أبحاث ودراسات

المفاوضات النووية.. كيف كشفت هشاشة النظام الإيراني؟


  • 22 أبريل 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: aljazeera

بينما تنصب جُل التحليلات الراهنة بشأن محادثات البرنامج النووي الإيراني بين طهران وواشنطن على استشراف مسار العملية، وفرص نجاحها، ومعوقات التعويل عليها في ضمان احتواء القدرات النووية للجمهورية الإسلامية، تكشف موجة شرسة من الصراعات الداخلية بين مسؤولي النظام الإيراني عن تناقضات عميقة، وغموض سياسي يحيط بقرار إيران الدخول في مفاوضات نووية جديدة مع الولايات المتحدة. ورغم احتكار المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي، للسياسة الخارجية من الناحية الدستورية، فإن المعارضة العلنية، والنقد المُبطن من أنصاره، يُشيران إلى أن سلطته تتآكل من الداخل مع تدهور الاقتصاد، وتصاعد الغضب الشعبي والضغوط الخارجية.

فقبل شهرين، وتحديدًا في فبراير (شباط) المنصرم، رفض المرشد الأعلى أي فكرة لإجراء محادثات مع الولايات المتحدة، واصفًا إياها بأنها “ليست ذكية، ولا حكيمة، ولا شريفة”، مؤكدًا أنه لا ينبغي التفاوض مع حكومة كهذه، ومع ذلك، تُعقَد الآن مفاوضات غير مباشرة رسميًّا بين النظام الإيراني والأمريكي؛ ومن ثم أثار هذا التناقص تساؤلات عدة عن دوافع تراجع الجمهورية الإسلامية عن نهجها المتشدد تجاه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب “قاتل قاسم سليماني”، وكيف سيبرر النظام الإيراني موقفه الجديد مع تصاعد الأصوات المشككة في ضرورة المحادثات النووية وشرعيتها؟

دلالات ازدواجية المنظور الإيراني

بعد يوم واحد من انعقاد مفاوضات رفيعة المستوى بين ممثلي النظام الإيراني والولايات المتحدة في مسقط، ظهر المرشد الأعلى علي خامنئي في طهران برفقة كبار القادة العسكريين، لكنه التزم الصمت حيال محادثات عُمان، لكن خطابه كان مملوءًا بالإشارات الخفية التي تهدف إلى طمأنة قاعدة سياسية عريضة تُصارع تحول النظام من عدم التفاوض إلى الدبلوماسية الهادئة مع خصمه اللدود، وأعلن خامنئي في خطابه في الثالث عشر من أبريل (نيسان) الجاري أمام كبار المسؤولين العسكريين أن العدو يشعر بالإحباط والتوتر إزاء تقدم إيران، وأن الانتقادات الخارجية الموجهة إلى الجمهورية الإسلامية نابعة من ارتباك الولايات المتحدة؛ لأن ليس لديها خيار آخر، معلنًا أن ساحة المعركة الحقيقية ليست إطلاق الصواريخ، بل بزوغ إرادة الأمة الإيرانية وقوتها.

وتجنب خامنئي حينذاك أي إشارة مباشرة إلى مفاوضات عُمان، بل كثف خطابه للإشادة بالقوة العسكرية لطهران، مؤكدًا أن أنشطة الحرس الثوري والجيش والشرطة جعلت العالم ينظر إلى الجمهورية الإسلامية بالرهبة والعظمة. وفي لحظة لافتة من التلاعب الخطابي، بدا خامنئي وكأنه يُقلل من شأن فاعلية برنامج الصواريخ الإيراني، مشيرًا إلى ضآلة أهمية عدد الصواريخ التي أُطلقت، أو التي أصابت الهدف معتبرًا الدقة والنتائج عوامل ثانوية؛ ما يعني إقرار المرشد الأعلى ضمنيًّا بالثغرات العسكرية الأخيرة، ربما في إشارة إلى وابل الصواريخ الذي شنته طهران على إسرائيل، والذي رُوج له كثيرًا، ولكنه لم يُحقق النجاح المطلوب من الناحية التكتيكية؛ ومن ثم كان قصد خامنئي من تلك الرسالة واضحًا في طمأنة القوات المسلحة بأن دورها لا يزال قائمًا، بغض النظر عن حقائق ساحة المعركة، أو التراجع الدبلوماسي المرتبط بقبول المفاوضات مع الجانب الأمريكي.

هذا المزيج من التهويل والاعتراف المتردد للنظام الإيراني له دلالة واضحة؛ فلسنوات، رسم خامنئي خطًا أحمر بشأن المفاوضات مع واشنطن، واصفًا أي حوار من هذا القبيل بأنه مضحك وسخيف، ومنذ عام ١٩٨٩ إلى قبيل المفاوضات بشهرين، كان “لا حرب ولا تفاوض” هو الموقف الرسمي للجمهورية الإسلامية، ولكن الآن في مواجهة الانهيار الداخلي، والضغوط الدولية، تراجع النظام بهدوء عن مبدئه، واستبدل به الاستعراض العسكري، والشعارات المعادية للغرب؛ لصرف الانتباه عن هذا التراجع.

وفي تحول خطابي مدروس، سعى خامنئي -خلال حديثه إلى كبار المسؤولين في النظام في الخامس عشر من أبريل (نيسان) الجاري- إلى التقليل من أهمية المفاوضات الجارية، بوصفها واحدة من عشرات المهام لوزارة الخارجية، لكن وراء هذا التقليل تكمن حقيقة مخاوف خامنئي من شن ضربة عسكرية محتملة من إسرائيل، مدعومة من الولايات المتحدة، أو اختناق اقتصادي مُستدام، أو انتفاضة وطنية ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، ومع ذلك، يبقى قرار خامنئي قرارًا تكتيكيًّا؛ فهو يهدف إلى إطالة أمد المحادثات، واستنزاف الوقت، على أمل الصمود حتى بعد انتهاء صلاحية آلية إعادة فرض العقوبات بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 2231 في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ولحماية سلطته، ومنع الغضب الداخلي والضغط الخارجي الغربي، لجأ المرشد الأعلي إلى تحوطه المعتاد بقوله “لسنا متفائلين أو متشائمين، وبالتأكيد لا نثق بالطرف الآخر”.

يكشف هذا الخطاب المزدوج عن خوف خامنئي، ليس فقط من المواجهة العسكرية؛ بل من الثمن السياسي للظهور بمظهر الضعيف؛ إذ يخشى النظام من أي تفاقم في الأزمة الاقتصادية بفعل العزلة الدولية، وهو ما سيكون بمنزلة الشرارة التي تُعيد إحياء حركات الاحتجاج التي هزت إيران في السنوات الأخيرة، لا سيما أن مواقع التواصل الاجتماعي تسخر من التحول المفاجئ للنظام، واصفين إياه بالاستسلام المُقنع، ويتناقض هذا -على نحو صارخ- مع أشهر من الدعاية النارية التي أصرت على أن مسؤولي الجمهورية الإسلامية لن يتفاوضوا أبدًا مع أي مبعوث لترمب.

المفاوضات النووية بين النظام والمعارضة

في خضم الصراعات النخبوية بين مسؤولي النظام الإيراني على الشؤون الداخلية للجمهورية الإسلامية، تبرز انقسامات أعمق بشأن الملفات الخارجية، التي لعل من أبرزها المفاوضات بشأن البرنامج النووي مع الولايات المتحدة؛ فقد شهد النظام انتقادات لم يشهدها منذ فترة طويلة، إذ اجتمع المؤيد والمعارض على رفض المفاوضات مع واشنطن باختلاف دوافعهم، حيث أعرب جواد لاريجاني، الخبير الاستراتيجي المخضرم في النظام والمقرب من خامنئي، عن استنكاره الصريح قبول طهران التفاوض، ورأى أنه كان بإمكان إيران مجرد تبادل الرسائل، دون الحاجة إلى قبول التفاوض، وانتقد أحمد علم الهدى، ممثل خامنئي في مشهد، مجرد فكرة المفاوضات، سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة؛ لكونها تتعارض مع كرامة الشعب الإيراني.

حتى وسائل الإعلام الحكومية، مثل صحيفة كيهان، قدمت تحذيرات متحفظة بأن مسار الاتفاق مع ترمب غير واضح. وفي مقال افتتاحي نُشر في صحيفة خراسان الحكومية، شن مهدي فضائلي، المقرب من المرشد الأعلى، هجومًا لاذعًا على استئناف المحادثات النووية مع الولايات المتحدة، محذرًا من أن المفاوضات ستكون السبب الرئيس للانهيار الاقتصادي، مستشهدًا بجولتي المحادثات النووية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والثانية خلال خطة العمل الشاملة المشتركة عام ٢٠١٥، وتداعياتهما على الجمهورية الإسلامية.

وفي مقابل هذا الهجوم، طمح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى تهدئة الأوضاع، مشيدًا بمخرجات جولتي المفاوضات في مسقط وروما، ومشيرًا إلى أن تلك المفاوضات جزء من عملية مستمرة وبناءة. لكن في المقابل، لم يكن جميع المسؤولين مستعدين للدفاع عن ازدواجية النظام، إذ رأى النائب أمير حسين صابتي أن أي اتفاق لن يؤدي إلا إلى تعميق التبعية الاقتصادية، وفرض عقوبات أشد. وتبنى ممثل المرشد في محافظة البرز، محمد مهدي حسيني، همداني موقفًا دفاعيًّا عن إيران، غير أن خطابه كشف عن مدى ضعف النظام، إذ أكد أن أي مفاوضات مع الولايات المتحدة تعني نهاية نظام الجمهورية الإسلامية. وفي تلك الأثناء، حاول علي شمخاني، المسؤول الأمني ​​الرفيع السابق، التحلي بنبرة متوازنة، مشيرًا إلى أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي سيتولى المسؤولية الكاملة عن المفاوضات الجارية. وفي السياق نفسه، سعى كاظم صديقي، المقرب من خامنئي، إلى طمأنة أنصار النظام بأن طهران أصبحت اليوم نووية، ولا يمكن للغرب تغيير هذا الواقع أو انتزاع القدرة النووية من الشعب الإيراني.

تكشف ملامح النهج السابق عن أسلوب النظام المألوف؛ حيث يُجيز خامنئي المفاوضات، في حين يُهاجم مساعدوه الموثوق بهم العملية علنًا، مُمهدين بذلك الطريق السياسي لإلقاء اللوم على المفاوضين في حال فشل المحادثات، وهو التكتيك نفسه المُتبع عام ٢٠١٨، عندما حُمِّل الرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني، ووزير خارجيته جواد ظريف، المسئولية كاملةً بعد انسحاب دونالد ترمب من الاتفاق النووي.

مستقبل نظام خامنئي

إن امتداد هذه الخلافات إلى القنوات التليفزيونية والمنابر التي يسيطر عليها النظام أمر ذو دلالة، فقد لا يزال هناك المسؤولون ورجال الدين يذعنون لخامنئي قولًا، لكنهم عمليًّا يُقوضون هيمنته؛ مما يُبرز الصعوبة المتزايدة التي تواجهها طهران في تقديم جبهة موحدة لمواطنيها، أو للمجتمع الدولي. ومع استئناف النظام الديني في إيران مفاوضاته النووية غير المباشرة مع الولايات المتحدة في روما بعد مسقط، تكهن عدد من المسؤولين في طهران بشأن التداعيات الداخلية المحتملة، إذ تكشف تصريحاتهم عن خوف عميق من أن تُقوض المحادثات الحالية سيطرة النظام على الشارع الإيراني، وتُشعل اضطرابات جديدة في جميع أنحاء البلاد، بدلًا من أن تُعزز نفوذ النظام؛ ما يشير إلى نخبة دينية ليس لديها خطة عن كيفية التعامل مع اقتصاد متدهور، واستياء شعبي متزايد، وخطر انهيار الردع الإستراتيجي.

ولا تقتصر مشكلة نظام الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على قرار التفاوض من عدمه، حيث يُدرك النظام الإيراني أن استرضاء الولايات المتحدة بالتنازل عن قضايا جوهرية، مثل برنامجها النووي، وترسانتها الصاروخية، ووكلائها الإقليميين، سيُهدد بانهيار نفوذ إيران الخارجي، ومن شأن هذه التنازلات أن تُقوض مصداقية النظام، وتُسبب انشقاقات واسعة النطاق في صفوف المتشددين الذين لطالما شكلوا قاعدة دعمه الوحيدة. وبينما يحاول المسؤولون حشد قواتهم بشعارات الأمن والمقاومة، يتضح أن أسوأ مخاوفهم ليست الهجمات الأمريكية؛ بل انتفاضة وطنية أخرى، فقلقهم الحقيقي هو أن الجماهير المحبطة، التي عانت -سنوات- الفقر والظلم وعنف الدولة، ستستغل نقاط ضعف النظام، وتسقطه من الداخل.

لقد هزّ قرار التعامل مع الولايات المتحدة -بعد عقود من وصفها بـ”الشيطان الأكبر”- شرائح أساسية من القاعدة الدينية؛ إذ يواجه الآن كثير من مؤيدي النظام، الذين أُحبطوا بسبب الانهيار الاقتصادي والصراعات الداخلية، ضغطًا نفسيًّا لتبرير ما قيل لهم طويلًا إنه خيانة للمبادئ التأسيسية للثورة، فلا تكتفي الجمهورية الإسلامية بقبول فكرة التفاوض مع العدو التقليدي، بل تعطي إشارات خضراء للاستثمار الأجنبي، والانفتاح على رأس المال الأمريكي، حتى إن مقالًا نُشر في صحيفة “جهان صنعت” أشار إلى ​​أن النظام الإيراني قد وضع خططًا لمشروعات استثمارية بقيمة تريليوني دولار، نصفها مخصص للمشاركة الأمريكية.

ووراء هذه العناوين الرئيسة، يكمن نمط متناقض؛ فرغم الخطاب الاقتصادي والانفتاح المفاجئ على مشاركة الولايات المتحدة، لا يزال نهج النظام الديني ثابتًا، فهو لا يتخلى عن أيديولوجيته، بل يكسب الوقت فحسب، الهدف ليس الإصلاح ولا إعادة الإدماج؛ بل التأخير والتشتيت والحد من الخسائر، ويكشف هذا التناقض بين الأمل الاقتصادي والجمود الأيديولوجي عن إستراتيجية النظام الخفية، فلا ينوي المرشد الأعلى علي خامنئي تقديم تنازلات جدية؛ بل يستخدم المفاوضات مناورةً لكسب الوقت، وهو أداء مدروس يهدف إلى تخفيف الضغط مع الحفاظ على النظام، إذ يرى خامنئي أن أي تسوية حقيقية، لا سيما تلك التي تُضعف آليات القمع أو السيطرة الاقتصادية، تُمثل تهديدًا مباشرًا لنفوذ النظام، ويخشى أن يؤدي أي تراجع، ولو كان ضئيلًا، إلى تشجيع الشعب الإيراني، وترك النظام عرضة لانتفاضة عارمة جديدة.

وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الجمهورية الإسلامية التي مضى على وجودها قرابة نصف قرن، تواجه أزمات متزامنة من الانهيار الاقتصادي، والتخبط الإستراتيجي، والتشرذم الداخلي، ويجد الآن مسؤولو نظام خامنئي أنفسهم في مأزق دقيق؛ يتفاوضون في الخارج، ويناقشون علنًا المحرمات نفسها التي كانت الجمهورية الإسلامية تعدّها مقدسة في السابق، في حين يؤججون الغضب في الداخل للحفاظ على هيكل النظام وتحالفاته، فحتى لو أبدت قيادة النظام انفتاحًا مؤقتًا، فإن البنية العميقة للجمهورية الإسلامية لا تزال متجذرة أيديولوجيًّا، ومع انعقاد الجولة الثالثة من المحادثات، فإن مجرد التعامل مع ما يُسمى “الشيطان الأكبر”، وخاصةً مع عودة ترمب، يُحطم سنوات من التظاهر الأيديولوجي الزائف، ويكشف مخاطرة نظام هش نحو المجهول.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع