تقدير موقف

ولادة فاعل جديد في قلب أوراسيا

القمة الأولى بين إيطاليا ودول آسيا الوسطى


  • 2 يونيو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: newscentralasia

بنهاية شهر مايو (أيار) الماضي، قامت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بجولة أوراسية في كازاخستان وأوزبكستان، واختتمت جولتها بقمة استثنائية بين إيطاليا ودول آسيا الوسطى، إذ أعادت القمة الإيطالية الأولى في أستانا (العاصمة الكازاخية) تعريف المشاركة الأوروبية في المنطقة، وطمحت إلى تعزيز نفوذ إيطاليا في آسيا الوسطى، من خلال المشاركة السياسية المباشرة، والتعاون الأمني، والشراكات الاقتصادية المتزايدة، لتقدم روما نفسها لاعبًا رئيسًا في الأمن الإقليمي للجمهوريات الخمس، فلعقود، شهدت المنطقة مواجهة بين روسيا والصين والولايات المتحدة، وفي السنوات الأخيرة برزت دول إقليمية فاعلة، مثل تركيا ودول الخليج والهند وإيران، والآن جاء دور إيطاليا، وفي سياق أوسع الاتحاد الأوروبي، ليشكلا مشهدًا جيوسياسيًّا متعدد الأقطاب، وملامح “اللعبة الكبرى الجديدة” الإقليمية، لتقديم بديل عن الشراكات التقليدية لدول آسيا الوسطى.

المصالح الإيطالية في آسيا الوسطى

وثّقت إيطاليا باطّراد ارتباطها بدول آسيا الوسطى، معترفة بالأهمية الإستراتيجية للمنطقة بوصفها موردًا للطاقة، وسوقًا للصادرات الإيطالية، ومركز عبور رئيسًا في أوراسيا، ولعل أبرز محفزات روما للتقارب مع جمهوريات آسيا الوسطى ترتبط بما يلي:

  • التعاون في مجال الطاقة: نظرًا إلى الاحتياطيات الضخمة من الموارد الطبيعية في آسيا الوسطى، تسعى إيطاليا جاهدةً إلى تطوير طرق بديلة لإمدادات الطاقة لتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية، وتُعد كازخستان -على وجه الخصوص- شريكًا أساسيًّا في هذا الصدد؛ لأنها من أكبر منتجي اليورانيوم في العالم، ومورد أساسي للنفط والغاز.
  • التموضع التجاري: تطمح روما إلى تعزيز علاقاتها التجارية مع المنطقة، حيث تعتمد إيطاليا على الشركات الصغيرة والمتوسطة وشركات الطاقة كأولوية، مع التركيز على القطاعات ذات إمكانات التوسع السريع، مثل البنية التحتية، والتحول الرقمي.
  • حماية الأمن الإقليمي: مع تزايد المخاوف بشأن الأمن الإقليمي، وخاصة بعد عودة سيطرة طالبان على أفغانستان، تهدف روما إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة من خلال التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وأمن الحدود.
  • توظيف الموقع الجغرافي: تؤدي آسيا الوسطى دورًا محوريًّا في الممر الأوسط، وهو طريق تجاري حيوي يربط أوروبا بالصين عبر بحر قزوين، متجاوزًا روسيا، ويُسهل التجارة بين أوروبا وآسيا عبر كازاخستان، وأذربيجان وجورجيا وتركيا، ويكشف اهتمام إيطاليا بهذا الممر هدفها الإستراتيجي المتمثل في تقليل الاعتماد على طرق النقل الروسية، وتعزيز التواصل مع أسواق آسيا الوسطى.
  • استغلال الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة: يعد محفزًا رئيسًا في دفع إيطاليا المتزايد نحو آسيا الوسطى، سياسات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب “أمريكا أولًا” الداعية إلى تقليص الوجود الأمريكي على المستوى الاقتصادي والعسكري في الخارج، وانعكست تلك السياسة على قراراته في آسيا الوسطى، لا سيما فيما يتعلق بخفض تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في المنطقة التي أدت دورًا حاسمًا في تعزيز التنمية الاقتصادية، والحوكمة الديمقراطية، والاستقرار الإقليمي في الجمهوريات الخمس؛ ومن ثم يُؤدي خفض تمويلها إلى فراغٍ يُمكن لدول الاتحاد الأوروبي أن تملأه من خلال تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي، في حين تعمل ظاهريًّا على تعزيز القيم الأوروبية المتمثلة في الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة.
  • تعزيز التعاون الدفاعي: يتجاوز انخراط إيطاليا في دول آسيا الوسطى المجالات الاقتصادية والتنموية، حيث أصبح التعاون الدفاعي الآن أولوية لدول الاتحاد الأوروبي، إذ يناقش المسؤولون الإيطاليون ونظائرهم في الجمهوريات الخمس برامج تدريب مشتركة، وتبادلات في مجال الأمن السيبراني، وإمكانية الإنتاج المشترك للمعدات العسكرية، وهذه الجهود تمنح إيطاليا حضورًا أمنيًّا في المنطقة، وتقلل اعتماد دول آسيا الوسطى على روسيا والصين، فمن شأن التدريب والإنتاج العسكري المتوافق مع حلف الناتو أن يُحدث تغييرًا في التوازنات العسكرية الإقليمية في المنطقة.

الاستراتيجية الإيطالية في الجمهوريات الخمس

على مدى السنوات القليلة الماضية، سعت روما إلى ترسيخ وجودها في منطقة آسيا الوسطى، وكانت البداية الحقيقة لهذا النهج في عام ٢٠١٩، حيث كانت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تُبادر بآلية “١+٥” للتشاور مع دول آسيا الوسطى، التي تعد حاليًا الإطار المتميز للتعاون الذي تستخدمه أيضًا الصين والولايات المتحدة لتعزيز نهج إقليمي يأخذ في الحسبان القضايا الداخلية لدول آسيا الوسطى الخمس. وفي عام ٢٠٢٢، سعت إيطاليا إلى إبرام اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي جديدة مع دول آسيا الوسطى، حيث استكشفت  فرص الاستثمار في قرغيزستان، لا سيما في صناعة النسيج، بهدف إنشاء مشروعات مشتركة تُمكّنها من الوصول إلى الأسواق الإقليمية. وبالمثل، سلطت روما الضوء على المصالح المشتركة بينها وبين أوزبكستان في تطوير البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا، والتبادل الثقافي.

وتوطدت العلاقات بين إيطاليا وأوزبكستان على نحو ملحوظ في عام ٢٠٢٣، حيث أعلن البلدان رسميًّا شراكتهما الإستراتيجية من خلال أكثر من ٣٥ مشروعًا مشتركًا برأس مال إيطالي. وفي منطقة جيزك، تعمل منشأة مدعومة من إيطاليا لزراعة ومعالجة الزعفران ونباتات طبية أخرى، ومن الجدير بالذكر أيضًا أن جامعة تورينو الإيطالية للفنون التطبيقية كانت من أوائل الجامعات الأجنبية في أوزبكستان، في حين تعاظم انخراط إيطاليا في المنطقة؛ ففي عامي 2023 و2024، عقدت إيطاليا منتديات أعمال مع طاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان، وفي ربيع عام 2024، وقّعت الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي وشركة لإدارة أنظمة المياه إعلان نوايا مع دول آسيا الوسطى بشأن تحديد نموذج عملي ووظيفي للتعافي البيئي والتجديد في المناطق الملوثة، بما في ذلك مشروع تجريبي في منطقة بحر آرال.

وفي هذا السياق، لطالما كانت إيطاليا الشريك التجاري الأوروبي الرئيس لكازاخستان، حيث احتلت المرتبة الثالثة في حجم التجارة الإجمالي بعد روسيا والصين، وتوثقت التجارة بين البلدين، ويعود ذلك إلى اعتماد إيطاليا على واردات النفط والغاز الكازاخستانية. وخلال زيارة الرئيس الكازاخي توكاييف إلى إيطاليا في يناير (كانون الثاني) 2024، وقّع البلدان نحو  16 مذكرة تفاهم تهدف إلى تعزيز التعاون في قطاعات حيوية، منها تنويع مصادر الطاقة، والبنية التحتية، والتحول الرقمي، والزراعة، وكان من أهم هذه الاتفاقيات مشروع مشترك بين شركتي إيني وكازموناي غاز لتطوير محطة طاقة هجينة؛ ما يُبرز تركيز إيطاليا على مشروعات الطاقة المستدامة في كازاخستان.

دعم النهج السابق لروما انعقاد ثلاثة مؤتمرات وزارية تحت عنوان “آسيا الوسطى- إيطاليا”، حيث جددت إيطاليا استعدادها للمساهمة في تطوير شبكات السكك الحديدية والمواني البحرية في آسيا الوسطى، بما يعزز تنافسية الشركات المحلية، ويضمن سلاسل التوريد العالمية، ويدعم مكافحة تغير المناخ، وفي السابع عشر من مايو (أيار) المنصرم عُقدت في روما حلقة نقاشية نظمتها البعثات الدبلوماسية لدول آسيا الوسطى بالتعاون مع وزارة الخارجية الإيطالية لتعزيز التقارب الدبلوماسي بين الجانبين.

ولعل جولة رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، في الجمهوريات الخمس في نهاية مايو (أيار) الماضي، التي أُجلت من أبريل (نيسان) بسبب وفاة البابا فرنسيس، تمثل تحولًا رسميًّا في نهج إيطاليا تجاه آسيا الوسطى، حيث بدأت الجولة في الثامن والعشرين من مايو (أيار) 2025 بزيارة أوزبكستان لتوسيع الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، حيث وقعت روما وطشقند كثيرًا من اتفاقيات التعاون الإستراتيجي بشأن تعزيز الاستثمارات المتبادلة وحمايتها، والتعاون في مجال المواد الخام الحيوية ومجال الهجرة والتنقل، والتنمية المستدامة وحماية البيئة، وكذلك التراث الثقافي، كما قدمت إيطاليا فرصًا لأوزبكستان بالتعاون مع صندوق المناخ والاتحاد الإيطالي للزراعة، فضلًا عن الشراكة بين الجامعات الأوزبكية والجامعات الإيطالية.

وفي اليوم التالي زارت ميلوني شريكها الأبرز في المنطقة كازاخستان، حيث وقعت مع أستانا صفقات اقتصادية بقيمة 4 مليارات يورو، تغطي مجموعة متنوعة من القطاعات، منها النفط والغاز، والطاقة المتجددة، وإدارة المياه؛ بهدف تعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين، حيث تعد إيطاليا أكبر شريك شريك تجاري لكازخستان داخل الاتحاد الأوروبي بحجم تبادل تجاري يصل إلى 20 مليار دولار. يشير كل هذا -بوضوح- إلى أن أوروبا -وإيطاليا تحديدًا- تنظر الآن إلى آسيا الوسطى بوصفها حلقة وصل جيوسياسية بالغة الأهمية، لا سيما في ظل تنامي عدم الاستقرار الإقليمي.

القمة الإيطالية الأولى مع دول آسيا الوسطى

أرست القمة الأولى لآسيا الوسطى وإيطاليا، التي عُقدت في أستانا في الثلاثين من مايو (أيار) المنصرم، إطارًا جديدًا للحوار بين إيطاليا والجمهوريات الخمس، حيث جمعت العاصمة الكازاخية أستانا رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بزعيم جمهورية كازخستان، قاسم جومارت توقاييف، ورئيس جمهورية قيرغيزستان، صدير جاباروف، ورئيس جمهورية طاجيكستان، إمام علي رحمان، ورئيس جمهورية تركمانستان، سردار بردي محمدوف، ورئيس جمهورية أوزبكستان، شوكت ميرضيائيف؛ لتؤكد روما التزامها بأن تكون طرفًا رئيسًا في الشؤون الأوراسية في إطار الحضور الأوروبي المتنامي في آسيا الوسطى، واستغلال موقعها الإستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط ​​لتسهيل وصول سلع آسيا الوسطى إلى الأسواق الأوروبية والإفريقية.

في هذا السياق، اتفق القادة على تعزيز الحوار والتعاون بين إيطاليا وآسيا الوسطى في مجال الأمن من خلال اجتماعات منتظمة على المستوى الإقليمي، مع التركيز على إنفاذ القانون، ومكافحة الاتجار غير المشروع، مثل المخدرات والأسلحة والبشر، ومكافحة التطرف، فضلًا عن أهمية معالجة التحديات البيئية، لا سيما أزمة بحر الآرال، وذوبان الأنهار الجليدية.

وبناءً على النمو الاقتصادي والزيادة المطردة في التجارة الثنائية بين آسيا الوسطى وإيطاليا، اتفق الزعماء على اتخاذ تدابير لتوسيع التعاون في المجالات المترابطة، مثل الموارد الطبيعية، والمناخ، والطاقة، بما في ذلك الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة الكهرومائية، فضلًا عن المواد الخام الحيوية، والزراعة، والاتصال، والبنية التحتية الحيوية، ودعم التعاون، وتطوير طريق النقل الدولي عبر بحر قزوين من خلال إستراتيجية البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي.

ومن بين أهم مخرجات القمة الأولى ما يرتبط بالاتفاق على إطلاق أنشطة مشتركة تُركز على تبادل المعرفة والتعاون المؤسسي في القطاعات الرئيسة، تشمل عقد اجتماع مائدة مستديرة بشأن حوار المياه والطاقة الكهرومائية ضمن إطار آسيا الوسطى وإيطاليا بحلول عام ٢٠٢٦، واجتماع آخر بشأن التعاون في مجال الطاقة عام ٢٠٢٧، لا سيما فيما يتعلق بتطوير تقنيات إنتاج الطاقة المستدامة وكفاءتها، فضلاً عن تنظيم المؤتمر الرابع لوزراء الخارجية في ربيع عام 2026 في إيطاليا، والموافقة على اقتراح جمهورية قرغيزستان باستضافة القمة المقبلة لآسيا الوسطى وإيطاليا في عام 2027.

ومما سبق يمكن القول إن قمة ميلوني تُمثل إعادة تنظيم لسياسة إيطاليا تجاه آسيا الوسطى، فلم تعد روما تُركز على ركيزة الطاقة فحسب؛ بل تتوسع في مجالات الدفاع، والتجارة الصناعية، والدبلوماسية، وهذا النهج يعكس مصالح الاتحاد الأوروبي في المنطقة، حيث تُشكله إيطاليا وفقًا لأولوياتها الوطنية، من خلال انخراط مبكر في المنطقة المتنازع عليها، وتأمين شراكات قبل أن تُعزز القوى المتنافسة سيطرتها، وربما تكون القمة الإيطالية في أستانا بمنزلة علامة فارقة في خلق إطار جديد للتعاون، إطار لا يُنظر فيه إلى آسيا الوسطى بوصفها “حديقة خلفية” للقوى الكبرى، بل بوصفها لاعبًا ذا سيادة كاملة، ومؤثرًا في الأمن الإقليمي؛ لذا فإن مدى قدرة إيطاليا، والاتحاد الأوروبي ككل، على الوفاء بوعودهما هو المعيار الذي سيحدد دورهما في تشكيل مستقبل آسيا الوسطى.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع