التاريخ والثقافة

بداية أم استمرار للمرحلة الأوروبية في تاريخ روسيا؟

المسار الحضاري لروسيا

i مصدر الصورة: مجلة روسيا في الشؤون العالمية

أصبح العام المنتهي 2023، زمن تكيف روسيا مع الواقع الذي تغير منذ فبراير (شباط) 2022، ولكن دون أن يحمل معه إجابات عن أسئلة قديمة تبدو أبدية. تحدث فيودور لوكيانوف إلى أليكسي ميلر، وبوريس ميزويف، في محاضرة أقيمت في موسكو، عن نهاية المركزية الأوروبية في تاريخ روسيا، ومستقبل التاريخ والفلسفة، وكيف تغير التصور الأيديولوجي والسياسي للمجتمع الروسي خلال عام 2023.

فيودور لوكيانوف: العام الماضي، في رأيي، كان أقل روعة من “نقطة التحول” في عام 2022، ولكنه أكثر أهمية؛ بمعنى أن التكيف مع الواقع المتغير، وروتين الظروف الجديدة بدأ. كجزء من مناقشتنا اليوم، سنحاول استخدام نوع من الاختبار الصريح للنظر إلى حالة جسدنا الاجتماعي من وجهة نظر سلامته الأيديولوجية والسياسية، فهل من الممكن الآن، في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، أن نقول إنه حدث تحول أيديولوجي وأخلاقي معين في المجتمع الروسي مقارنة بما كان يشعر به قبل عام ونصف العام، وأننا كدولة بدأنا ننظر إلى أنفسنا والعالم نظرة جديدة؟

بوريس ميزويف: هناك ظرف واحد مشجع يلاحظه الجميع، وألاحظه أيضًا بسرور؛ هناك مزيد من التفاؤل، ويرجع ذلك إلى التغلب على العقوبات، والوضع على الجبهة، والانخفاض العام في القلق. في العام الماضي، كانت هناك مخاوف أكثر بكثير، بما في ذلك المخاوف من جولات جديدة من التصعيد. ومع ذلك، ربما يكون هذا هو التغيير الرئيس الوحيد. وفي رأيي أن التحولات المهمة الأخرى التي لا رجعة فيها، بما في ذلك التحولات الأيديولوجية، التي كان ينبغي أن تحدث، لم تحدث بعد.

تحدثت قيادة البلاد في عام 2023 كثيرًا، وفي كثير من الأحيان عن روسيا كحضارة دولة، لكنني لم ألاحظ أن المجتمع نفسه قد تغير- باستثناء ظهور أشخاص بدأ إيمانهم بالمفهوم الجديد للتصور الذاتي الروسي، يُنظر إليه على أنه اختبار للولاء. وعلى مستوى أعمق، أعتقد أن كثيرًا من الأشياء ستحدث في العام المقبل.

أريد أن أشارككم بعضًا من توقعاتي الكثيرة الفاشلة لعام 2023. وكانت المفاجأة الكبرى لي هي النجاح الدراماتيكي الذي حققه دونالد ترمب. في بداية هذا العام، بدا للجميع أنه بعد الانتخابات النصفية الفاشلة نسبيًّا للجمهوريين، ومسؤولية ترمب الخاصة عنها، أصبحت نهاية حياته السياسية أمرًا مفروغًا منه، وبات من الواضح الآن أن ترمب لا يمكن إيقافه عمليًّا؛ فهو الشخصية الواعدة على الساحة السياسية الداخلية الأمريكية. أعتقد أنه إذا عاد ترمب إلى السلطة، وهو ما ستتبعه بالتأكيد تغيرات جذرية في كثير من مجالات الحياة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، فإن كثيرًا من أفكارنا عن “الغرب الجماعي”، وعن أنفسنا بوصفنا دولة حضارية، سوف تختفي. إذا لم نتمكن من إيجاد لغة مشتركة مع الغرب القديم الفاقد الصلاحية، فهل يمكننا أن نفعل الشيء نفسه مع الغرب الجديد القادم؟ إن فكرة الدولة الحضارية قد تؤدي إلى تصور روسيا حليفًا لأوروبا وأمريكا اليمينية.

فيودور لوكيانوف: هل تبدو لك أمريكا الافتراضية أو غرب ترمب غربًا مختلفًا؟

بوريس ميزويف: أعتقد أن العالم الغربي قد يواجه عددًا من التحديات. على سبيل المثال، سيكون هناك انقسام في أوروبا، وستتحول دول مثل المجر من كونها منبوذة في الاتحاد الأوروبي إلى اتباع سياسة أكثر استقلالية، بما في ذلك العلاقات مع الولايات المتحدة، ستعيد بولندا النظر في وجهات نظرها المؤيدة لأوروبا، وستصبح أكثر يمينية. إذا حدث شيء من هذا القبيل- في رأيي- فإن الخطاب عن حضارة الدولة الروسية بوصفها شيئًا منفصلًا ومستقلًا قد يتغير. أنا لا أقول إن هذا سيحدث بالتأكيد، ولكن بعض التغييرات الرئيسة على الساحة الدولية قد تؤثر في الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا.

وهناك نقطة أخرى تبدو مهمة لي؛ وهي الحفاظ على التناقض الأساسي فيما يتعلق باستمرار الصراع. فمن ناحية، فإن تطور الأوضاع على الجبهة يدفع نحو تجميد الصراع، من أجل “التعادل”، ومن ناحية أخرى، تصر القوى الأكثر نفوذًا في كل من الغرب وروسيا على استمرار الصراع. يدفع الوضع الموضوعي نحو نتيجة واحدة، لكن الحالة المزاجية الذاتية تقول شيئًا مختلفًا تمامًا. ولهذا السبب، ينبغي لنا أن نتوقع حدوث تغييرات في الرؤية الأيديولوجية والسياسية في عام 2024.

لا يبدو لي أن العام الماضي قد نجح في إصلاح أي اتجاهات أيديولوجية جديدة، أو عزز الشعور بأننا انفصلنا نهائيًّا، وبلا رجعة، عن الغرب، وننظر إلى أنفسنا حقًا بوصفنا مجتمعًا منفصلًا.

أليكسي ميلر: العام الماضي مهم، بمعنى أن الجميع لديه شكوك. في الواقع، الولايات المتحدة أقوى من أي وقت مضى، والتحديات الرئيسة للقوة الأمريكية تأتي- بشكل رئيس- من الداخل. وتتساءل الصين عما إذا كانت كبيرة أو قوية بالدرجة الكافية للرد على أولئك الذين يقفون في طريقها.

إن أي دولة كبيرة سوف تفكر دائمًا في هويتها، ومقياسها، ومدى عظمة إمكاناتها. وروسيا بهذا المعنى ليست استثناءً أيضًا. في عام 1991، لم نعد قوة عظمى، ولكن ماذا أصبحنا؟ هل بقينا قوة أم أصبحنا جزءًا من شيء عظيم كان في يوم من الأيام؟ هل نحن ضعفاء لأننا لا نؤمن بنقاط قوتنا، أو لأننا نبالغ في تقديرها؟ هذه القضايا، وغيرها من الموضوعات  الكثيرة الأخرى، تستحق مناقشة واسعة النطاق، ولكن لسوء الحظ، تناقَش في بيئة غير مواتية، في ظروف العمليات العسكرية، أو لا تناقَش البتة. ومن الواضح أننا دفنا توجهات كثيرة، بما فيها التوجهات الغربية.

أنا لا أتفق مع بوريس في أنه فور وصول ترمب إلى السلطة، سوف نعود إلى الغرب. هذا لن يحدث، وما سيحدث ليس واضحًا لي. الأمر الثاني الذي أود أن أجادل فيه مع بوريس، هو احتمال تجميد الصراع. لا يوجد تجميد ممكن، إذا كان من الممكن تمرير الخط الفاصل في كوريا، فماذا يمكننا أن نقول عن خط التماس في الصراع الروسي الأوكراني؟ من الممكن عقد معاهدة سلام تحدد أشياء معينة. على سبيل المثال، توافر أسلحة هذه القوة أو تلك، لكن لن يكون هناك تجميد للصراع.

فيودور لوكيانوف: نشر سيرغي كاراغانوف مؤخرًا أفكاره عن أوروبا، أو بعبارة أكثر دقة، عن نهاية المسار الأوروبي لروسيا. وبوريس- كما تبين فيما بعد- لا يعتقد أن المرحلة الأوروبية قد انتهت. أو ربما، حقًّا، هذا كل شيء؟

بوريس ميزويف: ما سيطر بالفعل على الوعي العام فترة من الزمن، فكرة نهاية المنافسة العالمية، وأنه من غير المرجح أن تستعيد زخمها السابق. فعلاقاتنا مع ألمانيا- على سبيل المثال- كانت مبنية على وهم مفاده أن الاقتصاد يحدد القيم، وأن وجود المصالح الاقتصادية المتبادلة من شأنه أن يؤدي- بالضرورة- إلى تقارب القيم. ولم يأخذ أحد في الحسبان أن أي تلميح إلى انتعاش السيادة الروسية، ينظر الألمان إليه على أنه مؤلم، ويبعث على القلق.

إذن، ما نوع خيار القيمة الحضارية الذي يمكن أن نتحدث عنه هنا؟ سيأتي الاختيار الحضاري عندما لا نشعر بالتعاطف حتى مع أوروبا المتعافية، بل نختار أنفسنا.

وباستثناء تجميد الصراع، لا أرى حتى الآن أي خيار آخر لتطور الأحداث. بالطبع يمكنك الاستمرار في إطلاق النار، ولكن لا يوجد معنى خاص لهذه الأفعال، باستثناء الحاجة النفسية فقط. الحدود مع أوكرانيا طويلة جدًّا. على سبيل المثال، لا توجد عمليات عسكرية على الحدود مع منطقة تشرنيغوف، وقد حدث بالفعل تجميد هناك.

فيودور لوكيانوف: ما زلت لا أفهم تمامًا السبب وراء الاعتقاد بإمكانية اختلاف أوروبا إذا وصل اليمين المحافظ إلى الحكم عن أوروبا اليوم. في اعتقادي أنه لا ينبغي لنا أن نقلل من قوة المؤسسات الأوروبية، التي نجحت- إلى حد كبير- في منع الحكومات الوطنية من اتخاذ إجراءات جذرية، والانحراف عن المسار الأوروبي الشامل. إن تكاليف الانفصال عن الاتحاد الأوروبي باهظة جدًّا، ولا تستطيع أي من الدول الأعضاء أن تتحملها. أي نوع من أوروبا الجديدة ستكون هذه؟

أليكسي ميلر: إذا فهمنا بحلول الفترة الأوروبية من تاريخنا الرغبة في أن نصبح بشكل جماعي جزءًا من أوروبا، فبالتأكيد، انتهت هذه الفترة، وفي الوقت المحدد تمامًا. واستمرت هذه الأزمة عدة مئات من السنين، وبحلول الوقت الذي انتهت فيه، لم تعد أوروبا قائدة للمجتمع الدولي.

إن استحالة الانفصال بعضها عن بعض- كما تحدث فيدور- ليست اعترافًا بقوة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ بل بضعفها. ما يوحدهم ليس الرغبة في عدم القتال مرة أخرى، ولكن الشعور الداخلي بأنهم لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة بشكل منفصل. ومن الناحية الاقتصادية والتكنولوجية، فإن أوروبا أيضاً لا تُظهِر تقدمًا مبهرًا. وحتى لو اندلعت حرب عالمية جديدة، فإن مسرح العمليات الأوروبي لن يكون هو المسرح الرئيس.

وإذا حررنا أنفسنا من فكرة أن مهمتنا الجماعية هي الوقوف على قدم المساواة مع الدول الأوروبية، فإننا نتخلص أيضًا من كثير من سوء الفهم وخيبات الأمل المرتبطة بذلك. نحن ننظر إلى الألمان ونريدهم أن يتصرفوا على نحو معين، وينظر الألمان إلينا ويتوقعون منا أيضًا تصرفات معينة. إذا تصورنا أننا لا نتوقع أي شيء من الألمان، فقط المال والتكنولوجيا، وأن الألمان يريدون منا المال والنفط فقط، فإن كل شيء سيصبح أبسط بكثير، وربما يكون بداية صداقة عظيمة. آمل أن يحدث هذا يومًا ما. الشيء الرئيس هو الانتهاء من الفكرة الجماعية عن ضرورة الحصول على اعتراف بأننا جزء من الجماعة الأوروبية.

فيودور لوكيانوف: تذكرت أنه في عام 2019، عندما اعتُمِدَ قرار البرلمان الأوروبي بشأن المسؤولية المتساوية للاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان الفصيل الوحيد الذي صوّت ضد القرار هو الشيوعيين. صوّت كل “الشعبويين” لصالحه. لقد تبين أننا وأوروبا ليس لدينا تاريخ مشترك، أو نصر مشترك. هل هذا استنتاج نهائي؟

أليكسي ميلر: نعم، هذا نهائي. أيًّا ما كان المجتمع الذي ستأخذه، فلن يكون له تاريخ مشترك، تمامًا كما لا نملكه نحن أنفسنا، وكما لم يكن لدينا هذا التاريخ مع حلفائنا الغربيين. كان هناك إجماع نورمبرغ، نتحدث عنه، ونصمت عنه، وننظر هنا، ثم نغمض أعيننا. كان الألمان واليابانيون سيئين، وعلى خلفيتهم، بدا الجميع جيدًا- كل شخص آخر لم يرتكب جرائم، مما يعني أنه لا يمكن أن تكون هناك مطالبات ضدهم.

وفي الوقت نفسه، كانت مسألة مَن الذي حرر أوشفيتز والأراضي الأخرى في البداية موضوع صراع زاحف. إذا نظرت إلى بيانات الاقتراع للفرنسيين عمن أدّى دورًا رائدًا في الحرب ضد النازية في الأربعينيات؛ فاز الاتحاد السوفيتي بفارق كبير، وفي التسعينيات فازت الولايات المتحدة. لقد أُنجزت بعض الأعمال، ويشكل قرار 2019 مرحلة أخرى في هذه الرحلة الطويلة.

من الواضح أن إجماع نورمبرغ لم يشمل العالم كله، ولم يعتقد أحد خارج أوروبا أن ألمانيا واليابان وحدهما هما المسؤولتان عن اندلاع الصراع. واليوم، وبما أننا في حالة حرب، يعبَّأ المؤرخون أيضًا في المعركة لأغراض دعائية، وتنهار مساحة الحوار داخل البلدان، وعلى الساحة الدولية.

بوريس ميزويف: من جهتي، سأضيف أيضًا بضع كلمات إلى مناقشتنا عن التاريخ، تذكرت مقالًا بقلم ماكس بوت في الواشنطن بوست، كان مخصصًا لفيلم ريدلي سكوت “نابليون”، حيث تحدث عن هوية نابليون- بطل هو أم مجرم. ومن الحجج التي ساقها على أنه مجرم: أولًا: إن نابليون أطلق النار على المدنيين في مصر. ثانيًا: إنه قتل الحرس القديم في أثناء غزو روسيا. في الوقت نفسه، مع أن ماكس ذو أصل روسي، فإنه لم يكتب قط أن غزو روسيا نفسها كان عملًا فظيعًا من وجهة نظر إنسانية وأخلاقية. أنصحك بمشاهدة الفيلم الأمريكي “نورمبرغ”، وعلى وجه الخصوص، الانتباه لكيفية تصوير المدعي العام السوفيتي والجندي السوفيتي هناك. وبعد مشاهدته سيتبين أن إجماع نورمبرغ كان وهمًا، وكانت الخلافات بين الحلفاء موجودة دائمًا.

يبدو لي أن العنصر الأقوى الذي يطغى على روسيا الآن هو الرغبة الشديدة في اتخاذ موقف يميني محافظ متشدد، وحب أوروبا الصارمة، “أوروبا أوسفالد شبينغلر “، وليس “أوروبا كارل بوبر “.

إن أي إغراء عادة ما يكون مقبولًا أو مرفوضًا، ولكنني في هذه الحالة لا أرى في روسيا- على الأقل الآن- استعدادًا فلسفيًّا داخليًّا جديًّا للرد على إغراء أوروبا اليمينية، “أوروبا شبينغلر”. وحتى أولئك الذين ينكرون إمكانية الوحدة مع أوروبا لا يفهمون عن أي نوع من أوروبا يتحدثون. ووراء الخطاب الذي يروج له كثيرون، والذي يزعم أن الأوروبيين أنفسهم لم يعودوا أوروبيين، تكمن فكرة مفادها أن هناك أوروبيين حقيقيين في مكان ما، ولكنهم خارج السلطة. والسؤال الرئيس الآن هو: كيف لا نستسلم لإغراء اليمين الأوروبي؟ لا أحد يهتم حقًّا بهذا الموضوع، لكنه بالتأكيد سيكون الموضوع الرئيس في العام المقبل.

فيودور لوكيانوف: يبدو لي أنه لا يوجد فهم لهذا الموضوع، ليس لأن أوروبا اليمينية محبوبة أو غير محبوبة، ولكن لأن المسار السياسي مرتبط بالمهام الحالية. وإذا ظهرت أهداف جديدة غدًا، فستُعدَّل السياسات لتحقيقها. وهناك سؤال آخر: هل كان هناك علم تاريخي في الواقع الحالي؟ وهل يحتاج إليه أحد؟

أليكسي ميلر: العلم التاريخي موجود، وهو ضروري. أفضّل إجراء جدل أبدي بشأن ما إذا كان التاريخ علمًا باللغة الإنجليزية، لأنه يحتوي على فئتين؛ العلوم الاجتماعية، والعلوم الإنسانية. التاريخ أقرب إلى العلوم الإنسانية، ولكن ليس لأنه لا يفهم موضوعه، ولكن لأنه لكي يفهم موضوعه- الإنسان والمجتمع- يلجأ إلى تقنيات تكون في بعض الأحيان أقرب إلى الفن. ويجب الحفاظ على بعض المساحات التي يوجد فيها مجال للمناقشات التاريخية الحرة، واليوم عددها أقل من الأمس، وآمل ألا يكون عددها أقل من اليوم في الغد. يتم القيام بشيء ما في هذه الفضاءات، حتى لو لم يكن ذلك ملحوظًا دائمًا وراء بدائية التاريخ على نطاق عريض.

فيودور لوكيانوف: نواجه اليوم استغلال المعرفة العامة، وربما يكون هذا أمرًا طبيعيًّا، خاصة في سياق العمليات الانتخابية الحالية. هل لا يزال هناك طلب على المعرفة لا تحدده المهام الحالية؟

بوريس ميزويف: ليس لدي أي تشاؤم بشأن التاريخ، خاصة إذا كنا نتحدث ليس عن الكتب الشعبية، ولكن عن المنشورات الجيدة. هناك بالفعل أعمال تاريخية أساسية. الأمور أسوأ بكثير مع الفلسفة. لقد دُمِّرَت تقاليدنا- المثالية والمادية، ولم يبق سوى الترجمة. لا يمكنك إلقاء اللوم على أي شخص فيما حدث.

لقد حدث أنني قضيت معظم حياتي في دراسة العلوم السياسية، مع أن الفلسفة كانت- وستظل- مطلوبة دائمًا؛ لأن هناك دائمًا حاجة إلى شرح ما يحدث وفهمه. ذات مرة، أُبعدت عن الورشة الفلسفية بسبب تسييسها. بدا لي أن مهمة الفلسفة هي شرح العالم، وليس إعادة بنائه. وكما كتب ألكسندر زينوفييف: “اعتاد الفلاسفة تفسير العالم، لكنهم الآن لا يفعلون ذلك أيضًا”. تخلت الفلسفة الحالية عن شرح الزمن والعصر، وبدأت بالانخراط في التفكير في الغرب، وأصبحت- على الفور- مملة جدًّا. إحدى المهام المهمة اليوم هي إعادة الفلسفة إلى سياق سياسي؛ لأن الفلسفة لا يمكن أن تكون غير سياسية. من وجهة نظري، لا يمكن للفلسفة إلا أن تكون أيديولوجيا، لكنها لا يمكن أن تكون أيديولوجيا فقط.

يجب أن تكون الفلسفة مساحة اتصال بين قوتين: “الدولة والمجتمع الأكاديمي”. إذا سُلِّمت الفلسفة بالكامل إلى أيدي الدولة، فسنتحدث حصريًّا عن أوامر الدولة، وإذا انخرط الأكاديميون فقط في الفلسفة، فسوف تفقد الفلسفة الاتصال بالواقع تمامًا. دعونا نتخيل أننا توقفنا عن مغازلة أوروبا اليمينية واعترفنا بأننا حضارة. في هذه الحالة، أحد الأسئلة الأولى التي ستنشأ هو المكان الذي ستحتله القوة الفكرية في مشروع روسيا بوصفها دولة حضارة.

فيودور لوكيانوف: في رأيي، خيار فهم أنك حضارة، والتصرف وفقًا لهذا الوضع ليس عمليًّا. الحضارة إما أن تكون موجودة وإما لا تكون. ماذا يعني أن ندرك أنفسنا كحضارة؟

بوريس ميزويف: أعتقد أن العامل الإرادي يؤدي الدور الأكثر أهمية هنا. يبدو الأمر- كما هي الحال في فلسفة يوهان غوتليب فيشته- “في البدء كان الفعل”، تصبح الحضارة مجتمعًا يطلق على نفسه ذلك، ومن حيث المبدأ، قد لا يكون واحدًا في المحتوى. ولا تعاني الصين هذه المشكلة، وربما تعانيها الهند جزئيًّا. أما نحن، فهذا “فعل- عمل”، عمل تنفيذي، نحن بحاجة إلى أن نقرر مَن نحن: “جزء من أوروبا العظمى، أوروبا الخاصة، أوروبا الحقيقية، أم مجتمع يبني عالمه الخاص بعلمه، وصناعته، وثقافته؟”. نحن لسنا مجرد البروليتاريا الخارجية للغرب، التي تشعر بالإهانة لعدم السماح لها بدخول “بيت القطة” الغربي. إذا اعترفنا بأنفسنا كحضارة، فسوف يكون لزامًا علينا أن نقبل ميثاقًا جديدًا بشأن كيفية بناء العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني، والدولة وقطاع الأعمال، والدولة والمجتمع الفكري.

أليكسي ميلر: بفضل المناقشات بشأن حضارة الدولة، انتهى أخيرًا الحديث عن ضرورة أن تصبح روسيا “دولة قومية طبيعية”. كان هناك منطق بسيط وراء هذه المحادثات: بما أن الدول الأوروبية- في معظمها- هي دول قومية، فإن روسيا بحاجة إلى أن تصبح هي نفسها حتى تُقبَل في الأسرة الأوروبية. الدولة القومية الروسية، أو الأمة الروسية- كل هذه المفاهيم برزت خلال المناقشات المصاحبة. وعندما أصبح من الواضح أن روسيا لن تصبح دولة قومية “طبيعية”، بدأنا نفكر في هوية روسيا الحقيقية؛ لأنه من غير الممكن أن نطلق على أنفسنا إمبراطورية اليوم، فقد قررنا الاختيار لصالح الحضارة الروسية.

كيف يمكن أن يكون هذا الاتحاد غير المتماثل؟ وكيف ينبغي أن يتحول المركز؟ وما آليات التفاعل بين المركز والمناطق التي ينبغي أن تكون مرتبطة به؟ كل هذه الأشياء تستحق الحديث عنها اليوم، خاصة في سياق الأعمال العسكرية الشمالية الشرقية، وما لها من تأثير كبير في هذه المجالات أيضًا.

إن أفضل إستراتيجية لروسيا اليوم تتلخص في الحفاظ على علاقة تجارية باردة مع العالم. تبني روسيا شراكات مع تلك الدول التي تساعدها على الالتفاف على العقوبات، وتسمح لطائراتها بالتحليق، لكن قلب المشاهد الروسي لا يقفز من الفرحة عند مشاهدة الأوبرا الصينية.

نحن في وضع “بين- بين”، ليس لدينا ما يكفي من الإمكانات لنكون حضارة مستقلة، فنحن محصورون بين الشرق والغرب؛ لذا، علينا أن نعود- مرارًا وتكرارًا- إلى الحديث عن حجم البلاد، ومواردها، وأسواقها. إذا لم نكن كبارًا بما يكفي للقيام بأشياء معينة، فكيف ينبغي لنا أن نستجيب للتحديات التي تنشأ؟ ليس لديَّ إجابة عن هذا السؤال، كما أن إعلان أنفسنا بوصفنا حضارة ليس إجابة عنه.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المحاضرة يعبر عن رأي الباحثين، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع