في الصباح الباكر من يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول)، أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرًا إلى 1.2 مليون فلسطيني في شمال غزة لإخلاء منازلهم خلال 24 ساعة؛ استعدادًا لعملية اجتياح بري. إن هذا الهجوم الإسرائيلي سيكون له هدف معلن، هو إنهاء حماس كمنظمة؛ ردًا على هجومها المفاجئ في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على جنوب إسرائيل، الذي خلّف أكثر مِن ألف قتيل، ومئات الأسرى والمصابين.
دعمت واشنطن الخطط الإسرائيلية دعمًا كاملًا، وامتنعت عن الحث على ضبط النفس. وفي بيئة سياسية محمومة، كانت أعلى الأصوات في الولايات المتحدة هي تلك التي تحث على اتخاذ إجراءات متطرفة ضد حماس. وفي بعض الحالات، دعا بعض الساسة الغربيين إلى القيام بعمل عسكري ضد إيران بسبب رعايتها المزعومة لعملية حماس.
أدّت الولايات المتحدة دورًا دراماتيكيًّا في المراحل الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، وتولت الملف الفلسطيني سياسيًّا وعسكريًّا بشكل غير مسبوق. وتجد الإدارة الأمريكية مُبررًا لهذا بأنها تصنع نفوذًا حقيقيًّا يجعلها تتحكم مُستقبلًا في تل أبيب في ظل تدهور المؤسسات، وصعود اليمين الديني المُتطرف.
عبّرت قيادات المكتب السياسي لحماس عن مفاجأتهم مِن الموقف الأمريكي القوي، لكن كان يجب عليهم الشعور بالصدمة مِن عدم إفساد التوافق السعودي- الإيراني القائم برعاية صينية (رغم انخراط بكين الضعيف في أزمات الشرق الأوسط)، الذي انعكس على مدى تطور الخيارات العسكرية، ومستوى التوتر الأمني في منطقة الشرق الأوسط، عكس تصور الجماعة الفلسطينية.
في بداية الأحداث حدثت مكالمة هاتفية، قد تكون فارقة، بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، قد تكون حسمت أن مستوى انخراط طهران في أي نشاط حقيقي مُزعزع لاستقرار الخليج يُعرض كل الاتفاقات بين البلدين للخطر، وهذا ما حد مِن أي تطور عسكري، وتوقف الأمر عند خطاب إيراني مُعتاد عالي النبرة.
مِن جانب آخر، ظهرت أنباء عن طلب تركيا من قيادات حماس مغادرة أراضيها بأدب، فيما يبدو الرئيس التركي أردوغان في موقف صعب حاليًا بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، وأزمة البلاد مع مشكلات مثل اللاجئين السوريين، والتوسع الكُردي العسكري في سوريا، ومواجهته مُعارضة شرسة كادت تُطيح به مِن الحكم في الانتخابات الأخيرة، وإن كانت هذه آخر فترات حُكمه، فلا شك أنه يحاول أن يحافظ على ميراث حزبه.
أعلن الرئيس التركي استعداد بلاده أن تؤدي دور الضامن في فلسطين على الشاكلة في قبرص؛ ما يعني أن أنقرة مُنفتحة على مشروع واشنطن لتدويل السيطرة على قطاع غزة، فيما رفضت مصر هذا مِن حيث المبدأ، كل هذا يتم في ظل غياب أي مشروع سياسي لدى القادة في حماس، الذين يبدو أنهم انتظروا من حلفائهم تولي الملف بعد عمليتهم العسكرية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول).
أما قطر، التي تستضيف مكتب الحركة بأمر أمريكي منذ خروجهم من سوريا، فانخرطت في أداء دور الوسيط للإفراج عن الرهائن، الذين يعدّون ملفًا مُحرجًا للدوحة لتعدد جنسيات المختطفين، ويدافع المسؤولون القطريون عن موقف بلادهم بأنهم لا يؤيدون أي عمل يتعلق بقتل المدنيين أو اختطافهم، وفي الوقت نفسه، فإن هذا يحد من دورهم في الانخراط لصالح حماس سياسيًّا.
أما دولتا الطوق، مصر والأردن، فكلتاهما ترى أن الحركة عرضتها لخطر مُباشر بدون أي تصور مُسبق عن مآلات الأمور، وكلتا العاصمتين في محاولات مستميتة لحفظ أمنها القومي، وسلامة أراضيها من مشروعات التهجير والتقسيم المطروحة، كما تتعرض كل منهما لابتزاز إسرائيلي يتعلق بمنع تنفيذ اتفاقات الطاقة والمياه بين الأطراف المعنية.
ما سبق يعني أن حركة حماس، ودون الانزلاق إلى خطاب إسرائيل العالي عن إنهائها، عليها أن تُطلق مشروعًا سياسيًّا بشكل تفصيلي، وتقديم تنازلات لحصد مكاسب، أبرزها وقف نزيف الدم الفلسطيني، وتعطيل آلة القتل الإسرائيلية، مع إدراك حقيقة باردة؛ أن الجميع اليوم ينظر إلى الحركة على أنها تحاول “ابتزازه”؛ وعليه فإن كُل دولة ستقوم بما يلزم، وبصرامة؛ لتأكيد أنها لن تخضع لتخريب سياستها الداخلية والخارجية لصالح الجماعة المحسوبة على الإسلام السياسي.
قد تقدم حماس على أن تتحول إلى مؤسسة بيروقراطية، وشريك في الحكم، وتتخلى عن جناحها العسكري، الذي بدوره يتحول إلى جهاز أمني داخلي، وقد يكون هذا بمشاركة السُلطة الفلسطينية. يبدو هذا الكلام “خرافيًّا”، لكنه إحدى سبل وقف هدر الدم الفلسطيني، وخطوة أن يحيا هذا الشعب بعيدًا عن القصف والتهجير، علمًا بأن التجربة المُتعثرة للسلطة غير مُشجعة لحماس، ولكن في جانب آخر، نجحت الحركة في القضاء على اليمين المتطرف الإسرائيلي، على الأقل في المدى القريب، وإيقاف هذه الحرب سيعد انتصارًا لحماس؛ لأن التحول في الحكم الإسرائيلي سيكون دراماتيكيًّا.
حماس وجهت ضربة قاصمة إلى مشروع إسرائيل، ولكن في الوقت نفسه، عليها حساب التكلفة والوقت، وما يمكن أن يصمد خلاله المجتمع الفلسطيني في غزة، ولا يجب التعويل على الخسائر الإسرائيلية كلما مر الوقت؛ فهي تُعوَّض أمريكيًّا، فيما يجب النظر إلى كيفية استثمار الفرصة التاريخية.
أخيرًا، على حماس إدراك عدة حقائق باردة:
– جميع الأنظمة اليوم تنظر إليها على أنها تحاول “ابتزازها” بالدم الفلسطيني؛ وعليه ستقوم كُل دولة بما يلزم وبصرامة؛ لتأكيد أنها لن تخضع لتخريب سياستها الداخلية والخارجية لصالح الجماعة المحسوبة على الإسلام السياسي.
– إهانة ومهاجمة بلدان الخليج العربي ومصر والأردن لن تُغير في المعادلة شيئًا؛ فهذه بُلدان تعرض أمنها القومي منذ عقد زمني لارتجاجات قوية، جعلت كل بلد منها حريصًا على جبهته الداخلية وخيارته، قبل أن يتطلع إلى مستوى الإقليم.
– قرار الحرب الإقليمية مَنوط بالبلدان الكبرى في المنطقة، وليس أذرعها، مهما توهم البعض حجمه ودوره؛ وعليه فقد تراجعت احتمالات التورط السعودي- الإيراني، بل المصري كذلك، في أي نشاط عسكري، وما دون ذلك يأتي في إطار ما يعرف بالتوترات التي لا يُبنى عليها كثيرًا.
– الحرب الإقليمية بالأساس ليست في صالح حماس، فهي كانت ستجلب ملفات أخرى على الطاولة، مثل النفوذ الأمريكي في المنطقة، والصراع السعودي- الإيراني، والحضور الروسي والصيني وغيرها؛ مما يجعل غزة مجرد أرض معركة، وليست قضية شعب يريد الحرية، والتخلص من الاحتلال.
– الدعم الشعبي مُتناقص، وله مُدة زمنية قبل أن تُقرر الشاشات عرض حدث جديد يشغل المُتلقي، ولهذا أمثلة: الأزمة الليبية، والحروب السورية، والسودانية، والأوكرانية.. إلخ، ولن تكون غزة استثناء.
– إسرائيل مسؤولة عن كل قطرة دم فلسطينية في غزة، وعلى حماس تحمل مسؤوليتها بوصفها سلطة حاكمة لهذا القطاع، وعليها أن تسعى في كُل السبل لحماية مواطنيها، والتخلص من خطابات تفتقد إلى أي منطق عملي ينهي معاناة شعب غزة.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.