لنقل كل أنواع السلع؛ ومن ثم سيبقى الشحن البحري المباشر عبر المحيط، وصولًا إلى مضايق البحر الأحمر، وعبور قناة السويس إلى أوروبا، هو الأقل تكلفة للبضائع السائبة والكميات الكبيرة، فيما قد يكون الطريق البري مُستهدفًا لسفر الأفراد، أو نوع معين من المنتجات.
وقد وقعت الدول المشاركة على مذكرة تفاهم نتيجة المشاورات الأولية التي تم التلميح إليها علنًا لأول مرة في مايو 2023، بعد أن التقى مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان نظيره الهندي أجيت دوفال، بالإضافة إلى مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومتين الإماراتية، والسعودية، فيما سافرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عبر أبو ظبي في طريقها إلى مجموعة العشرين، واجتمعت مع الرئيس الشيخ محمد بن زايد، وتعهدت بتنسيق العمل في جميع المجالات ذات الصلة بالمشروع مع الاتحاد الأوروبي.
وستضع مجموعات العمل خطة مفصلة الأهداف خلال الشهرين المقبلين. وتتمثل الخطة لهذا العام في وضع تقارير مفصلة عن المشروع، من شأنها تسريع عملية إعداد التمويل والبناء. ومع أنه لم تُقدَّم تفاصيل عن تكلفة المشروع في ذاته، فإن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ذكر رقم 20 مليار دولار في خطابه، دون تحديد ما إذا كانت هذه تكلفة المشروع ككل، أو مُخصصات الجزء السعودي منه.
تحدد مذكرة التفاهم الالتزامات السياسية للمشاركين، لكن لا ينشأ عنها حقوق أو التزامات بموجب القانون الدولي. ويعتزم المشاركون الاجتماع خلال الستين يومًا المقبلة؛ لوضع خطة عمل، مع الجداول الزمنية ذات الصلة، والالتزام بها. ويلتزم المشاركون بالعمل، بشكل جماعي وسريع، لترتيب وتنفيذ جميع مخططات طرق العبور الجديدة هذه، وإنشاء كيانات تنسيقية للوقوف على النطاق الكامل للمعايير الفنية، والتصميمية، والتمويلية، والقانونية، والتنظيمية ذات الصلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير