القواعد العسكرية الامريكية، حيث تستعد الولايات المتحدة الأمريكية لأكبر إنفاق عسكري في تاريخها بداية من العام المقبل ٢٠٢٤، وذلك بعد أن أقر مجلس الشيوخ الأمريكي يوم الخميس الماضي 14 ديسمبر (كانون الأول) بأغلبية 87 عضوًا، ومعارضة 13 فقط، قانون “تفويض الدفاع الوطني”
NATIONAL DEFENSE AUTHORIZATION ACT
المعروف باسم (NDAA). الملاحظة الواضحة على هذه الميزانية العسكرية العملاقة التي بلغت ٨٨٦ مليار دولار، وجاءت تفاصيلها في ٣١٠٠ صفحة، أنها، بالإضافة إلى زيادة مرتبات الضباط والجنود بنسبة 5.2 %، تركز على بناء “قواعد عسكرية أمريكية جديدة” في الخارج، وتتركز التوجهات الأمريكية في بناء قواعد عسكرية نحو منطقتين رئيستين؛ هما شرق وشمال شرق أوروبا، ومنطقة الإندوباسيفيك؛ بهدف محاصرة الصين وفق نظرية “حلقة النار” التي تعتمدها واشنطن لمحاصرة النمو والصعود الصيني، خاصة في أقاليم بحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي.
وتركز واشنطن في رؤيتها نحو بناء سلسلة القواعد العسكرية على شركائها الآسيويين، أمثال اليابان، والفلبين، وفيتنام، وأستراليا، لتضاف القواعد الجديدة إلى نحو 840 قاعدة عسكرية في 82 دولة خارج الأراضي الأمريكية، تضم نحو 250 ألف جندي، وتدعي واشنطن أن هذه القواعد تسهم في نشر السلام والاستقرار والازدهار في العالم، وتدلل على ذلك بالدور الذي أدّته هذه القواعد سابقًا في بلدان مثل اليابان، وألمانيا، وكوريا الجنوبية.
ومع أن الهدف المعلن من الإبقاء والتوسع على القواعد الأمريكية هو حماية مصالح الشعب الأمريكي، الذي لا تتجاوز نسبته 5% من سكان العالم، فإن القواعد الأمريكية تنتشر في جميع القارات، ومنها نحو 100 ألف جندي في 260 قاعدة أمريكية في أوروبا، وما يزيد على 100 ألف جندي آخرين في شرق آسيا وجنوب شرقها، غالبيتهم في اليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى نحو 29500 جندي في منطقة الخليج، فضلًا عن نحو 7000 جندي ضمن القوات الأمريكية في إفريقيا، المعروفة باسم “أفريكيوم”.
فما الرسائل الأمريكية من نشر مزيد من القواعد العسكرية بالقرب من الصين وروسيا؟ وما الوسائل لدى بيجين وموسكو لاحتواء خطر القواعد الأمريكية الجديدة؟ وهل يقود تشييد القواعد العسكرية الأمريكية الجديدة إلى مرحلة مختلفة ونوعية من “سباق القواعد” العسكرية بين الولايات المتحدة من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر؟
ظلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة قانعة برؤية المؤسس جورج واشنطن بأنه ليس على الولايات المتحدة أن تذهب بعيدًا عن أراضيها التي يحميها المحيطان الأطلسي من الشرق، والهادي من الغرب، لكن منذ الحرب العالمية الثانية بدأ توجه أمريكي جديد نحو بناء “قواعد عسكرية ثابتة” في غرب أوروبا، واليابان، ثم كوريا الجنوبية، وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعمق هذا التوجه الأمريكي نحو بناء “قواعد عسكرية ثابتة”، خاصة في “مجموعة بودابيست التسع”، حيث بدأت الولايات المتحدة منذ منتصف عام 2022 مناقشات مع هذه الدول لبناء سلسلة من القواعد العسكرية الجديدة في وسط أوروبا وشرقها، أحدثها قاعدة “ريدزيكفو” العسكرية في بولندا، التي تقع على أقل من 200 كم من جيب كالينينغراد الروسية، وتضم “مجموعة بودابيست” كلًا من لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، والتشيك، وسلوفاكيا، والمجر، وبولندا، وبلغاريا، ورومانيا، وتعمل واشنطن على بناء قواعد عسكرية “جديدة”، أو تطوير قواعد عسكرية “قديمة” كانت تستخدمها هذه الدول أيام الاتحاد السوفيتي السابق، وشكل هذا تغييرًا في النهج الأمريكي الذي كان قبل الحرب الروسية الأوكرانية يقوم على تكثيف المناورات والتدريبات المشتركة، وإرسال القوات- فترة مؤقتة- إلى شرق أوروبا ووسطها بالتناوب مع القوات الأمريكية المنتشرة في غرب أوروبا، وخاصة في ألمانيا.
وقبل الحرب الروسية الأوكرانية، كانت واشنطن تنفق سنويًّا نحو 120 مليار دولار على القواعد العسكرية الخارجية، لكن هذا الإنفاق يزيد في الميزانية الجديدة إلى نحو 150 مليار دولار وفق منظمة “World beyond war”، التي تعمل على وقف تمدد القواعد الأمريكية وانتشارها في الخارج، لكن أغرب ما لفتت إليه هذه المنظمة في تقريرها السنوي لعام 2022 أن انتشار القواعد الأمريكية وتمددها في الخارج بدأ مباشرة بعد نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، فالطبيعي كان هو توقف الإجراءات العدائية الغربية، ومنها بناء القواعد العسكرية ضد روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وكل هذا يضفي مصداقية كبيرة على كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه السنوي الشهر الجاري عندما قال: “لو عاد بي الزمن إلى عام 1999، فإنني لن أثق بالغرب”.
التوجه الأمريكي الجديد نحو بناء وتشييد مزيد من القواعد العسكرية الأمريكية، لا يسهم فقط في توسيع دائرة “سباق التسلح بشكله التقليدي”، بل يفتح الباب سريعًا نحو “سباق تسلح نووي” في ظل المعلومات التي تنشرها منظمات ضد نشر السلاح النووي قالت فيها إن واشنطن لا تكتفي فقط بنشر جميع أنواع الأسلحة التقليدية؛ بل تتوسع في نشر كل أنواع “الرؤوس النووية” في القواعد العسكرية الأمريكية الجديدة؛ ولهذا عندما رفضت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل نشر مزيد من الرؤوس النووية في القواعد العسكرية الأمريكية في ألمانيا، عرضت واشنطن نشر هذه الصواريخ النووية في بولندا، ورومانيا، وبلغاريا، وتنتشر بالفعل الأسلحة النووية في القواعد العسكرية الأمريكية في غرب أوروبا، مثل القاعدة الأمريكية في مدينة شتوتغارت الألمانية، التي تستضيف مقر قيادة العمليات الأمريكية في أوروبا، وتتبعها نحو 50 قاعدة أخرى في أوروبا، وتستضيف مدينة فيسبادن القريبة من هناو المقر الرئيسي للقوات الأمريكية في أوروبا، بالإضافة إلى القواعد الأمريكية الشهيرة في ألمانيا، مثل قواعد رامشتاين، وبوبلينغين، وسبانغداهليم، فضلًا عن قاعدة فولكل الجوية في هولندا، ولاجيس في البرتغال، وقاعدتي مورون وروتا في إسبانيا، وكونبيري وكراوتون في بريطانيا، وفيتشينزا وكامب ديربي وليغهورن في إيطاليا.
هناك قناعة لدى حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) بأن بناء القواعد الأمريكية حول روسيا في وسط أوروبا وشرقها وشمالها يخدم الهدف الإستراتيجي الرئيس؛ وهو “محاصرة الصين” في آسيا، ولهذا يعد عام 2023 أكثر الأعوام خلال العقدين الماضيين الذي شهد توقيع اتفاقيات لإنشاء قواعد عسكرية أمريكية جديدة حول الأراضي الصينية، وليس هذا فقط؛ فقد سلّحت الولايات المتحدة الأمريكية قواعدها العسكرية في منطقة “الإندوباسيفيك” بأحدث الأسلحة والمعدات، منها 3 حاملات طائرات هي: “يو. إس. إس. رونالد ريغان”، ومقرها الأساسي في اليابان، و”يو. إس. إس. ثيودور روزفلت”، ومقرها الأساسي في جزيرة غوام، وحاملة الطائرات “نيميتز”، ومقرها في قاعدة سان دييغو، وأخذ التوسع الأمريكي في القواعد العسكرية حول الصين سلسلة من المسارات، هي:
والهدف من ذلك هو تعزيز الوجود الأمريكي في المحيط الهندي، وبحر الصين الجنوبي، وبالقرب من خليج ملقا، ولهذا اتفقت الولايات المتحدة مع حكومة سنغافورة منذ عام 2020 على تمديد استخدام الجيش الأمريكي لقاعدة “سيمباوانغ” التي تشرف على المحيطين الهندي والهادي.
اتفقت الولايات المتحدة وأستراليا بعد تأسيس تحالف “أوكوس” العسكري في 15 سبتمبر (أيلول) عام 2021، الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من بريطانيا وأستراليا، على بناء سلسلة من القواعد العسكرية الأمريكية على السواحل الأسترالية، خاصة تلك القريبة من بحر الصين الجنوبي؛ ولهذا تبني واشنطن قاعدتين جويتين، وتوسّع القواعد العسكرية الأمريكية شرق أستراليا، وتتميز القواعد العسكرية الأمريكية الجديدة في أستراليا بأنها كبيرة وضخمة جدًّا، وسوف تكون جاهزة لاستقبال القاذفات الإستراتيجية من طراز “بي 52″، و”بي 52 ريدر”، كما يمكنها استقبال الغواصات والسفن الحربية الضخمة، وحاملات الطائرات العملاقة التي تعمل بالطاقة النووية.
مع أن اليابان هي أكثر دول العالم التي تستضيف قواعد أمريكية، يصل عددها إلى نحو 100 قاعدة عسكرية بها نحو 50 ألف جندي أمريكي، فإن واشنطن بدأت العام الجاري ببناء سلسلة من القواعد العسكرية الجديدة لتكون قادرة على دعم تايوان حال غزو الصين لتايوان، الذي يتوقع وليم بيرنز، مدير المخابرات المركزية الأمريكية، أن يكون هذا الغزو في عام 2027، وتعمل الولايات المتحدة على بناء قاعدة عسكرية أمريكية جديدة فى جزيرة غير مأهولة فى محافظة “كاجوشيما” في جنوب غرب اليابان؛ بهدف نقل التدريبات العسكرية الأمريكية إلى هناك؛ لاستخدامها في استقبال طائرات مقاتلة محمولة على حاملة طائرات، وسوف ينتهي العمل من بناء هذه القاعدة خلال 4 سنوات، بالإضافة الي قاعدة جديدة لتدريب الطائرات المقاتلة من “جزيرة إيووتو” في المحيط الهادي على بعد نحو 1250 كيلومترًا جنوب طوكيو.
تعد فيتنام من أكثر الدول التي لديها خلافات بحرية مع الصين، وحصلت فيتنام على قرار من “محكمة التحكيم” الدائمة في لاهاي بحقوقها في بحر الصين الجنوبي، وهي حقوق ترفض الصين الإقرار بها؛ ولهذا استغلت الولايات المتحدة هذه الخلافات الصينية الفيتنامية لتوقيع “اتفاقية شراكة كاملة” خلال زيارة الرئيس جو بايدن لفيتنام في 10 سبتمبر (أيلول) الماضي، وتضمنت تلك الشراكة الوصول الأمريكي إلى قواعد عسكرية فيتنامية، وبيع أسلحة أمريكية متطورة لهانوي.
التعاون العسكري الأمريكي الفلبيني قديم، وهناك اتفاقية دفاع مشترك بين مانيلا وواشنطن منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن تصاعد الخلافات الصينية الفلبينية ساعد الولايات المتحدة على التوصل إلى اتفاق جديد مع الفلبين، في أبريل (نيسان) من العام الجاري، يسمح بوصول القوات الأمريكية إلى 4 قواعد عسكرية جديدة، تضاف إلى 5 قواعد عسكرية يستخدمها الجيش الأمريكي في الوقت الحالي في الفلبين، والقواعد الجديدة قريبة جدًّا من الصين، ومنها قاعدة “أنطونيو باتيستا” الجوية، القريبة من جزر سبراتلي الصينية التي عليها خلاف بين الصين والفلبين.
السؤال الأهم هو: كيف تتعامل روسيا والصين مع التوسع الأمريكي في القواعد العسكرية؟
وفق نظرية أرنولد توينبي “الاستجابة والتحدي”، تدرك موسكو أنه كلما اقتربت القواعد العسكرية الأمريكية من أراضيها، فإنه يجب عليها القيام باستجابة لهذا التحدي، لكنها- في الوقت نفسه- تحاول الحفاظ على قواعدها العسكرية الموروثة منذ أيام الاتحاد السوفيتي، خاصة القواعد الروسية في أرمينيا، وبيلاروس، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وترانسنيستريا في مولدوفا، وطاجيكستان، وأبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، بالإضافة إلى القاعدة الجوية في حميميم، والبحرية في طرطوس.
تمتلك الصين رؤية متكاملة للتعامل مع القواعد العسكرية الغربية بالقرب من أراضيها ومصالحها الحيوية، من خلال نظرية “حصار الحصار”؛ بمعنى أن الصين باتت تذهب إلى المكان نفسه الذي تحاول فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والآسيويون؛ ليكون للصين موطئ قدم بالقرب من القواعد العسكرية الأمريكية، أو بالقرب من الأراضي الأمريكية، ولتطبيق نظرية “حصار الحصار” قامت الصين بعدد من الخطوات، منها:
3- رغم النفي الصيني والكوبي، فإن هناك حديثًا أمريكيًّا عن وجود قاعدة صينية في كوبا على بُعد نحو 90 ميلًا بحريًّا فقط من ولاية فلوريدا الأمريكية، وبذلك تعمل الصين قرب الأراضي الأمريكية، كما تعمل الولايات المتحدة على مسافة قريبة من الأراضي الصينية.
4- قواعد صينية محتملة في 11 موقعًا جديدًا، فوفق التقرير السنوي للبنتاغون، الذي يرصد نمو الجيش الصيني وتطوره، تعتقد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أن هناك 11 موقعًا على أطراف المحيط الهندي تعمل الصين على بناء قواعد عسكرية لها فيها، والهدف الصيني من تلك القواعد هو التغلب على نقطة ضعف إستراتيجية في حماية خطوط الإمداد والصادرات بينها وبين باقي دول العالم.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.