في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتعيد فيه القوى الإقليمية والدولية رسم تحالفاتها وشبكاتها الاقتصادية، تبرز العلاقات العمانية الروسية بوصفها نموذجًا فريدًا من نوعه في الدبلوماسية الحديثة. إنها علاقة لم تقم على شعارات مؤقتة، أو تحالفات ظرفية؛ بل تشكلت بهدوء ومنهجية منذ أكثر من أربعة عقود، وتوسعت تدريجيًّا لتشمل السياسة، والاقتصاد، والدفاع، والثقافة، والطاقة.
عُمان، الدولة ذات التاريخ الدبلوماسي العميق، والحكمة السياسية الهادئة، وروسيا، الدولة ذات الطموح العالمي والمكانة الكبرى، وجدت كل منهما في الأخرى شريكًا يمكن الوثوق به، بعيدًا عن الضغوط والاستقطاب العالمي. وفي وقت تتعرض فيه العلاقات الدولية للاستقطاب والاحتقان، تأتي العلاقات العمانية الروسية لتعكس نهجا عقلانيًّا ومتوازنًا، مبنيًا على مبدأ “الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة”.
بدأت العلاقات العمانية الروسية رسميا في 26 سبتمبر (أيلول) 1985، حين قررت سلطنة عمان والاتحاد السوفيتي إقامة علاقات دبلوماسية كاملة. كان ذلك في فترة الحرب الباردة، حين كانت منطقة الخليج منقسمة إلى معسكرات، وكان معظم دولها يدور في الفلك الأمريكي. أما عمان فاختارت منذ بدايات نهضتها الحديثة في عهد السلطان قابوس بن سعيد أن تبني علاقات متوازنة مع الجميع، دون انحياز مطلق.
افتُتحت السفارة السوفيتية في مسقط عام 1987، وسرعان ما تحولت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991 إلى سفارة الاتحاد الروسي، بعد أن اعترفت عمان رسميًّا بروسيا خلفًا قانونيًّا للسوفيت.
خلال التسعينيات، ورغم محدودية التبادل التجاري، كانت العلاقات السياسية تتطور بهدوء. فُتحت قنوات التشاور السياسي، ووُقِّعَت اتفاقية التعاون التجاري والفني والاقتصادي في منتصف التسعينيات، وهو ما مهّد لتوسيع التعاون في العقود اللاحقة.
شهدت بداية القرن الحادي والعشرين نقلة نوعية في العلاقات، خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي عام 2001، التي وضعت إطارًا للتدريب والتنسيق العسكري بين البلدين. كما وُقِّعَت اتفاقيات لتشجيع الاستثمارات وحمايتها في عام 2010؛ مما عزز ثقة القطاع الخاص في كلا الجانبين.
ارتفع حجم التبادل التجاري تدريجيًّا؛ إذ تجاوز لأول مرة حاجز عشرة ملايين دولار عام 2010، وقفز إلى أكثر من ثمانين مليون دولار عام 2014. شملت الصادرات العمانية إلى روسيا المنتجات المعدنية والكيميائية، في حين تمثلت الواردات الروسية في الحديد والأخشاب والحبوب. ولم يقتصر هذا التوسع على الجانب الاقتصادي فحسب؛ بل شمل أيضًا المجالات الثقافية؛ ففي عام 2013 زار وفد من متحف الإرميتاج الروسي المتحف الوطني في مسقط، ونُظمت معارض متبادلة سلطت الضوء على التاريخين العماني والروسي؛ مما عمّق العلاقات الثقافية بين البلدين.
في الفترة بين عامي 2015 و2021، شهد العالم تحولات كبرى، منها: التدخل الروسي في سوريا، وتصاعد التوترات الروسية الغربية، وموجات من الاضطرابات في المنطقة، لكن في ظل هذه العواصف، واصلت العلاقات العمانية الروسية مسارها التصاعدي بثبات.
في فبراير (شباط) 2015، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مسقط، في زيارة مهمة تناولت الأزمات الإقليمية والتعاون الثنائي، وأشادت روسيا خلال الزيارة بدور عمان في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الإقليميين، لا سيما في الملفين اليمني والإيراني.
وفي عام 2018، استضافت روسيا “يوم عمان” في متحف الهيرميتاج، في حين نظمت عمان “يوم روسيا” في المتحف الوطني بمسقط عام 2019. هذه الفعاليات الثقافية عكست رغبة الجانبين في الانتقال من علاقات تقليدية إلى تفاعل حضاري شامل.
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، واجهت موسكو ضغوطًا اقتصادية وسياسية غير مسبوقة من الغرب، وبدأت روسيا تبحث بجدية عن شركاء في آسيا والخليج وإفريقيا، وكان لعمان -بسياساتها المستقلة والمتزنة- مكانة خاصة في هذه الحسابات.
في مايو (أيار) 2022، زار وزير الخارجية الروسي مسقط مجددًا، حيث ناقش مع نظيره العماني التعاون في مجال الطاقة والمناخ، بالإضافة إلى مستقبل الأمن الإقليمي. وفي العام نفسه، ازدادت التجارة الثنائية بنسبة كبيرة، وسجّلت 346 مليون دولار بحلول نهاية 2024.
كما شاركت عمان في منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، حيث نُظمت ندوات بعنوان “عُمان بوابة لروسيا نحو الخليج”، وهو ما يدل على بدء تكامل اقتصادي حقيقي، لا سيما مع مشروعات مثل ممر الشمال- الجنوب، وخطط الربط اللوجستي عبر ميناء الدقم.
في العام الحالي، وصلت العلاقات العمانية الروسية إلى مرحلة جديدة ومختلفة كليًّا؛ فمع زيارة السلطان هيثم بن طارق إلى موسكو، تم التمهيد لتوقيع 10 اتفاقيات، تشمل:
إعفاء التأشيرات لمواطني البلدين.
إنشاء اللجنة الحكومية المشتركة.
اتفاقيات في مجالات المناخ، والطاقة، والأسماك، والإعلام، والتعليم، والنقل البحري.
هذه الاتفاقيات ليست رمزية؛ بل تعكس توجهًا إستراتيجيًّا حقيقيًّا لبناء شراكة طويلة الأمد. ومع إنشاء اللجنة المشتركة، ستكون هناك متابعة دورية لكل المشروعات؛ ما يجعل التعاون أكثر فاعلية، ويمنع التباطؤ الإداري الذي شهدته بعض المشروعات في السابق.
من جهة أخرى، فإن ميناء الدقم العماني بات يحظى باهتمام روسي متزايد؛ إذ يمثل نقطة لوجستية مهمة لتصدير المنتجات الروسية إلى الخليج والهند وإفريقيا، بعيدًا عن الممرات التقليدية الخاضعة للتقلبات السياسية.
رغم الزخم الكبير، تواجه الشراكة العمانية الروسية عدة تحديات، منها:
العقوبات الغربية
النظام المصرفي الروسي يعاني عزلة نسبية؛ ما قد يصعّب عمليات التحويل المالي، لكن هناك توجهات لتفعيل نظام دفع بديل، مثل نظام تحويل الرسائل المالية، أو استخدام عملات محلية.
المنافسة الإقليمية
الإمارات والسعودية تحاولان استقطاب الاستثمارات الروسية من خلال تقديم حوافز مغرية؛ ما يفرض على عمان تعزيز بيئة الاستثمار، وتقديم امتيازات منافسة.
تفاوت الإطار القانوني
يواجه المستثمرون الروس بعض التحديات في فهم القوانين المحلية في عمان وتطبيقها، والعكس كذلك؛ ما يتطلب إطارًا قانونيًّا واضحًا ومشتركًا.
لكن في المقابل، هناك فرص واعدة، منها:
الطاقة الخضراء
التعاون في مجالات مثل الهيدروجين الأخضر، والطاقة النووية الصغيرة، قد يفتح أبوابًا جديدة للتكنولوجيا والاستثمار.
التكامل اللوجستي
خط أستراخان- الدقم يمكن أن يغير قواعد التجارة بين روسيا وجنوب آسيا.
التبادل العلمي والثقافي
ارتفاع عدد الطلاب العمانيين في الجامعات الروسية، وتوسيع برامج المنح واللغة، يعزّز التقارب الشعبي والثقافي.
العلاقات العمانية الروسية تشكّل مثالًا يُحتذى به في السياسة الخارجية الحديثة؛ فهي ليست علاقة قائمة على رد الفعل أو المصالح الضيقة؛ بل على رؤية إستراتيجية مدروسة، تراعي توازنات الإقليم، وتحترم إرادة كل طرف في أن يكون مستقلًا وقويًّا.
لقد أثبتت عمان -بفضل قيادتها الحكيمة- أنها قادرة على بناء علاقات متوازنة مع الشرق والغرب، دون أن تفقد مكانتها أو خصوصيتها. وروسيا، بقدراتها الاقتصادية والتقنية والعسكرية، تدرك أهمية وجود شريك عربي موثوق به في منطقة إستراتيجية كمنطقة الخليج.
في زمن تغلب عليه الأزمات والانقسامات، يبدو أن العلاقات العمانية الروسية قادرة على أن تمثّل نموذجًا مضيئًا لتعاون الدول، وتنمية مصالحها، والحفاظ على سيادتها، دون أن تقع في فخ الهيمنة أو التبعية.
بهذا، لا تمثل زيارة سلطان عمان إلى موسكو مجرد محطة رسمية؛ بل إعلان انطلاق مرحلة جديدة من التعاون الحقيقي، مرحلة عنوانها: الاستقرار، والتنمية، والشراكة المتبادلة بعمق وثقة.
ترسخت الشراكة العمانية الروسية اليوم بوصفها نموذجًا متكاملًا للتعاون الهادئ القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المتوازنة؛ فمنذ إقامة العلاقات الدبلوماسية في السادس والعشرين من سبتمبر (أيلول) عام 1985 تطورت الروابط بين مسقط وموسكو بهدوء، لتبلغ في العام الجاري 2025 مرحلة توقيع عشر اتفاقيات جوهرية، تشمل الإعفاء المتبادل من التأشيرات، وإنشاء لجنة حكومية مشتركة، وتوسيع التعاون في مجالات الطاقة والمناخ والثروة السمكية والتعليم والنقل البحري والإعلام. ويعد ميناء الدقم محورًا لوجستيًّا أساسيًّا في هذه الرؤية؛ إذ يربط روسيا بأسواق الخليج والهند وشرق إفريقيا عبر ممر الشمال- الجنوب، ويحميها من تقلبات الممرات التقليدية. في المقابل، تمنح سياسة الحياد العمانية موسكو منفذًا مؤثرًا إلى شؤون المنطقة، بعيدًا عن صراعات المحاور، في حين تكسب السلطنة شريكًا قادرًا على موازنة الضغوط الدولية، وتحفيز التنمية الوطنية. إن التوجه إلى مشروعات الطاقة المتجددة، مثل الهيدروجين الأخضر، والمفاعلات النووية الصغيرة، يوطد المصالح المشتركة عقودًا مقبلة، وينقل التعاون من تصدير النفط والغاز إلى شراكة تقنية رفيعة. يظل التحدي الأبرز في العقوبات الغربية التي تعوق التحويلات المالية؛ ما يستدعي تفعيل نظام دفع روسي بديل، والتسريع في وضع إطار قانوني ثنائي يحمي المستثمرين، ويسهل تسوية المنازعات. إلى جانب ذلك، تعزّز القوة الناعمة، من برامج المنح الدراسية وتبادل المعارض المتحفية إلى تعليم اللغة، التقارب الشعبي، وتحصن العلاقة ضد التقلبات السياسية. وإذا نجحت اللجنة المشتركة في تحويل الاتفاقيات إلى سلاسل قيمة إقليمية تدمج استثمارات روسيا في المنطقة الحرة في الدقم، وفي أسواق جنوب آسيا وإفريقيا، فستتحول الشراكة العمانية الروسية إلى عقدة محورية في الاقتصاد الأوراسي الصاعد، مقدمة دليلًا عمليًّا على أن التعاون المتكافئ قادر على الازدهار، ولو في عالم يزداد انقسامًا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.