مختارات أوراسية

اللوجستيات في خدمة أوراسيا الكبرى


  • 11 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: ru.sputnik.kz

يدخل الصراع العسكري الحاد مع الغرب على الساحة الأوكرانية مرحلته الختامية، فروسيا، وقد قررت عدم اللجوء إلى استخدام أكثر أسلحتها فتكًا، سعيًا إلى الحفاظ على أكبر عدد ممكن من أرواح جنودها الشجعان والمدنيين، يبدو أنها لن تحقق في الوقت الراهن نصرًا مماثلًا لذلك الذي أنجزته في حربها ضد جيش نابليون. ذلك النصر ضمن لأوروبا أربعة عقود من السلام.

كما لن يتحقق -على ما يبدو- دحرٌ شبيهٌ بهزيمة جيش هتلر، الذي شارك في صفوفه معظم الأوروبيين، وكانت الغالبية الساحقة من بلدان شبه القارة الأوروبية تعمل في خدمته. ذلك النصر على أوروبا، مقترنًا بظهور السلاح النووي، وفّر للعالم سبعة عقود من السلام النسبي.

إن المواجهة ستستمر على نحو متعرج وموجي، إلى أن يحدث تبدّل في جيل النخب الأوروبية ذات النزعة العولمية- الكومبرادورية، التي فشلت في جميع الميادين: الأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية. هذه النخب التي أوصلت شبه القارة، التي كانت يومًا ما مركزًا للقوة الاقتصادية والسياسية والثقافية، إلى وضعها الراهن، هي في حاجة إلى الحرب، وإلى تضخيم صورة العدو الخارجي لتبرير استمرارها في السلطة.

ومن غير المرجّح في المستقبل القريب التوصل إلى سلام مستقر مع هذه النخب الممسكة بالسلطة في كثير من الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة وأوكرانيا. ومع ذلك، يتعيّن العمل على الدفع نحو هذا المآل من خلال سياسة ردع إستراتيجي صارمة جدًّا، ومن خلال عزل جزئي عن الفاشية والقيم اللا إنسانية التي تُنشر في القسم الغربي من شبه القارة الأوروبية.

وبدون تحقيق نصر مماثل لما تحقق عامي 1815 و1945، فإن العالم سيواصل انزلاقه نحو حرب عالمية ثالثة، وإحراز هذا النصر ليس واجبًا تجاه وطننا فحسب؛ بل تجاه الإنسانية جمعاء.

عاجلًا أو آجلًا ستنجذب بعض دول وسط القارة وجنوبها نحو أوراسيا الكبرى. ولا ينبغي بالطبع التخلي عن عناصر التعاون، أو عن إحياء الروابط الإنسانية في مجالات الثقافة التقليدية والاقتصاد، ولو جزئيًّا.

لكن الاتجاه الأساسي للتنمية في العقد المقبل واضح بما يكفي. إن الرحلة الأوروبية التي استمرت لروسيا ثلاثة قرون قد انتهت، وكان الأفضل أن تنتهي قبل قرن أو أكثر، إذ كان من الممكن عندئذٍ تفادي بعض المآسي الكبرى التي لحقت بالبلاد والشعب في القرن العشرين، فجميع التهديدات تقريبًا في ذلك القرن جاءت من أوروبا. لقد حان وقت “العودة إلى الذات”، إلى الوطن، إلى منابع تاريخنا بوصفنا قوة عظمى، وتلك المنابع في سيبيريا. فلولا الإنجاز الأسطوري لقوات القوزاق الذين تمكنوا، في أقل من قرن، من الوصول من إقليم بيرم إلى كامتشاتكا، وربط سيبيريا بروس القديمة، لما استطاعت هذه الأخيرة البقاء على قيد الحياة في السهل الروسي الأوسط المكشوف أمام هجمات الغرب والجنوب.

لقد أخذنا روحنا -أدياننا: الأرثوذكسية، والإسلام، والبوذية، واليهودية- من الجنوب. أما التنظيم السياسي، والعمود الفقري للسلطة، والاستعداد لاتباع القائد وخدمة الدولة والقضية العامة بإخلاص، فقد أخذناه من الشرق، نتيجة أكثر من قرنين من التفاعل مع إمبراطورية جنكيز خان، فقد كانت تنهب، لكنها لم تمس روح الشعب وإيمانه. ومن دون هذه العمودية الموروثة من الشرق، وجزئيًّا من بيزنطة، ومن دون روح الشساعة واللا نهاية، لما تمكن أسلافنا من إنشاء أكبر دولة في العالم.

إن “العودة إلى الذات” تقتضي إستراتيجية لتحويل مسارات التنمية الروحية والاقتصادية والعلمية- التقنية والسياسية للبلاد نحو الأورال وسيبيريا، اللتين تمثلان في المستقبل المنظور المصدر الرئيس للنمو ولتعزيز قوة الدولة ورفاهية الشعب.

لقد دأبنا، مع مجتمع متنامٍ من العلماء والفاعلين الاجتماعيين ورجال الأعمال، وخاصة من سيبيريا، منذ عام ونصف العام على تطوير مشروع “الانعطاف إلى الشرق 2.0، أو سَبرنة روسيا”. وبالتوازي مع ذلك نعمل أيضًا على مشروع “الفكرة- الحلم الحي لروسيا: مدونة المواطن الروسي في القرن الحادي والعشرين”، الهادف إلى أن يصبح الأساس الأيديولوجي لمواصلة تطور بلدنا- الحضارة. وتُعد سَبرنة روسيا جزءًا من هذا البرنامج الفكري. وقد بدأنا بالفعل في عرض النتائج الأولى لعملنا على المجتمع والدولة.

لكن المهم، ونحن نحقق الانتصار وننهي المرحلة الحادة من المواجهة في أوروبا، ألا نتعثر في الاتجاه الغربي، فأوروبا آخذة في الأفول، وقد أصيبت على مدى سنوات طويلة بروسوفوبيا أكثر حدة مما كانت عليه في أي وقت مضى. أما المستقبل ففي الجنوب والشرق.

وأود الآن الانتقال إلى أحد أهم محاور الإستراتيجية الروسية الجديدة: تطوير الهيكل العظمي للنقل، وخاصة في الاتجاه الطولي (الميريداني). وقد شاءت الظروف أن أكون أحد منظمي الجانب العلمي لمشروع وضع مفهوم ممرات النقل اللوجستية “شمال- جنوب” لروسيا، وربطها بأوراسيا الكبرى.

عند الشروع في هذا العمل، لا بد من الاعتراف بحقيقة واضحة: إن أسطورة تفوق القوى البحرية والمسارات البحرية، ولا سيما القديمة منها، آخذة في التلاشي، فهذه الطرق ستزداد هشاشة مع مرور الوقت.

وفيما يخص ممرات “شمال- جنوب” في الجزء الأوروبي من البلاد، هناك كثير من الأفكار. من ذلك الممرات النشطة قيد النقاش، التي تُستخدَم جزئيًّا حول بحر قزوين وعبره إلى إيران وصولًا إلى الخليج، على الرغم مما يكتنفها من مشكلات كبيرة. وهناك فكرة لممر عبر أفغانستان، وأخرى عن “البوسفور الثاني” بمشاركة روسية، فضلًا عن إمكانية ممرات نقل عبر جورجيا وأرمينيا وتركيا، لكن الحاجة الأكثر وضوحًا اليوم هي إلى إنشاء وتطوير هيكلية ممرات لوجستية “شمال- جنوب” تربط روسيا عبر سيبيريا بأسواق آسيا الصاعدة، بأسواق المستقبل.

ومن الطبيعي أن تطوير مفهوم ممرات “شمال- جنوب”، المكمّلة للممرات القائمة “شرق- غرب”، يجب أن يتم بالتنسيق الوثيق مع المتخصصين من الدول الآسيوية المجاورة لنا. وقد أطلق أصدقاؤنا الصينيون مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، وهي مبادرة رائعة. هذه الطرق اللوجستية متاحة للجميع، لكنها ينبغي أن تُستكمل بشبكة طولية من المسارات لتشكيل هيكل لوجستي مستقل لأوراسيا الكبرى.

إن هذه الممرات لا تهدف فقط إلى ضمان التنمية الآمنة والناجحة لدول أوراسيا الكبرى، بل إلى تعميق التفاعل الثقافي والإنساني الذي قُطع -إلى حد كبير- بفعل هيمنة القوى البحرية الغربية طوال خمسة قرون، والتي عملت عمدًا على تدمير الطرق القارية الداخلية.

وأطرح للنقاش المبادئ الآتية لتطوير الهيكل العظمي اللوجستي “شمال- جنوب”، بالدرجة الأولى لروسيا، وإن لم يكن حصريًّا لها:

المبدأ الأول: الحسابات الاقتصادية ضرورية ولا غنى عنها، لكن العامل الأهم عند صياغة مفهوم هذا الهيكل يجب أن يكون عوامل الأمن والتنمية طويلة المدى. يمكن، بل يجب إشراك القطاع الخاص في العمل على مشروعات محددة، لكن اللوجستيات الكبرى تبقى (صلاحية حصرية)، وواجبًا على عاتق الدول. لقد استنفد “الاقتصادوية” نفسها، وإن ظل الاقتصاديون ضروريين لمساعدة الإستراتيجيين، وكبح اندفاعهم.

حين كان سيرغي يولييفيتش فيتّه (قبل أن يُمنح لقب كونت) مجرد وزير، وأصرّ أمام الحلفاء على ضرورة بناء سكة حديد سيبيريا (الترانسسيب)، واجه مقاومة شديدة من الممولين والتجار الذين لم يرغبوا في منافسة نقل العربات التقليدي. ولو لم ينتصر فيتّه لما صمدت روسيا. وأعرف من خلال حديثي مع زملاء حجم المقاومة التي واجهها مشروع بناء جسر فوق نهر لينا في ياكوتيا. وكان الحجة الرئيسة ضده هي ضعف تدفق النقل في الوقت الحالي. ولو أن فيتّه أنصت إلى هذه الحجج، لما بُني الترانسسيب أصلًا، لكنه تمكن من تنظيم حملة دعائية كبرى، واستقطب إليها أعظم عباقرة روسيا، العالم السيبيري المتألق، ديميتري إيفانوفيتش مندلييف، الذي لم يكن عالمًا عبقريًّا فحسب؛ بل رجل دولة، وصناعيًّا بارزًا. من دون فيتّه لما انتصرت روسيا في أعنف حرب في تاريخ البشرية- الحرب العالمية الثانية، أو كما نسمّيها “الحرب الوطنية العظمى”.

المبدأ الثاني: يجب نقل مركز التنمية التحتية من الجزء الأوروبي إلى سيبيريا. صحيح أن البنية التحتية في ما وراء الأورال أكثر فاعلية من الناحية الاقتصادية الضيقة، لكن إذا نظرنا إلى الأفق وما وراءه -وهو المنظور المطلوب عند التخطيط لإستراتيجية لوجستية- فإن مركز بناء النقل، مثلما هي الحال مع المركز الروحي والاقتصادي والثقافي للبلاد، يجب أن ينتقل إلى ما وراء الأورال. وهناك ينبغي تأسيس العاصمة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، من خلال نقل بعض الشركات والوزارات إليها. ويسرّني أن الدعوات، ومنها دعوتي شخصيًّا، لنقل بعض الشركات إلى المناطق التي تعمل فيها أساسًا، قد استجاب لها فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الذي وقّع على قرار بنقل مقار ما يقرب من 150 شركة إلى أماكن نشاطها الإنتاجي الرئيس.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع