أبحاث ودراساتتاريخ

الكنيسة الأرثوذكسية بوصفها فاعلًا رمزيًّا في السياسة الخارجية الروسية


  • 1 يونيو 2025

شارك الموضوع

ليست كل الدول التي تستدعي الدين في خطابها السياسي تسعى بالضرورة إلى تأسيس “ثيوقراطية”، كما لا يعني استحضار الرموز الدينية في العلاقات الدولية بالضرورة انقلابًا على الحداثة، لكن روسيا، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، بدت وكأنها تُعيد كتابة قواعد اللعبة على نحو مختلف، دين بلا كهنوت سياسي، ولكن بسيادة روحية تتجاوز الجغرافيا، وكنيسة لا تسنّ السياسات، لكنها تباركها وتمنحها معاني تتخطى اللغة الجيوسياسية المعتادة.

في عهد فلاديمير بوتين، لم تعد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كيانًا منفصلًا عن الدولة، ولا مجرد شاهد على تحولات ما بعد السوفيت؛ بل تحوّلت إلى فاعل رمزي مركزي في مشروع يُعاد فيه تعريف “روسيا” بوصفها حضارة، لا مجرد دولة قومية. منذ خطابه الأول عام 2000، حيث أشار إلى “القيم الروحية” بوصفها أحد أعمدة النهوض الوطني، بدأت العلاقة بين الدولة والكنيسة تأخذ منحًى إستراتيجيًّا جديدًا.

ما الذي يجعل مؤسسة دينية تعود بجذورها إلى مجمع بطرس الأكبر، وتحمّلت عقودًا من القمع السوفييتي، تستعيد نفوذها فجأة في القرن الحادي والعشرين؟ لا تكفي الإجابة التقليدية التي ترى في الكنيسة أداة ناعمة أو ذراعًا أيديولوجية؛ لأن الحضور الكنسي في السياسة الخارجية لا يُقاس فقط بعدد اللقاءات الرسمية، أو بخطب البطريرك كيريل؛ بل بطريقة توظيفها كأداة لإنتاج المعنى، ولشرعنة الأفعال السيادية التي تسعى روسيا من خلالها إلى إعادة تموضعها عبر أدوات مختلفة، منها الخطاب الحضاري الذي تشكل المسيحية الأرثوذكسية ركنه الأساسي.

المقال يتبنى فرضية مفادها أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تضطلع بدور مستقل في صنع القرار السياسي الخارجي؛ بل تعمل ضمن شبكة السيادة الروسية بوصفها فاعلًا رمزيًّا- روحيًّا يُسهم في إنتاج شرعية حضارية تتجاوز الحدود، لرفد السياسة الخارجية الروسية بمشروع روحي- ثقافي مضاد للمنظومة الليبرالية.

في محاولة الحصول على إجابات مقنعة، سأطبق مقاربة تحليلية مركبة تجمع بين البنية (الموقع المؤسسي للكنيسة داخل الدولة)، والرمز (توظيف الرمزية الدينية في إنتاج الشرعية)، والشبكة (آليات تفعيل هذا الدور عبر الشتات والإعلام والمؤسسات الوسيطة). هذا الإطار الثلاثي يسمح بفهم أعمق لسياسات الهوية والشرعية في أنظمة ما بعد الليبرالية، ويقدّم تفسيرًا لكيفية تحوّل الكنيسة الروسية، في النسق السيادي الروسي، أكثر من مؤسسة دينية، إلى أداة لاهوت سياسي هجين، تصوغ من خلالها الدولة معنى وجودها في الداخل، وحقّها في الفعل خارج الحدود.

البنية المؤسسية للعلاقة بين الكنيسة والدولة

منذ تأسيسها، لم تكن الكنيسة في روسيا يومًا مؤسسة موازية أو نقيضة للسلطة؛ بل كانت جزءًا من بنيتها الرمزية.

لا يمكن الاكتفاء بفرضية “العودة الدينية” لفهم العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والدولة في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي، بل يجب تفكيك هذه العلاقة بوصفها استمرارًا لنمط منظم من التوظيف السيادي للمؤسسة الدينية، فمنذ أن ألغى بطرس الأكبر البطريركية عام 1721، وأنشأ المجمع المقدس، تحوّلت الكنيسة إلى ذراع بيروقراطية- رمزية للدولة، خاضعة لسلطة الإمبراطور مباشرة.

كان المجمع المقدس مكوّنًا من رجال دين مُعيّنين، لكن قراراتهم خاضعة لرقابة موظف علماني هو “المراقب الأعلى” المعيّن من القيصر. هذا الترتيب عكس تحولًا من السيمفونية البيزنطية إلى نسخة روسية من القيصر البابوي، حيث تذوب سلطة الروح في جسد الدولة.

لم يُكسر هذا النمط في الحقبة السوفيتية، بل أعيد تشكيله عبر اختراق الدولة للكنيسة واستيعابها ضمن جهاز الرقابة والشرعية الأيديولوجية. في أوائل الحقبة البلشفية، تعرّضت الكنيسة لقمع شرس، لكن خلال الحرب العالمية الثانية أعاد ستالين تفعيلها كأداة تعبئة وطنية. لم تلغِ الدولة الكنيسة، بل أبقتها كهيكل شبه وظيفي يُستدعى عند الحاجة؛ مما جعل الكنيسة كيانًا شبه رسمي يتناوب بين الصمت والاستدعاء.

اللحظة المفصلية جاءت مع صعود فلاديمير بوتين، الذي لم يستدعِ الكنيسة فقط؛ بل أعاد توظيفها ضمن بنية الشرعية الروسية الجديدة. ويمكن التوقف عند لحظة كشفية في هذا المسار، وهي تدشين تمثال ضخم للأمير فلاديمير في قلب موسكو عام 2016، بحضور بوتين والبطريرك كيريل، في يوم “الوحدة الوطنية”. لم يكن ذلك مجرد إحياء للتراث الكييفي؛ بل إعادة تمركز للكنيسة كأداة تأصيل رمزي- حضاري للسيادة. استخدم بوتين المناسبة ليعلن أن الأمير فلاديمير وحّد الشعوب الثلاثة: روسيا، وأوكرانيا، وبيلاروس تحت راية روحية واحدة.

هنا تتضح الوظيفة الرمزية التي تستدعي فيها الدولة الحديثة تراثًا دينيًّا ماضويًّا لتبرير مشروع جيوسياسي حالي، حيث تتحول الرموز الكنسية إلى أدوات تأطير لهوية تتجاوز الحدود. ما بدأ مع بطرس كمأسسة للسلطة الدينية، وما صمّمه ستالين كخزان تعبوي، صار في عهد بوتين ذراعًا رمزية لصوغ سردية “روسيا الحضارية”.

وهكذا تأتي إعادة دمج الكنيسة في عهد بوتين امتدادًا لنمط سيادي قديم، يقوم على مصادرة الرمزية الدينية وتوظيفها في إنتاج الشرعية. هذا التوظيف لا يتم من خلال “تديين” الدولة، بل من خلال إعادة تشكيل المجال الديني ضمن منظومة الحكم نفسها، أي يُعاد تعريف القداسة لتتماهى مع السيادة، وترسيخ خريطة ذهنية للهوية الروسية، تقوم على مركزية موسكو بوصفها الوريثة الشرعية لكييف وبيزنطة معًا، هذا التداخل بين الجغرافيا المقدّسة والسلطة السياسية يعيد إنتاج الكنيسة بوصفها حارسة للمجال الحضاري الروسي، لا بوصفها كيانًا دينيًّا مستقلًا.

تعمل الكنيسة في عهد بوتين ضمن منطق السيستيما، أي البنية الفعلية للسلطة التي تتجاوز الشكل القانوني لتُدار عبر شبكات التنسيق غير الرسمي بين الأجهزة والمؤسسات والرموز. في هذا السياق، تموضع الكنيسة داخل هرم الدولة لا يتخذ طابعًا تشاوريًّا أو موازِيًّا، بل وظيفيًّا ومنسّقًا، حيث تُستخدم رمزية الكنيسة لتعزيز الشرعية القيمية للقرار السياسي، دون أن تمتلك قدرة تقريرية فعلية؛ ومن هنا فإن علاقة الكنيسة بالدولة في روسيا ليست علاقة تحالف أو شراكة بين مؤسستين؛ بل علاقة اندماج وظيفي داخل نسق سيادي يجعل من الدين أداة لإنتاج الذات الجماعية، وليس ميدانًا مستقلًا للفعل أو المعارضة.

يتجلّى هذا التموقع أولًا في العلاقة مع الكرملين، حيث تُمنح الكنيسة حضورًا رسميًّا في المناسبات السيادية الكبرى، مثل احتفالات “يوم النصر”، أو خطاب “الحالة الروحية للأمة” الذي يُلقيه البطريرك كيريل موازيًا لخطاب بوتين السنوي أمام الجمعية الفيدرالية. كما تشارك شخصيات رفيعة من الكنيسة في “المجالس الرئاسية” بصفة استشارية، خاصةً تلك المعنية بالهوية الوطنية، والتعليم، والسياسة الثقافية؛ مما يجعل الكنيسة جزءًا من الديكور السيادي المنظّم.

أما على مستوى مجلس الأمن الروسي، فالعلاقة تتخذ طابعًا رمزيًّا- أمنيًّا، فخلال خطاب ألقاه البطريرك كيريل في عام 2014، بعد ضم القرم، وصف العقوبات الغربية بأنها “حرب على القيم الأرثوذكسية”، معتبرًا أن روسيا “تحمي حدودًا روحية” لا مجرد أراضٍ سياسية. وقد تلقّف الكرملين هذا الخطاب ليُدرج الكنيسة ضمن المنظومة المفهومية “للأمن القومي الشامل”، الذي لا يشمل الحدود فقط؛ بل القيم، والعقيدة، والتاريخ.

وفيما يخص وزارة الخارجية، تتجسّد العلاقة من خلال ما تُسمى “الدبلوماسية الروحية”، إذ تؤدي الكنيسة أدوارًا وظيفية في الخارج، لا سيما في دول البلقان، والشرق الأوسط، وفي المحافل الدولية. على سبيل المثال، تشير الوثائق الرسمية إلى تنسيق مستمر بين الخارجية الروسية والبطريركية في تنظيم زيارات “السلام الأرثوذكسي” التي قادها كيريل إلى صربيا وسوريا، بوصفها مبادرات تُكمّل السياسة الخارجية الروسية، وتُضفي عليها بعدًا روحيًّا مضادًا للهيمنة الغربية.

وتبلغ العلاقة بين الكنيسة والدولة ذروتها في “المجلس الشعبي الروسي”، الذي يشرف عليه -جزئيًّا- البطريرك كيريل، ويضم مسؤولين حكوميين، ومثقفين، وضباطًا متقاعدين، ويُستخدم منصة لإنتاج خطاب شرعنة موحّد يتقاطع فيه اللاهوت القومي مع السياسات العليا. لا تصدر عن هذا المجلس قرارات ملزمة، لكنه يعمل كـ”مسرح للتماثل الرمزي بين القيادة السياسية والروحية”.

في كل هذه الأمثلة، تُظهر الكنيسة قدرتها على التكيّف مع منطق الدولة، حيث تُخضع أدواتها اللاهوتية والطقسية والتاريخية لمنطق الشرعية السياسية، فهي لا تقف في موقع “المعارضة الأخلاقية” -كما في السياقات الغربية- بل تؤدّي وظيفة تأطيرية: تحويل القرارات الإستراتيجية إلى صيغ شرعية قيمية، تُدرَك بوصفها امتدادًا للتقاليد الأرثوذكسية، لا مجرد حسابات جيوسياسية.

سلطة رمزية دون سلطة تقريرية

رغم الحضور الكثيف للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الخطاب السياسي والإعلام الرسمي، فإن سلطتها تظل مقيدة بدقة داخل نطاق رمزي لا يتعدى التأطير القيمي، فالكنيسة لا تملك صلاحية تقرير السياسات، ولا تُشارك في بلورتها على مستوى السيادة؛ بل تتلقى من الدولة مضمون القرار لتعيد إنتاجه أخلاقيًّا ضمن منظومة خطابية دينية- حضارية. هذا التفاوت بين الحضور والقدرة يكشف عن نمط خاص من “الاستقلالية المقيدة”، حيث تتحرك الكنيسة داخل هامش واسع من الرمزية، دون أن تتجاوز الخط الأحمر للقرار السياسي.

في هذا السياق، يلاحظ أن الكنيسة تتمتع بحرية في التصريح، لكنها لا تملك حرية المبادرة، ومواقفها الحاسمة في قضايا مثل العلاقات مع الغرب، والحروب، أو قوانين التعليم، تأتي دومًا بعد صدور إشارات واضحة من الكرملين، أو أجهزة الأمن الثقافي، ويُستدل على ذلك بصمت الكنيسة في قضايا كبرى مثل الفساد، أو انتهاكات حقوق الإنسان، في حين تُفعّل خطابها بقوة في القضايا المتّسقة مع اتجاه الدولة، مثل “الانحلال الأخلاقي الغربي”، أو “أهمية الأسرة التقليدية”.

مثال بارز على هذه الديناميكية يمكن رصده في موقف الكنيسة من الحرب في أوكرانيا عام 2022؛ فبينما عبّرت كنائس أرثوذكسية عالمية عن إدانتها للغزو، اكتفى البطريرك كيريل بتصريحات تُحمّل الغرب مسؤولية “العدوان الروحي” على روسيا، معتبرًا الحرب “معركة ميتافيزيقية من أجل الحق الإلهي”. هذه اللغة الكونية تُوظَّف هنا لا لإدانة العنف؛ بل لإعادة صياغته ضمن منطق روحي متماهٍ مع قرار الدولة.

على المستوى التشريعي، لا تملك الكنيسة حق الفيتو أو التعديل المباشر، لكنها كثيرًا ما تُستشار -على نحو غير رسمي- في صياغة القوانين ذات البعد القيمي، كما في قانون “حماية المشاعر الدينية”، أو سياسات “مكافحة الترويج للمثلية” في المدارس والإعلام. غير أن هذه الاستشارة لا تُمارس من خلال مؤسسات دستورية؛ بل من خلال قنوات رمزية- تنسيقية بين رجال الكنيسة وموظفي الكرملين أو المحافظات، وهو ما يؤكد الطبيعة غير الرسمية لهذا التأثير.

ومع ذلك، لا تخلو العلاقة من لحظات توتر مقنّع، حيث تتخطى الكنيسة أحيانًا المسموح به في خطابها، فتُذكَّر ضمنيًّا بحدود دورها؛ فمثلًا، حين أدلى رئيس قسم العلاقات الخارجية في الكنيسة، المطران هيلاريون، بتصريحات نقدية نسبية عن الفساد الإداري في بعض الأقاليم، لم تغطِّه وسائل الإعلام الرسمية، ولم تُدعَ الكنيسة لإبداء موقف رسمي، مما فُهم على أنه “تأديب ناعم”.

إن هذا النمط من “الاستقلالية الرمزية” يعكس توازنًا حساسًا: الدولة تمنح الكنيسة مساحة للصوت، لا للفعل، وتستخدمها لتغليف خياراتها الإستراتيجية برداء قيمي- تاريخي، دون أن تمنحها وزنًا مؤسسيًّا مستقلًا. بهذا المعنى، تُبقي السيستيما على الكنيسة داخل بنية الدولة، لكنها تحكم عليها بأن تبقى “أداة تبرير”، لا “مصدر إقرار”. إنها السلطة بلا سلطة، والتأثير دون قرار.

الرمزية الدينية بوصفها أداة شرعنة للسياسة الخارجية

في السياسة الخارجية الروسية المعاصرة، لم تعد أدوات الشرعنة محصورة في الجغرافيا أو المصالح الواقعية، بل باتت تُصاغ ضمن سردية حضارية تستند إلى مفاهيم دينية- قيمية، مثل “الأمن الروحي”، و”العالم الروسي”. هذه الرمزية تُمنح طابعًا وظيفيًّا في ثلاثة اتجاهات مترابطة: تعريف التهديدات بوصفها اختراقات أخلاقية، وتوسيع المجال السيادي تحت لافتة وحدة الهوية، وتبرير التدخل الخارجي بمنطق الحماية الروحية.

منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، برز مفهوم “الأمن الروحي” بوصفه عنصرًا جديدًا في عقيدة الأمن القومي الروسي، يُعنى بحماية القيم الأرثوذكسية والهوية الثقافية بوصفها مكونات سيادية موازية للحدود والقوة العسكرية. في هذا السياق، لم تعد الكنيسة الأرثوذكسية مجرد مؤسسة دينية، بل صارت فاعلًا رمزيًّا- أمنيًّا يعيد تأطير التهديدات الخارجية كتهديدات للقيم، وليس للمصالح فقط.

ترسّخ هذا المفهوم في الخطاب الرسمي منذ وثيقة “أسس التصور الاجتماعي” عام 2000، وتكرّس في تصريحات مثل خطاب البطريرك كيريل عام 2016، الذي اعتبر الدفاع عن التراث الروحي مكوّنًا من مكونات الأمن الوطني، وبلغ ذروته في أزمة أوكرانيا، حين رُوّج لضم القرم بأنه خطوة لحماية “وحدة الروح الأرثوذكسية”، وليس المجال الحيوي فقط.

تحوّل “الأمن الروحي” إلى أداة تنظيمية، تجلّت في تدخل مجلس الأمن الروسي في السياسات الثقافية والتعليمية، وفي إشراك رجال الدين في تشكيل السياسات. ويذهب ديميتري آدامسكي إلى أن هذا المفهوم أعاد تعريف الردع، حتى في بُعده النووي، بوصفه حماية رمزية للهوية في مواجهة “الانهيار الأخلاقي للغرب”.

بهذا التصور، تتجاوز السياسة الخارجية الروسية منطق المصالح الواقعية، لتغدو تعبيرًا عن سردية حضارية تُسند فيها إلى الكنيسة أدوار في إنتاج الشرعية، وتأمين الأمة روحيًّا، من خلال أدوات رمزية تندرج ضمن إستراتيجية سيادية شاملة.

لا يمكن فهم السياسة الخارجية الروسية المعاصرة دون التوقف عند مفهوم “العالم الروسي” (Russkiy Mir)، الذي تحوّل من خطاب ثقافي موجه إلى الشتات إلى عقيدة توسعية ذات طابع حضاري- روحي. ما بدأ كمشروع “قوة ناعمة” لتعزيز اللغة والهوية الروسية، لا سيما منذ تأسيس مؤسسة “العالم الروسي” عام 2007، تطوّر سريعًا إلى منظومة أيديولوجية تُبرّر التدخل في دول الجوار بحجة حماية “الوحدة الروحية”، و”المجال الحضاري” لروسيا.

منذ خطاب بوتين عام 2001، حيث أعلن أن العالم الروسي “يتجاوز الإثنية والجغرافيا”، بدأ ترسيخ المفهوم بوصفه مكوّنًا من مكونات السيادة الثقافية، وتجلّى ذلك بوضوح في أوكرانيا، حيث استُخدم المفهوم لتبرير ضم القرم، ورفض استقلال الكنيسة الأوكرانية، واعتبار الحفاظ على “الوحدة الأرثوذكسية” واجبًا لاهوتيًّا. توسعت المؤسسة إلى أكثر من 90 مركزًا عالميًّا، وربطت نشاطها الثقافي بالتدخلات السياسية، كما دعمت منظمات تنشط في المناطق السلافية بهدف تعزيز النفوذ الروسي تشريعيًّا ورمزيًّا.

ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في “العالم الروسي” رسالة تاريخية روحية، ويصفه باحثون مثل دانييل باين بأنه تجلٍّ لـ”لاهوت جيوسياسي”، دُمِجَت فيه الدولة والكنيسة ضمن سردية واحدة تبرّر الأفعال التوسعية بلغة روحية. لم يقتصر تأثير المفهوم على الفضاء السوفيتي السابق؛ بل امتد إلى سوريا ولبنان، حيث قُدّمت روسيا بوصفها “حامية للمسيحية الشرقية”.

هكذا يتجاوز “العالم الروسي” كونه أداة ثقافية، ليصبح مشروعًا سياديًّا تعبويًّا يعيد رسم الحدود الجيوثقافية للنفوذ الروسي، من خلال تحالف مؤسسي بين الدولة، والكنيسة، وأذرع القوة الناعمة.

تبرير التدخل باسم الحماية الروحية

إذا كان “العالم الروسي” يرسم المجال الرمزي للنفوذ، فإن “لاهوت السيادة” يمنحه الغطاء الأخلاقي الذي يُشرعن التدخلات الروسية بوصفها مهام روحية. لم تعد السياسة الخارجية وظيفة الدولة وحدها؛ بل أصبحت امتدادًا لرسالة دينية تدّعي الدفاع عن الإيمان والهوية في وجه “التفكك الأخلاقي” القادم من الغرب.

تجلّى هذا الخطاب بوضوح في كلمة البطريرك كيريل أمام القمة الروسية- الإفريقية (2023)، حيث صوّر روسيا بوصفها قوة غير استعمارية تتدخل لحماية القيم المشتركة، معتبرًا الرد على التهديدات الروحية ضرورة قد تفرض “التصرف في ظروف معاكسة”. هذا ما يسمّيه ديميتري آدامسكي “الأرثوذكسية النووية”، أي دمج العقيدة الدينية في الردع الإستراتيجي بوصفه حماية روحية لهوية الأمة.

هذا التداخل بين اللاهوت والسياسة يتجسد في أدوار الكنيسة في سوريا وإفريقيا، حيث اعتُبر التدخل الروسي “رسالة حضارية”، و”توجيهًا روحيًّا” في مواجهة التدخلات الغربية. وقد كرّست الكنيسة هذا الدور من خلال مؤسسات كالإكسرخسية الإفريقية، مؤكدة أن حضورها الخارجي يستند إلى “رابط روحي وتاريخي”.

إن هذا النموذج يعيد تعريف السياسة الخارجية بوصفها واجبًا لاهوتيًّا، يُضفي الشرعية على العنف باسم حماية الأرثوذكسية، ويفرغ مفاهيم الشرعية الدولية من مضامينها القانونية، فالتدخل الروسي لا يُقدَّم بوصفه خيارًا جيوسياسيًّا؛ بل بوصفه دفاعًا عن النظام الأخلاقي للعالم.

بهذا يتشكّل لاهوت السيادة الروسي كثالث أضلاع مثلث رمزي- سيادي:

  1. الأمن الروحي: يحدد التهديد.
  2. العالم الروسي: يرسم المجال.
  3. لاهوت الحماية: يبرّر الفعل.

وكل ذلك ضمن تآلف مؤسسي بين الدولة والكنيسة، يُحوّل السياسة الخارجية إلى طقس أخلاقي أكثر منه ممارسة قانونية.

الكنيسة بوصفها ذراعًا في المواجهة القيمية

في مقابل تعريف الليبراليات الغربية للشرعية عبر القانون والمؤسسات، يُعيد المشروع الروسي المعاصر تأسيسها على أسس أخرى، فالشرعية في روسيا ليست تعاقدًا قانونيًّا- مؤسسيًّا، بل بناءً رمزيًّا- قيميًّا- سياديًّا يعكس تصورًا خاصًا لمكانة الدولة والهوية والحضارة. وفقًا لهذا التصور، تُقدَّم روسيا لا بوصفها دولة داخل النظام الدولي، بل بوصفها مشروعًا حضاريًّا مستقلًا يطمح إلى تأسيس قطب أخلاقي عالمي.

في هذا المشروع تؤدي الكنيسة الأرثوذكسية دور ذراع قيمية مركزية للدولة. منذ 2014، بات الخطاب الأرثوذكسي المحافظ أداة أيديولوجية لتبرير السياسة الخارجية، وخاصة في أوكرانيا وسوريا، حيث يُقدَّم التدخل العسكري بوصفه “حماية روحية للعالم الأرثوذكسي” من الانحلال الغربي. وقد أعادت الكنيسة إحياء سردية “روسيا المقدسة” كوريثة لبيزنطة، وصاحبة رسالة أخلاقية في عالم “ساقط في الخطيئة”.

خطابات كيريل تؤكد هذا التموقع، إذ يرى أن الصراع مع الغرب “روحي وأخلاقي قبل أن يكون سياسيًّا”، وأن روسيا “لا يمكن أن تنتمي إلى حضارة تُنكر الله”. هكذا تتحول السياسة إلى لاهوت، والمواطنة إلى انتماء روحي، والدولة إلى قوة رسالية تُنافس الغرب، لا بالأسواق؛ بل بالقيم.

هذا التوظيف الرمزي للدين يهدف إلى بناء “شرعية مضادة” دوليًّا، تُقدّم روسيا بوصفها “قوة أخلاقية” تواجه “إمبراطورية التفكك القيمي”؛ وبهذا تصبح الكنيسة منصة دبلوماسية بديلة، تعوّض العزلة الجيوسياسية بـ”اعتراف قيمي” عابر للحدود.

حدود المشروع الأرثوذكسي

التداخل بين الديني والسيادي في النموذج الروسي لا يسير في خط تصاعدي سلس؛ بل يواجه جملة من التحديات البنيوية والمجتمعية والمؤسساتية.

أول هذه التحديات هو الانقسام داخل العالم الأرثوذكسي نفسه، فمشروع العالم الذي تصوّره موسكو بوصفه فضاءً روحيًّا- ثقافيًّا موحَّدًا يتجاوز الجغرافيا القومية، لم يجد إجماعًا من الكنائس الأخرى. الكنيسة اليونانية، والقبرصية، وكنيسة الإسكندرية -على سبيل المثال- رفضت تأييد نموذج موسكو المركزي، بل دعمت الكنيسة الأوكرانية المستقلة؛ ما دفع موسكو إلى قطع العلاقات، والرد بخطوة رمزية- عدائية تمثّلت في تأسيس إكسرخسية روسية في إفريقيا، في سابقة خرقَت النظام الكنسي التقليدي.

هذا الصدع يُعبّر عن حدّ داخلي داخل الأرثوذكسية نفسها، فبينما تسعى موسكو إلى تقديم نفسها كمرجعية، يتمسّك الآخرون بتقاليد الكنيسة الجامعة، ويدينون “التسييس الصريح للعقيدة”. في هذا السياق، لا تُواجه موسكو فقط نقدًا علمانيًّا من الخارج؛ بل أيضًا مقاومة لاهوتية من الداخل، ترى في نموذج “الكنيسة- الدولة” انحرافًا عن جوهر الأرثوذكسية نفسه.

أما التحدي الثاني فهو داخلي- اجتماعي؛ فبينما تُكثّف الدولة والكنيسة خطابهما المشترك عن “القيم التقليدية” والأسرة والإيمان، فإن فئات كثيرة من الشباب الروسي والمثقفين، وحتى بعض الكهنة المستقلين، ينظرون إلى هذا الخطاب بعين الريبة؛ ففي اعتقادهم، تتحوّل الكنيسة إلى ملحق سلطوي يُستخدم لتبرير الرقابة، والتضييق، وتجميل العسكرة. وفي لحظات الاحتجاج -كما في التظاهرات ضد الحرب أو الرقابة الثقافية- نُشاهد وجوهًا دينية تعارض السلطة باسم الإيمان نفسه.

ومع أن الكنيسة تواصل أداء دور في المجال التعليمي والإعلامي والقيمي، فإن قدرتها على إنتاج شرعية مقنعة للجميع تتآكل ببطء أمام تحولات المجتمع الروسي، وتضارب الخطابات داخل النظام نفسه، فبوتين لا يحكم من خلال الكنيسة فقط؛ بل من خلال أجهزة الأمن، ومؤسسات القوة، والتحكم في الإعلام. والكنيسة -في هذا السياق- تبدو أحيانًا مجرد قناة لتغليف السلطة بالقيم، لا لتوجيهها فعليًّا.

وربما يكمن التناقض الأكبر في أن المشروع الروسي يقدّم نفسه بوصفه بديلًا حضاريًّا- روحيًّا للنموذج الغربي، في حين يستخدم أدوات الهيمنة الرمزية نفسها في إنتاج سردية عالمية، وصناعة خطاب متمركز حول الذات، ومأسسة المقدّس لتبرير قرارات الدولة. الفرق الوحيد أن “القيم التقليدية” تُستبدل بـ”القيم الليبرالية”، و”الروح” تُستبدل بـ”الحرية”، في حين تبقى آلية السيطرة واحدة- إنتاج شرعية شاملة.

وختامًا، يمكن النظر إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بوصفها فاعلًا رمزيًّا- سياديًّا، لا يُمارس القوة الصلبة، لكنه يُنتج خطابًا يُشرعنها. الكنيسة ليست حكومة ظل، لكنها ظل السيادة في هيئة قداسة؛ فبينما تُحارب روسيا بالنفط والسلاح، فإنها تُشرعن الحرب بالقداس، وتمنح العنف معنى أخلاقيًّا تُسوّقه على أنه حماية للإيمان، وليس عدوانًا على القانون.

وبذلك تُصبح السيادة الروسية معادلة مركبة، لا تُختزل في الجغرافيا أو الردع؛ بل تُصاغ هويّاتيًّا من خلال ثلاثي: الشرعية القانونية، والتحكم الأمني، والرمزية الروحية.

وفي هذه المعادلة، تظل الكنيسة هي الفاعل الأضعف من حيث القرار، لكنها الأقوى من حيث توليد المعنى، ذلك المعنى الذي تستند إليه السلطة حين تحتاج إلى ما هو أعمق من القانون، وأقوى من الإعلام، وأبقى من الخطاب السياسي نفسه.

المراجع:

  1. Curanović, A. (2012). The Religious Factor in Russia’s Foreign Policy. Routledge.
  2. Payne, D. P. (2016). Spiritual Security and the Russkiy Mir: The Russian Orthodox Church and the Ministry of Foreign Affairs since 2007. Journal of Church and State, 58(4), 669–695.
  3. Adamsky, D. (2019). Russian Nuclear Orthodoxy: Religion, Politics, and Strategy. Stanford University Press.
  4. Uran Kyzy, A. (2023). Rising Power of the ROC: The Russian Orthodox Church and Russian Statecraft. Central Asia and the Caucasus, 24(1).
  5. Kilp, A., & Pankhurst, J. (2021). Soft, Sharp, and Evil Power: The Orthodox Church as a Tool of the Russian State. Religion, State & Society, 49(1), 5–24.
  6. Freeze, G. (2017). Russian Orthodoxy and Politics in the Putin Era. In J. Bremer & R. Moe (Eds.), Religion and Politics in Post-Soviet Russia. Routledge.
  7. Trigub, A. (2020). Историческая традиция церковной дипломатии Российской империи. Москва: Издательство Православного Свято-Тихоновского гуманитарного университета.
  8. Plokhy, S. (2017). Lost Kingdom: The Quest for Empire and the Making of the Russian Nation. Basic Books.
  9. Köllner, T. (2020). The Orthodox Church in Putin’s Russia: Political Strategies of Co-Optation and Autonomy. Religion, State & Society, 48(1), 25–47.
  10. Ryan, B. (2019). Putin and the Russian Orthodox Church: The Dangerous Symbiosis of Church and State. Theos Think Tank.
  11. Figes, O. (2002). Natasha’s Dance: A Cultural History of Russia. Penguin Books.
  12. Stoeckl, K. (2017). The Russian Orthodox Church and Human Rights. Religion, State & Society, 45(3–4), 231–249.

13. سليم هاني منصور (2023)،  البعد المسيحي للسياسة الروسية في الشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع