عند الاستماع إلى تصريحات كثير من السياسيين الغربيين، يبدو من المستحيل أن نفهم ما الذي يعنيه لهم الصراع الحالي في أوكرانيا، وآليات التعامل معه وأهدافه. على سبيل المثال، ينفي الرئيس الأمريكي بايدن المشاركة المباشرة للجيش الأمريكي في الصراع، لكنه في الوقت نفسه، يؤكد في كل مكان تزويد أوكرانيا بأسلحة بمليارات الدولارات. إذا خُصِّصَت المليارات بغرض دعم الاحتياجات العسكرية لأوكرانيا، فهذا يعني إذن أن المصالح الأوكرانية مهمة جدًّا للولايات المتحدة. لماذا لا نجد الجيش الأمريكي يحارب معها؟ ما الهدف من عمليات التسليح الحالية التي تقدر بمليارات الدولارات؟ هل لهذه المساعدة ما يبررها؟ هل هي مجرد عملية تجارية مربحة؟ هل هي مزيج بين الاستثمار التجاري والسياسي؟ لا توجد إجابات واضحة.
أمر آخر لا يقل أهمية عما سبق، وهو ما كشفت عنه المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، من أن اتفاقيات مينسك كانت مجرد محاولة لكسب الوقت لصالح أوكرانيا، مما يعني أن أحدًا لم تكن لديه نية حقيقية لإحلال السلام، وأن روسيا قد تعرضت للخداع. السؤال هنا: ما الغرض من وراء هذه اللعبة؟ حماية أوكرانيا أم إشعال حرب بين الروس والأوكرانيين؟ ولماذا كان من الضروري الخداع، إذا كان في الإمكان- ببساطة-تفعيل الاتفاقيات التي وضعتها ألمانيا نفسها، أم إن ألمانيا وضعت شروطًا كانت تعلم مسبقًا أنه من المستحيل تحقيقها؟ تبدو هذه الأسئلة اليوم ذات أهمية كبرى لكشف الضباب المحيط بالوضع الحالي لكي تتضح للجميع الأسباب التي أدت إلى تطور الأحداث وصولًاإلى ما نحن فيه الآن، ثم البحث عن كيفية الخروج منه؛ لأنه يزداد خطورة. بناءً على ذلك، نحتاج إلى العودة إلى الوراء لتحليل أصول هذا الحدث.
عادةً ما تولد أي حرب جديدة منرحم الحرب الأخيرة. سبق الصراع الأوكراني الحرب الباردة. إن الإجابة عن كيفية انتهاء الحرب الباردة ستقربنا من فهم معنى الصراع الحالي، الذي لا يقتصر على أوكرانيا؛ بل يؤثر في كثير من البلدان. الحقيقة هي أن دول الغرب ودول الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، وفي مقدمتها روسيا، تنظر إلى نتائج هذه الحرب نظرة مختلفة.
لقد افترض الغرب أنه انتصر في الحرب الباردة انتصارًا لا لبس فيه، وأن روسيا قد تعرضت للهزيمة. وبما أن روسيا من المفترض أنها الجانب المهزوم، فإن أراضي الاتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الاشتراكي غنيمة مشروعة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ولابد أن تقع تحت سيطرة الغرب؛ ومن ثم فإن أوكرانيا هي منطقة نفوذ للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ووفقًا لمبدأ “الويل للمهزوم”،ليس من حق روسيا أن تدعي لنفسها أي حقوق في هذه المنطقة، ولا يمكن قبول أي مزاعم بشأن ضرورة حماية مصالحها، أو دورها المؤثر في السياسية الأوكرانية. أما واشنطن فهي ترى أن كل هذه المزاعم “لا أساس لها”، وأنها تعد هجومًا واضحًا على مصالح أمريكا وحلف شمال الأطلسي. لم نعد بحاجة إلى النظر إلى العالم من منظور العلاقات بين الشرق والغرب. قالت مارغريت تاتشر في أوائل التسعينيات: “لقد انتهت الحرب الباردة؛ أي إن شرق أوروبا لم يعد موقعًا مهمًّا، بعدما تحدد بوضوح مَن السيد الوحيد لهذا العالم الذي انتصر في النهاية”.
تنظر روسيا إلى هذه العملية نظرة مختلفة تمامًا. لا ترى نفسها خاسرة بأي حال من الأحوال؛ لأن الحرب الباردة قد انتهت من خلال الإصلاحات الديمقراطية في السياسة والاقتصاد، واستبدلت التجارة والتكامل مع الغرب بالمواجهة العسكرية؛ أي إذا أصبح عدوك السابق صديقًا اليوم، ألا يعد هذا انتصارًا؟ في الوقت نفسه، لم يكن الاتحاد السوفيتي، ثم وريثه الاتحاد الروسي، يهدفان إلى الانتصار في الحرب الباردة؛ ولكن الخروج من المواجهة العسكرية بين الشرق والغرب، التي يمكن أن تنتهي بكارثة نووية. لقد وجدت موسكو، جنبًا إلى جنب مع واشنطن، هذا الطريق للخروج من هذه المواجهة، حيث لم تتحقق الكثير من الأهداف لأنفسهم شخصيًا، ولكن للعالم بأسره بشكل عام.
لم يكن هذا الخروج يعني استيعاب الغرب للشرق، والإخضاع الاقتصادي والقانوني والثقافي لفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. كان الأمر يتعلق بالتعاون المتكافئ، والبناء المشترك لواقع سياسي واقتصادي جديد؛ لذلك نرى بوضوح مقاربتين لإنهاء الحرب الباردة: “انتصار الغرب مقابل من يعتقدون إمكانية بناءعالم وحضارة جديدة”. على أساس هذه الأساليب ستتطور الأحداث في المستقبل.
في عام 1991، انهار الاتحاد السوفيتي، ولكن في عام 1992 أُنشئ الاتحاد الأوروبي، الذي علق عليه الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك روسيا، آمالًا كبيرة. يبدو أنه هنا عالم جديد، تشكيل جديد فوق وطني، منعطف جديد في تاريخ الحضارة الأوروبية. روسيا، مثل دول أخرى من المعسكر الاشتراكي السابق والاتحاد السوفيتي، ترى نفسها في المستقبل عضوًا متساويًا في هذا الاتحاد، لبناء “أوروبا الكبرى”وفق عقيدة “أوروبا من لشبونة إلى فلاديفوستوك”.
في هذه الحالة، لم ترحب روسيا بتوحيد ألمانيا فحسب؛ ولكن أيضًا بدخول حلفائها السابقين في الاتحاد الأوروبي، وحتى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة. كان التكامل الاقتصادي مع الغرب في التسعينيات أولوية لروسيا، وترى موسكو أنه مفتاح نجاحها كدولة حديثة. في الوقت نفسه، لا تشعر القيادة الروسية بأي رغبة خاصة في ربط الجمهوريات السوفيتية السابقة، بما في ذلك أوكرانيا، معها. معظم الجمهوريات السوفيتية بقيت على قيد الحياة من خلال إعانات المركز في روسيا.
بدأت روسيا أسرع من أوكرانيا بالاندماج في السوق الأوروبية. بعد كل شيء، تمتلك روسيا قدرًا ضخمًا من موارد الطاقة المطلوبة في أوروبا، في حين أن أوكرانيا على العكس من ذلك، غير قادرة على شراء موارد الطاقة بالأسعار الأوروبية. كان من الممكن أن ينتهي استقلال أوكرانيا بانهيار اقتصادي، لولا الجنوب الشرقي، حيث يدور قتال عنيف الآن. جعل الجنوب الشرقي أوكرانيا دولة ذات قدرات إنتاج ضخمة وصناعة متطورة. ليس من المعتاد الحديث عن هذا، ولكن في التسعينيات كان الجنوب الشرقي الناطق بالروسية هو الذي أنقذ الاقتصاد، ومعه الاستقلال السياسي لأوكرانيا.
الآن دعونا ننتبه لشيء آخر: “منذ التسعينيات، بدأت سلسلة من الصراعات العرقية الخطيرة والحروب بالظهور في أوروبا وعلى حدودها، وشارك فيها ملايين الأشخاص”. حتى عام 1991، لم يُلاحَظ مثل هذا العدد من الاشتباكات العرقية. كل هذا أدى إلى انهيار يوغوسلافيا، وفقدان وحدة جورجيا ومولدوفا. من وجهة نظر نموذج التوحيد الأوروبي، هذا لا معنى له. بعد كل شيء، معنى هذا التوحيد ليس تجزئة أوروبا إلى دول صغيرة كثيرة؛ بل على العكس من ذلك، إنشاء اتحاد ضخم فوق وطني للشعوب، وهذه الشعوب لا تحتاج إلى إبادة بعضها بعضًا، أومضاعفة حجم الحدود فيما بينها؛ ولكن بناء عالم مشترك جديد معًا. ما الخطأ الذي حدث هنا؟
يعتمد هذا على المفهوم الذي التزمت به روسيا في السابق. لكن إذا انطلقنا من مفهوم الانتصار في الحرب الباردة للغرب، فسيكون للنزاعات العرقية معنى مختلف تمامًا. وقد تم التعبير عن هذا المعنى مرارًا وتكرارًا، على سبيل المثال، في اجتماع لهيئة الأركان المشتركة في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1995، عندما أقر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون: “عبر استخدام أخطاء الدبلوماسية السوفيتية، والغطرسة الشديدة لغورباتشوف وحاشيته، ومنهم أولئك الذين اتخذوا موقفًا مؤيدًا لأمريكا علانية، حققنا ما كان الرئيس ترومان سيفعله بالاتحاد السوفيتي بالقنبلة الذرية”.
من هذا القول يمكننا أن نستنتج أنه ليس كل السياسيين الغربيين يريدون خلق عالم جديد عادل. كانت مهمتهم تدمير أعدائهم: الاتحاد السوفيتي، ويوغوسلافيا، ودول أخرى؛ ومن ثم فإن تفاقم الصراعات بين الأعراق أمر منطقي تمامًا؛ لأنه يضعف العدو، ويمزق هذه البلدان لتصبح تابعة لأمريكا. عُرف هذا التكتيك منذ العصور القديمة، واستخدمته روما القديمة. ولكن يبدو الآن أنه لا يوجد حديث عن بناء إمبراطورية جديدة للعبيد، أم إنه في واشنطن، على سبيل المثال، يُنظر إلى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي على أنه بعض مقاطعات إمبراطورية كبيرة لديها بالفعل مدينتها الخاصة، ويجب حمايتها من تعديات البرابرة الذين لا يريدون الخضوع لهذه الإمبراطورية؟
إذن، لدينا إستراتيجيتان سياسيتان- التكامل الاقتصادي والسياسي للدول،حيث تكون المنفعة المتبادلة في المقدمة، واستيعاب الآخرين من جانب دولة واحدة، حيث لا تؤخذ مصالح الدول المُستوعبة بعين الاعتبار. ويمكن تقسيم هذه البلدان نفسها، وإعلانها دولة منبوذة، واحتلالها.
أما الاتحاد الروسي، فهو يخرج من الأزمة الناجمة عن تغيير حاد في المسار السياسي والاقتصادي، ويواجه بشكل متزايد رغبة واضحة في إضعافه وإذلاله، ووضعه في موقف غير موات، فقد أُعلِنَ دولة منبوذة، مع أن إمكاناته الاقتصادية آخذة في النمو. إن نمو الإمكانات الاقتصادية يجب أن يزيد من نفوذ الدولة، وهذا أمر ينبغي الترحيب به في العالم الغربي، لكن العكس هو ما قد حدث. إن نفوذ روسيا ليس مرحبًا به فحسب؛ بل أُعلِنَ تحديًا لابد من مواجهته.
هذا هو المكان الذي يجب أن نتعمق فيه بمزيد من التفصيل؛ لذلك تتخذ روسيا من الديمقراطية الغربية مثالًا تحتذي به، وتنفذ إصلاحات كثيرة لتبدأ بالاندماج مع العالم الغربي. من وجهة نظر بناء منزل أوروبي مشترك، يجب الترحيب بذلك وتشجيعه. تحصل أوروبا على شريك مسالم ومزدهر اقتصاديًّا، وقادر على دعم أسواقها ومواردها، مما يقويها بلا شك بدرجة كبيرة. لكن إذا استرشدنا بالتفكير الاستعماري، فلن نتسامح مع النمو الاقتصادي واستقلال مستعمرة بعيدة. يجب ألا تتجاوز المقاطعات البلد الأم ماليًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا.
هناك الاتحاد الأوروبي الذي انخرط في بناء واقع اقتصادي جديد، وهناك حلف الناتو، الذي أُنشئ عام 1949، والذي عارض الشرق، وخاصة الاتحاد السوفيتي وروسيا. لنتذكر كلمات الأمين العام الأول لحلف شمال الأطلسي، هاستنغز ليونيل إسماي: “لابد من إبقاء الاتحاد السوفيتي خارج أوروبا، والأمريكان في الداخل، والألمان في وضع التبعية”، أي إن أيديولوجية الناتو هي هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا، دون السماح لأي موقع أو وجود لروسيا.
إذن كيف تتعامل روسيا مع هذا الوضع؟ بعد كل شيء، لقد اعتبرت موسكو أن الحرب الباردة قد انتهت بصدق، لكن يبدو أن الولايات المتحدة والناتو لم يفعلا ذلك. يتبين أن الوحدة مع الغرب الذي أعدّ لها، ليست على قدم المساواة؛ بل على شروط الاستيعاب الاقتصادي والسياسي؛ ومن هنا جاءت مطالبة موسكو بوقف التحرك نحو حدود روسيا، ومراجعة المواقف والاتفاقيات. والآن نرى أن مفهوم الناتو لم يقضِ على اندماج روسيا في أوروبا فحسب؛ بل وضع حدًا أيضًا لتوسع أوروبا وتطورها؛ أي من بين النهجين اللذين نقدمهما هنا، من الواضح أن أحدهما هزم الآخر.
دعنا ننتقل من الصورة العامة مباشرة إلى العلاقات بين روسيا وأوكرانيا. لنبدأ بحقيقة أن العلاقات بين الدولتين لها تاريخها الخاص. هذه العلاقات أقرب من التفاعل بين إنجلترا وأسكتلندا أو الولايات المتحدة الشمالية والجنوبية. كانت أوكرانيا جزءًا من روسيا لأكثر من 300 عام؛ مما أثر في الثقافة والتكوين العرقي والعقلية الفكرية. لم تحصل أوكرانيا على استقلالها عام 1991 نتيجة لنضال التحرير الوطني؛ ولكن بالاتفاق مع موسكو. الواقع الاقتصادي والسياسي الجديد لا يدفع النخبة الروسية إلى منح الاستقلال لأوكرانيا فحسب؛بل أيضًا إلى الضغط من أجله. لم يتخيل أحد صدامًا مسلحًا بين الدولتين الجديدتين حتى في أسوأ كوابيسه. رأى الأوكرانيون في روسيا قوة صديقة، وكان الشعب الروسي شقيقًا، وكانت هذه العواطف متبادلة.
في روسيا، لطالما هيمن مفهوم “روسيا الثانية”على وصفهم لأوكرانيا، مما يعني وجود علاقة أوثق بكثير من علاقة بريطانيا وكندا على سبيل المثال. كان هناك قول مأثور شائع في الحياة اليومية: “لدينا شعب واحد في دولتين”. كان الأوكرانيون والروس مهتمين جدًّا بالحياة السياسية لكل منهما. على سبيل المثال، جنى الرئيس الحالي لأوكرانيا زيلينسكي الأموال من السخرية السياسية من سياسيي كلا البلدين.
مع ذلك، يمكن للمرء أن يرى بوضوح، في مثال أوكرانيا، كيف أن مفهوم إنشاء مساحة سياسية واقتصادية مشتركة قد تعرض للهزيمة بسبب العقلية الغربية المؤمنة بضرورة الضغط على روسيا لإخراجها من أوروبا. منذ أول خروج للميدان عام 2005، كانت أوكرانيا تبني سياسة مناهضة لروسيا على مستوى أيديولوجية الدولة. في الوقت نفسه، من الواضح أن هذه السياسة تنتمي إلى نمط الحرب الباردة، أي من الناحية النفسية، انقلب الأوكرانيون على الروس بدعم من بعض السياسيين، مع تغييرات في المناهج التعليمية، والثقافة، وبث وسائل الإعلام الوطنية. سُوِّقَت كل هذه المتغيرات تحت ستار الإصلاحات الديمقراطية، والتغييرات الإيجابية التي دعمتها جميع أنواع المنظمات الغربية والدولية.
كان من الصعب وصفها بأنها عملية ديمقراطية. تم التأسيس في الواقع لخلق قوى موالية للغرب في السياسة، والإعلام، والاقتصاد، والمجتمع المدني. تأسست الديمقراطية الغربية بأساليب غير ديمقراطية على الإطلاق. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يصبح السؤال مهمًّا: هل النظام السياسي في أوكرانيا ديمقراطي؟
منذ عام 1991، أصبحت لدينا دولتان أوكرانيتان، واحدة مناهضة لروسية، وأخرى ترى نفسها روسيا أخرى. لا يفكر المرء في نفسه بدون روسيا، والآخر لا يفكر في نفسه مع روسيا. ومع ذلك، فإن هذا التقسيم مصطنع جدًّا؛ حيث يرتبط معظم تاريخ أوكرانيا مع روسيا سياسيًّا، وثقافيًّا، وعقليًّا.من الواضح أن الاندماج مع روسيا في أوكرانيا يمليه الاقتصاد. بعد كل شيء، إذا كانت هناك هذه السوق الضخمة والموارد في مكان قريب، فعندئذ فقط تكون تلك الحكومة التي لا تستغل ذلك ضيقة الأفق، فضلًا عن منعه. لم تجلب المشاعر المعادية لروسيا سوى الحزن والفقر لأوكرانيا؛ لذلك فإن جميع الحركات القومية الموالية للغرب، بوعي أو بغير وعي، تبشر بالفقر والبؤس للشعب الأوكراني.
لقد ذكرنا بالفعل أن الجنوب الشرقي لأوكرانيا هو الذي ساعد بإنتاجه البلاد على التوافق مع التوزيع العالمي للعمالة. اتضح أن الشرق، وهو منطقة كبيرة ناطقة بالروسية، مصدر العملة الرئيسية للبلاد. بطبيعة الحال، لا يمكن لهذا إلا أن يؤثر في التمثيل السياسي في الحكومة الأوكرانية. كان لدى الجنوب الشرقي مزيد من الموارد البشرية والمالية، التي لا تتناسب مع الصورة المؤيدة للغرب في أوكرانيا. عاش هناك أناس فخورون جدًّا، وأحرار جدًّا، وأثرياء جدًّا.
تم توجيه كل من حركتي الميدان الأولى (2005) والثانية (2014) ضد فيكتور يانوكوفيتش، حاكم دونيتسك السابق، وزعيم دونباس، والقوى السياسية الوسطية غير القومية. كان الدعم الانتخابي لهذه القوى مهمًا جدًّا، ولم ترغب أوكرانيا في أن تكون معادية لروسيا. الرئيس يوشينكو، الذي جاء في موجة الميدان الأول، سرعان ما فقد ثقة الناس؛ في الغالب بسبب سياسته المعادية لروسيا.
فيما بعد فاز الرئيس بوروشنكو بالانتخابات التي أعقبت الميدان الثاني، وقد وعد بالسلام مع روسيا في غضون أسبوع واحد. ومع ذلك، أصبح رئيسًا لحزب الحرب، ولم يمتثل لاتفاقيات مينسك، وخسر الانتخابات التالية بشكل بائس. حل محله فولوديمير زيلينسكي، الذي وعد أيضًا بالسلام، لكنه أصبح تجسيدًا للحرب، أي إن السلام الذي وعد به الشعب الأوكرانيكان مجرد خداع. بعد أن اكتسب السلطة في ظل خطاب صنع السلام، يتخذ الزعيم الأوكراني الحالي بالفعل موقفًا متطرفًا جدًّا. لو كان له هذا الموقف في بداية الحملة الانتخابية ما انتخبه أحد.
الآن دعونا نعُد إلى المفهوم العام لهذا المقال. إذا قال أحدهم إنه سيبني عالمًا جديدًا مع جيرانه، لكنه -ببساطة- يهتم بمصالحه فقط، بغض النظر عن أي شيء، حتى الحرب، بل حتى الحرب النووية، فمن الواضح أنه لن يبني أي شيء. هذه هي الطريقة التي تصرف بها رئيس أوكرانيا السابق بوروشنكو، وهكذا يتصرف الرئيس الحالي زيلينسكي، ولكن ليس هما فقط؛ هذه هي الطريقة التي يتصرف بها قادة الناتو، وكثير من السياسيين الأمريكيين والأوروبيين.
زيلينسكي، قبل الاشتباك المسلح الحالي، سحق -ببساطة- أي معارضة، ووضع مصالح حزبه في الأولوية، ولم يبني أي سلام. في أوكرانيا، قُمِعَ السياسيون والصحفيون والنشطاء العامون الذين تحدثوا عن السلام وعلاقات حسن الجوار مع روسيا قبل الاشتباك العسكري، وأُغلقت وسائل إعلامهم دون أي أسس قانونية، ونُهبت ممتلكاتهم. عندما تم لوم السلطات الأوكرانية لخرقها القانون وحرية التعبير، كان الجواب أن حزب السلام “مجموعة من الخونة”، وقد اقتنع الغرب الديمقراطي بهذه الإجابة.
لم يكن الوضع بهذه البساطة والسطحية؛ فمَن وُصفوا بأنهم “خونة وأبواق لروسيا”، لم يكن لديهم نصيب الأسد في البرلمان وأصوات الناخبين فحسب؛ ولكن أيضًا أساس الإمكانات الاقتصادية للبلاد؛ لذا فإن الضربة لم تسقط على الديمقراطية فحسب؛ بل على رفاهية المواطنين أيضًا. أدت سياسة زيلينسكي إلى حقيقة أنهم بدأوا بمغادرة أوكرانيا بشكل جماعي بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية، والقمع والاضطهاد السياسي. من بينهم كثير من السياسيين، والصحفيين، ورجال الأعمال، والشخصيات الثقافية والدينية، الذين قدموا الكثير من أجل هذا البلد. استبعدت السلطات الأوكرانية هؤلاء الأشخاص من السياسة والحياة العامة.
ترتبط أعمال الجنوب الشرقي- إلى حد كبير- بروسيا ومصالحها؛ لذلك لم يعد الصراع مسألة داخلية حصرية. لم تواجه روسيا حماية مصالحها الاقتصادية فحسب؛ بل أيضًا الشرف والكرامة الدوليين، وهو ما تم إنكاره إنكارًا منهجيًّا، كما أوضحنا أعلاه. ولم يكن هناك من يصلح هذا الوضع.
بعدما أُعلِنَ حزب السلام الأوكراني “خونة”، واستولى حزب الحرب على السلطة، ذهب الصراع إلى أبعد من ذلك، وأصبح دوليًّا. يبدو أنه لا تزال هناك سياسات أوروبية، لكنها تدعم زيلينسكي على نطاق عريض، وتجر أوروبا إلى الحرب، وأزمتها الاقتصادية الخاصة. لم تعد أوروبا الآن هي التي تحدد معايير السياسة الأوكرانية؛ لكن أوكرانيا تعلم أوروبا كيفية تحقيق التدهور الاقتصادي والفقر بمساعدة سياسة الكراهية والعناد. إذا استمرت أوروبا في هذه السياسة، فسوف تنجر إلى حرب ربما نووية.
لنعد الآن إلى حيث بدأنا. انتهت الحرب الباردة بقرار سياسي لبناء عالم جديد لا توجد فيه حروب. من الواضح أن هذا العالم لم يُبنَ. الآن هناك طريقتان فقط للخروج: “الانزلاق إلى حرب عالمية وصراع نووي، أو بدء عملية الانفراج مرة أخرى، التي من الضروري فيها مراعاة مصالح جميع الأطراف”. ولكن من أجل هذا، من الضروري الاعتراف سياسيًّا بأن لروسيا مصالح، ويجب أخذها في الحسبان عند بناء عالم جديد. وأهم من ذلك، اللعب بصدق وفق القواعد، ودون خداع أو مواقف ضبابية، أو محاولة جني الأموال من دماء شخص آخر. لكن إذا كان النظام السياسي العالمي غير قادر على التعامل مع هذه المبادئ من اللياقة، وأعمته الكبرياء ومصالحه التجارية الخاصة، فحينئذٍ تنتظرنا أوقات أكثر صعوبة.
إما أن يتوسع الصراع الأوكراني، وينتشر إلى أوروبا ودول أخرى، وإماأن يتم توطينه وحلّه. لكن كيف يمكن حله إذا كان حزب الحرب هو المسيطر في أوكرانيا، مما أدى إلى إثارة الهستيريا العسكرية، التي تجاوزت بالفعل حدود البلاد، ولسبب ما يسميها الغرب بعناد “حربًا من أجل الديمقراطية؟”، ويعلن حزب الحرب أنه لا يحتاج إلى أي سلام، لكنه بحاجة إلى مزيد من الأسلحة والمال للحرب. بنى هؤلاء الأشخاص سياساتهم وأعمالهم على الحرب، ورفعوا تصنيفاتهم الدولية بشكل حاد. في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، يتم الترحيب بهم بالتصفيق، ولا ينبغي أن يتعرضوا لأي أسئلة غير مريحة، أو يتم التشكيك في صدقهم ونيّاتهم. يكسب حزب الحرب الأوكراني انتصارًا بعد انتصار، في حين لم تحدث أي نقطة تحول عسكرية.
في المقابل، حزب السلام الأوكراني غير مفضل، سواء في أوروبا، أو الولايات المتحدة. يشير هذا -ببلاغة- إلى أن معظم السياسيين الأمريكيين والأوروبيين لا يريدون أي سلام لأوكرانيا، لكن هذا لا يعني أبدًا أن الأوكرانيين لا يريدون السلام، وأن انتصار زيلينسكي العسكري أهم لهم من حياتهم ومنازلهم المدمرة. لقد بدا أن حزب الحرب منتصر، فقطلأن حزب السلام تعرض للافتراء والترهيب والقمع بأمر من الغرب. حزب السلام الأوكراني ببساطة لا يتناسب مع الديمقراطية الغربية.
ربما يحتاج الأوكرانيون-من أجل إنقاذ بلدهم-إلى البدء ببناء ديمقراطيتهم الخاصة، وفتح حوارهم المدني بدون الأوصياء الغربيين، مما يؤدي إلى ضرر وتدمير. إذا كان الغرب لا يريد الاستماع إلى وجهة نظر أوكرانيا الأخرى، فهذه مسألة تخصه، ولكن وجهة النظر هذه مهمة وضرورية لأوكرانيا، وإلا فإن هذا الكابوس لن ينتهي أبدًا. وهذا يعني أنه من الضروري خلق حركة سياسية من أولئك الذين لم يستسلموا، والذين لم يتخلوا عن معتقداتهم تحت وطأة الموت والسجن، والذين لا يريدون أن تصبح بلادهم مكانًا للمواجهة الجيوسياسية. يجب على العالم أن يستمع إلى هؤلاء، بغض النظر عن مدى احتكار الغرب للحقيقة. الوضع الأوكراني معقد تعقيدًا كارثيًّا وخطيرًا، لكن لا علاقة له بما يقوله زيلينسكي كل يوم. [1]
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.