جاءت المكاملة الهاتفية غير المعلنة مسبقًا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترمب، مساء 3 يوليو (تموز) 2025 (بتوقيت موسكو)، في توقيت لا نكون مبالغين إذا وصفناه بأنه بالغ الحساسية سياسيًّا وعسكريًّا، فوتيرة العمليات الروسية تتصاعد شرق أوكرانيا، في حين يتراجع الزخم الغربي الداعم لكييف، ويعود الانقسام الأوروبي مجددًا ليتزايد بشأن مستقبل هذا الصراع.
وبينما ركزت التصريحات الروسية الرسمية، التي أدلى بها يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس الروسي للسياسة الخارجية -عقب المكالمة- على رغبة موسكو في تسوية تفاوضية للصراع، فإنها أعادت تأكيد عدم التنازل الروسي عن إزالة ما تسميه موسكو بـ”الأسباب الجذرية للنزاع”، في حين طرح ترمب ضرورة وقف العمليات العسكرية بسرعة.
لكن ما لم يُعلن -فيما يبدو لي- يحمل من الأهمية ما يفوق المعلن، خاصةً في مسألتين راهنتين وملحتين، هما: الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، والموقف الأوروبي من هذا التقارب المفاجئ مجددًا.
وإذا بدأت بمسألة الدعم العسكري الأمريكي، فيمكنني اختيار عنوان رمزي لها، وهو التفاوض عبر الذخائر، وما أقصده هنا هو التغير في الموقف الأمريكي الذي فوجئ به كثيرون، حتى القيادة الأوكرانية نفسها، فقد جاء القرار الأمريكي الذي اتُّخذ مؤخرًا بتعليق تسليم بعض الذخائر المهمة والمتطورة -مثل القنابل الدقيقة الموجهة، وذخائر وصواريخ الهايمرس البعيدة المدى- بحجة إعادة النظر في الفاعلية الميدانية، والتوازن الإستراتيجي، في خطوة رأتها موسكو أول مؤشر جدي على ليونة أمريكية، يمكن البناء عليها.
وفي هذا السياق، ومع الأخذ في الحسبان توقيت المكالمة، يمكنني افتراض أن بوتين طالب ترمب خلالها بوقف شامل لكل أنواع الدعم الهجومي، خاصةً الأسلحة التي تمكن الجيش الأوكراني من ضرب العمق الروسي.
وأفترض كذلك أن يكون حذره من أن استمرار الدعم سيفرض على موسكو توسيع نطاق الحرب، وهو ما نشاهده من محاولات الجيش الروسي التوغل البري داخل مقاطعات أوكرانية جديدة، مثل دنيبروبرتوفسك وسومي، بالإضافة إلى خاركوف، فضلًا عن الرد داخل العمق الأوكراني، على نحو أكثر حدة.
وفي المقابل، يمكنني افتراض أن ترمب قدم عرضًا مقابلًا بوقف تصاعدي للدعم العسكري لكييف مقابل التزامات روسية -غير معلنة طبعًا- كالتوقف عن قصف منشآت الطاقة في غرب أوكرانيا، كما حدث خلال الأيام الأخيرة من تصعيد القصف الروسي، أو تقليص الهجمات الجوية على مدن بعيدة عن الجبهة.
إذن، ماذا بعد؟ في اعتقادي، ومن قراءة المشهد، يمكن توقع أن تشهد الأسابيع المقبلة تراجعًا ملحوظًا في كثافة النيران الأوكرانية في العمق الروسي، أي أن تقل وتيرتها عن تلك التي رأيناها خلال الفترة الأخيرة، خاصةً التي حققت نتائج نوعية، مثل قتل نائب قائد القوات البحرية الروسية ميخائيل غودكوف، الذي أُعلن مقتله في كورسك مع عدد من الضباط الكبار يوم الخميس 3 يوليو (تموز) 2025. كما قد نشهد تثبيتًا لما يمكن وصفه بـ”معادلة الردع المتبادل غير المباشر” بين واشنطن وموسكو.
لكن أين أوروبا من كل هذا، وما الارتدادات الأوروبية لهذه المكالمة المفاجئة بعدما خضعت لترمب ووافقت على رفع ميزانية الدفاع إلى 5%؟
ليس لديّ أدنى شك في أن هذه المكالمة -على غرار المكالمة الأولى بين ترامب وبوتين بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض- سوف تثير قلقًا واسعًا في العواصم الأوروبية خوفًا من تسوية تتجاوزهم، وتجعل أوروبا خارج اللعبة.
فموسكو تعلم جيدًا أن ترمب ينظر إلى أوروبا على أنها عبء إستراتيجي، وتتصرف من هذا المنطلق وهذا الفهم، مع إدراك تام بأن أي تفاهم روسي- أمريكي يمكن أن يهمش الدور الأوروبي في أي تسوية مقبلة، خاصة باريس وبرلين.
كما أن هذا التفاهم الروسي الأمريكي المحتمل قد يؤدي إلى إعادة ترتيب بنية الناتو، بما يقلص مثلًا الوجود العسكري الأمريكي في بولندا ودول البلطيق، بل قد يضعف سلاح العقوبات الاقتصادية الذي اعتمدت عليه أوروبا -منذ عهد بايدن وما زالت- لكبح روسيا منذ بداية الحرب عام 2022.
وهذا القلق الأوروبي تُرجم في تقارير متداولة تشير إلى تحركات أوروبية استباقية بهذا الخصوص، فمثلًا، بدأت فرنسا اتصالات مع الصين ودول عربية بهدف الإصرار على تأمين الدعم لدور أممي في أي عملية سلام مستقبلية.
وألمانيا مثلًا، منذ تسلُّم ميرتس السلطة، تضغط باتجاه تفعيل مظلة دفاع أوروبية مستقلة تحسبًا لتراجع الدور الأمريكي.
أما بولندا ودول البلطيق -المتشنجة تلقائيًّا وتاريخيًّا تجاه روسيا- فتخشى أن يُترك لها وحدها عبء المواجهة الجغرافية مع “الوحش” الروسي في حالة حدوث تفاهم شامل بين بوتين وترمب، يوثق كتفاهم مكتوب بين موسكو وواشنطن.
إذن، ومن واقع هذه القراءة التحليلية، يمكنني تقديم تقدير الموقف التالي للنتائج المحتملة للمكالمة، التي قد تثبتها أو تنفيها الأيام والأسابيع المقبلة:
1- فيما يتعلق بأوكرانيا: تجميد جزئي للعمليات القتالية، واستكمال مسار إسطنبول التفاوضي، مع خفض الدعم العسكري الأمريكي النوعي.
2- أوروبا: ستُهمَّش سياسيًّا في هذا الملف، وستقوم بالتصعيد الدبلوماسي سعيًا إلى التموضع المستقل عن واشنطن بهدف استعادة الدور.
3- روسيا: زيادة المكاسب العسكرية بقضم مزيد من الأراضي قدر المستطاع، أو على الأقل تثبيت المكاسب العسكرية، مع السعي إلى تقليص العقوبات ومحاولة التخفيف من وطأة الحزمة الثامنة عشرة المرتقبة، التي تعد من أقسى الحزم إذا تم تبنيها، وذلك من خلال محاولة استعادة الحوار الاقتصادي.
4- الولايات المتحدة (ترمب تحديدًا): سيسعى إلى الظهور بمظهر الوسيط الدولي الفعال المقتدر، وسيواصل مساعيه لكسر أوروبا عن طريق خفض الإنفاق الدفاعي الأمريكي عليها.
وفي الختام، يمكن القول إن مكالمة بوتين- ترامب، مساء 3 يوليو (تموز) 2025، لم تكن لمجرد تبادل التهاني بيوم الاستقلال الأمريكي -الذي يحل يوم الجمعة 4 يوليو (تموز)- بل هي -في رأيي المبني على فهمي الشخصي لرؤية بوتين- خطوة محسوبة بدقة في إعادة ترتيب أوراق التسوية، وفق صيغة تحفظ مصالح موسكو، ولكنها تتيح لترمب تقمص دور “صانع السلام” دون خسارة الداخل الأمريكي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير