
منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، حاولت كييف أن ترسم صورة واحدة للعالم: رئيس شجاع يقود شعبًا موحدًا في مواجهة “عدوان خارجي”. غير أن هذه الصورة اللامعة تخفي خلفها واقعًا أكثر تعقيدًا: دولة غارقة منذ عقود في شبكة فساد عميقة، لم ينجح فولوديمير زيلينسكي في تفكيكها؛ بل أصبح جزءًا منها، أو على الأقل غطاءً سياسيًّا جديدًا لها.
إن الحديث عن الفساد في أوكرانيا اليوم لم يعد تفصيلًا داخليًّا، بل تحوّل إلى سلاح سياسي وإعلامي يضرب مباشرة في مصداقية زيلينسكي أمام شعبه، وأمام الرأي العام الغربي الذي يمول هذه الحرب.
منذ استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، لم تنجح النخبة السياسية في بناء دولة قانون حقيقية، بل تشكّل نظام هجين يقوم على صفقة غير مكتوبة بين السياسيين ورجال الأعمال الكبار الأوليغارش.
في التسعينيات، فُكِّكَت وخُصِّصَت أصول ضخمة في مجالات الطاقة، والمعادن، والنقل والمصارف بأثمان زهيدة لصالح عدد محدود من رجال الأعمال. هؤلاء لم يصبحوا أثرياء فقط؛ بل تحوّلوا إلى مراكز قوة تتحكم في البرلمان، والإعلام، والأحزاب، والقضاء.
أصبحت السياسة الأوكرانية ساحة مساومات بين مجموعات مالية متنافسة: كل مجموعة تمتلك قنوات تليفزيونية، وكتلًا برلمانية، وأجنحة داخل الحكومة. أصبح شراء الأصوات في البرلمان أمرًا شبه عادي، وصار شراء ذمم القضاة جزءًا من اللعبة اليومية .
تعاقَب على السلطة رؤساء كثيرون، لكن بنية النظام لم تتغيّر جذريًّا؛ وعود بمكافحة الفساد في الحملات الانتخابية، ثم إعادة إنتاج الشبكة نفسها بعد الفوز. في هذا المناخ، ترسّخ لدى المجتمع شعور عميق بأن الدولة مختطفة، وأن القانون يُطبّق على الضعفاء، في حين ينجو الكبار دائمًا.
هذا الإرث هو الأرضية التي صعد عليها زيلينسكي. هو لم يأتِ إلى فراغ؛ بل إلى دولة فيها الفساد جزء من طريقة عمل السلطة، وليس انحرافًا عرضيًّا.
قدّم زيلينسكي نفسه عام 2019 على أنه النقيض الكامل لكل ما سبق: ممثل شاب، لا خلفية سياسية له، يسخر في مسلسله الشهير من السياسيين الفاسدين، ثم يقرر خوض الانتخابات ليطبّق في الواقع ما مثّله على الشاشة.
شعاره كان بسيطًا وجذابًا: “كسر نظام الأوليغارش”، و”تصفير الفساد”. الملايين رأوا فيه فرصة أخيرة لتغيير القواعد. صوّت له الشباب والمتعبون من الفوضى، وجزء من النخبة التي احتاجت إلى وجه جديد لتلميع النظام.
لكن ما إن بدأ التدقيق في خلفياته المالية وشبكة علاقاته، حتى ظهرت صورة أخرى موازية:
هو إذن لم يأتِ من خارج المنظومة بالكامل، بل من هوامشها الناعمة؛ واجهة ترفيهية مريحة لرجل أعمال نافذ تحوّلت فجأة إلى واجهة سياسية لرئاسة دولة.
قبل الحرب بوقت قصير، كشفت تسريبات دولية عن وثائق مالية ضخمة شبكة من الشركات الخارجية سجّلها زيلينسكي وشركاؤه في جزر العذراء البريطانية وقبرص وغيرها منذ عام 2012.
هذه الكيانات لم تكن مجرد “أدوات قانونية”؛ وإنما جزء من بنية مالية سمحت بتمرير الأموال بين شركات الإنتاج الإعلامي والقنوات المملوكة للأوليغارخ، بعيدًا عن عيون سلطات الضرائب والرأي العام.
المفارقة هنا أن الرجل الذي بنى خطابه على “الشفافية” و”النزاهة”، كان يستخدم الأدوات نفسها التي استخدمتها -عقودًا- الطبقة الأوليغارشية الفاسدة: تسجيل شركات في ملاذات ضريبية، وملكية متشابكة بين شركاء وأقارب، وغياب توضيح كامل لحجم الأصول في التصريحات الرسمية قبل الانتخابات.
صحيح أن وجود شركة خارجية في ذاته ليس جريمة، لكن عندما يترافق ذلك مع خطاب أخلاقي حاد ضد الفساد، ومع علاقات مالية مع رجال أعمال متهمين بالاختلاس وغسل الأموال، يصبح السؤال مشروعًا: أين تنتهي صورة “الرئيس النظيف”، وتبدأ حقيقة رجل الأعمال الذي يختبئ وراءها؟
اندلاع الحرب مع روسيا فتح صفحة جديدة، ليس عسكريًّا فقط؛ بل ماليًّا أيضًا.
تدفقت على أوكرانيا مئات المليارات من المساعدات العسكرية والمالية من الغرب، ونُفّذت آلاف العقود تحت عنوان “الطوارئ”، وتم تجاوز كثير من إجراءات المناقصات، وتوسّعت صلاحيات الأجهزة التنفيذية إلى حدّ غير مسبوق.
في مثل هذه الظروف، يصبح الفساد أكثر جاذبية وأقل تكلفة على الفاعلين:
هذا بالضبط ما حدث في وزارات حيوية، مثل الدفاع، والبنى التحتية، والطاقة. ظهرت تسريبات عن صفقات تموين للجيش بأسعار مضاعفة: عقود غذاء، ملابس، معدات، تُبرم مع شركات مقربة من مسؤولين مدنيين وعسكريين.
تحت الضغط الإعلامي، أُجبر وزير الدفاع على الاستقالة، لكن السؤال بقي مفتوحًا: هل هو كبش فداء ضُحِّيَ به لحماية مَن هم أرفع، أم أنّ الفساد متجذر في عمق المنظومة التي يديرها زيلينسكي؟
أخطر ما في فضائح الفساد هذه أنها تزامنت مع خطاب سياسي خارجي يطالب الغرب بمزيد من المال والسلاح باستمرار، فكل فضيحة جديدة كانت تعطي الذخيرة للتيارات المتشككة في أوروبا وأمريكا، التي تتساءل: كيف نضمن أن أموال دافعي الضرائب لا تتحوّل إلى حسابات خاصة في كييف؟
من بين كل القطاعات الأوكرانية، يبقى قطاع الطاقة -خاصة الغاز والكهرباء والطاقة النووية- الأكثر جذبًا للفساد، فهو يجمع بين أربعة عناصر خطيرة:
في هذا القطاع تحديدًا، ظهرت شبكات أعمال مرتبطة بسياسيين حاليين وسابقين، ورجال من دائرة زيلينسكي القديمة في عالم الترفيه والإنتاج التليفزيوني.
تُبرم عقود توريد وصيانة مع شركات وسيطة لا تضيف قيمة حقيقية، لكنها تأخذ نسبة كبيرة من الأموال، ثم تُعاد توزيع الأرباح في شكل عمولات خفية على أطراف عدّة.
وجود هذه الشبكات في مجال حساس كالكهرباء والطاقة النووية يعني أن الفساد لم يعد مجرد “سرقة أموال”؛ بل عامل خطر على استقرار الدولة نفسها؛ لأن أي خلل أو أزمة في هذا القطاع تنعكس فورًا على حياة ملايين الأوكرانيين، وعلى قدرة كييف على مواصلة الحرب.
فيما يتعلق بزيلينسكي، كل فضيحة في قطاع الطاقة لا تعني سقوط وزير أو مدير شركة فقط؛ بل تعني -بالدرجة الأولى- سقوط جزء من صورته بوصفه رئيسًا “يحارب الأوليغارش”. فبعض الأشخاص الذين ذُكرت أسماؤهم في التحقيقات الصحفية والبرلمانية هم من نفس الدائرة الاقتصادية-الإعلامية التي انطلق منها هو نفسه، وهذا يقود إلى سؤال جوهري: هل استطاع فعليًّا أن يقطع مع الماضي، أم أنه نقل الشبكة من خلف الكواليس إلى واجهة السلطة؟
بعد أحداث “الميدان” عام 2014، وُلدت في أوكرانيا منظومة متخصصة لمكافحة الفساد: مكتب للتحقيق، ونيابة خاصة، ومحكمة مختصة. هذه المؤسسات، بدعم مباشر من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حصلت على صلاحيات لم يكن من الممكن تخيّلها في دول ما بعد السوفيت قبل عقدين.
على الورق، زيلينسكي دعم هذه المؤسسات، وفي خطابه الدولي كثيرًا ما يذكّر بأنها “دليل على التحوّل الديمقراطي في أوكرانيا”، لكن العلاقة في التطبيق العملي أكثر تعقيدًا:
هذه اللعبة المزدوجة -دعم علني وضغط خفي- تكشف أن زيلينسكي لا يرى في مؤسسات مكافحة الفساد سلطة مستقلة يجب احترامها دائمًا؛ بل أداة يمكن تقريبها أو إبعادها وفقًا للحاجة السياسية،
وهذا بالضبط ما يضرب مصداقية خطابه أمام الرأي العام الواعي في الغرب: أي مشروع جدّي للإصلاح لا يمكن أن يبنى على استقلال مشروط للأجهزة الرقابية.
اليوم يمكن الحديث عن صورتين متوازيتين لزيلينسكي:
التناقض بين الصورتين هو ما يخلق الآن حرجًا حقيقيًّا لحلفائه؛ فمن جهة، هم بحاجة إليه بوصفه رمزًا سياسيًّا وعاطفيًّا لحشد الرأي العام الغربي، ومن جهة أخرى لا يستطيعون تجاهل الوقائع المتراكمة عن الفساد وسوء الإدارة في كييف.
كلما طال أمد الحرب صار السؤال عن الفساد أكثر إلحاحًا: ليس فقط في الصحافة، بل في برلمانات الدول المانحة نفسها، حيث بدأ بعض النواب يقولون صراحة: “نحن لا نمول أوكرانيا؛ نحن نمول نظامًا لا نعرف إلى أي مدى يمكن الوثوق به”.
الوجه الأخطر لقضايا الفساد في أوكرانيا هو أنها لم تعد مجرد شأن داخلي؛
فالملفات المتراكمة تحوّلت إلى نقطة ضغط إستراتيجية يمكن لكل الأطراف استخدامها:
قوى سياسية في الغرب ترفض استمرار ضخ المساعدات، تجد في هذه الملفات ذخيرة جاهزة لموقفها. خصوم أوكرانيا يستغلونها لإظهار أن الحرب ليست صراعًا بين “ديمقراطية” و”دكتاتورية”، بل بين نظامين، كلاهما محمّل بمشكلاته الداخلية. حتى داخل أوكرانيا، يمكن لأي جناح داخل النخبة أن يستخدم معلومات عن ملفات فساد ضد جناح آخر في لحظة صراع على السلطة، أو على شروط التسوية مع الخارج، وفي قلب هذه الشبكة يجلس زيلينسكي: أي تقرير عن فساد كبير في كييف ينعكس مباشرة على صورته.
هو لم يعد قادرًا على الاختباء خلف خطاب “أنا فقط أقاتل”؛ لأن العالم يرى اليوم أن جزءًا من المعركة الحقيقية يدور في داخل مؤسسات الدولة نفسها، ضد شبكات الفساد التي استغلّت الحرب لتثبيت مواقعها أكثر فأكثر.
الاستنتاجات
قد يربح زيلينسكي بعض النقاط في معارك الإعلام والدبلوماسية، لكن المعركة التي ستحدّد مكانه في التاريخ ليست فقط تلك التي تُخاض على الجبهات؛ بل تلك التي تُخاض داخل أوكرانيا ضد الفساد.
حتى الآن، كل المؤشرات تقول إن الرجل لم ينجح في تحقيق القطيعة التي وعد بها:
لهذا، فإن قضايا الفساد في أوكرانيا اليوم لا تضعف الدولة فحسب؛ بل تضرب زيلينسكي نفسه في الصميم؛ لأنها تنسف الأساس الأخلاقي لخطابه أمام شعبه والعالم.
وإذا كان يريد فعلًا أن يثبت أنه مختلف عمّن سبقوه، فلن يكفيه أن يرتدي الزي العسكري، أو يُلقي الخطب في البرلمانات؛ بل عليه أن يواجه -بجدية- أسئلة المال والسلطة، وأن يسمح بفتح كل الملفات إلى نهايتها، حتى لو كانت نهايتها داخل دائرته القريبة.
إلى أن يحدث ذلك، ستبقى “قضايا الفساد في أوكرانيا” سيفًا مُصلتًا على رقبته، ومصدر شك في كل ما يقوله عن الديمقراطية، والحرية، والشفافية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير