مع فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، تزداد التساؤلات عن مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، وخاصةً في ظل الأزمة الأوكرانية المستمرة. تُعد هذه العلاقات من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا على الساحة الدولية؛ إذ تتداخل فيها المصالح الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية لكلا البلدين. تعكس هذه المرحلة الحرجة فرصةً للجانبين لإعادة ضبط العلاقات، وبناء جسور الثقة من جديد، لكن هذا المسار لن يكون خاليًا من التحديات.
على مدى العقود الماضية، مرت العلاقات الروسية الأمريكية بتقلبات حادة، من التعاون إلى التوتر ثم المواجهة. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، شهدت العلاقات بين موسكو وواشنطن فترة من الانفتاح والتعاون، حيث سعت الولايات المتحدة إلى دعم التحول الديمقراطي والاقتصادي في روسيا، لكن مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في أواخر التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، بدأت هذه العلاقات تأخذ منحًى مختلفًا، إذ سعى بوتين إلى تعزيز سيادة روسيا، واستعادة نفوذها على الساحة الدولية، وهو ما اصطدم في كثير من الأحيان بالمصالح الأمريكية.
تفاقمت التوترات بين البلدين على نحو ملحوظ بعد أزمة أوكرانيا في عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وهو ما رأته الولايات المتحدة انتهاكًا للقانون الدولي. تبع ذلك فرض عقوبات اقتصادية غربية على روسيا؛ مما أدى إلى تدهور العلاقات الثنائية. خلال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تصاعدت حدة التوترات بين البلدين، خاصةً بعد اندلاع النزاع الأوكراني الروسي الشامل في فبراير (شباط) 2022. أدت هذه الأحداث إلى فرض عقوبات إضافية، وتوترات دبلوماسية متزايدة، واستمرار سباق التسلح.
مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، ظهرت آمال في إمكانية تخفيف حدة التوترات بين روسيا والولايات المتحدة. يعرف عن ترمب ميله إلى تبني سياسات مختلفة عن الإدارات الأمريكية التقليدية، حيث يفضل الحوار المباشر والاتفاقيات الثنائية التي تركز على المصالح المشتركة. في هذا السياق، تعهد ترمب بالسعي إلى إيجاد حل للأزمة الأوكرانية من خلال نهج جديد يعتمد على الحوار والتنازلات المتبادلة بين الأطراف المعنية.
تجميد النزاع والاعتراف بالسيطرة الروسية على بعض المناطق
أولى خطوات خطة ترمب لحل الأزمة الأوكرانية تتمثل في تجميد النزاع المستمر بين روسيا وأوكرانيا. هذا التجميد يعني فعليًّا الاعتراف بسيطرة روسيا على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية، وهي المناطق التي ضمّتها روسيا بعد النزاع. يعد تجميد الحرب جزءًا أساسيًّا من استعادة الاستقرار، وتخفيف الأعباء الإنسانية الناجمة عن استمرار القتال. تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن تجميد النزاعات غالبًا ما يشكل الخطوة الأولى نحو التوصل إلى حل مستدام، إذ يتيح للأطراف فرصة لتقييم مواقفهم، وتجاوز حالة التصعيد المستمر.
أحد التحديات الرئيسة أمام هذا المقترح هو مدى قبول المجتمع الدولي لتجميد النزاع دون معالجة مسألة السيادة الوطنية لأوكرانيا. وتشير الأدبيات الأكاديمية إلى أن هذا النوع من الحلول قد يؤدي -في بعض الأحيان- إلى تجميد الصراع مؤقتًا؛ مما قد يخلق ظروفًا ملائمة لاستئناف القتال في المستقبل.
التخلي المؤقت لأوكرانيا عن عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)
في خطوة نحو تخفيف التوترات بين روسيا والغرب، اقترحت إدارة ترمب أن تتخلى أوكرانيا مؤقتًا عن نيتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لمدة 20 عامًا. هذه الخطوة تهدف إلى إزالة واحد من أبرز دوافع الصراع، حيث ترى روسيا أن توسع الناتو باتجاه حدودها تهديد وجودي لأمنها القومي. تشير الأدبيات الأكاديمية إلى أن تجميد أو التخلي عن محاولات الانضمام إلى تحالفات عسكرية غالبًا ما يُستخدم وسيلةً لتهدئة الصراعات الإقليمية، لكن هذا الأمر يتطلب تقديم ضمانات قوية للأطراف المتضررة.
من وجهة نظر بعض المحللين، يمكن لهذه الخطوة أن تعطي روسيا نوعًا من الضمان بأن حدودها الغربية لن تكون محاطة بتحالف عسكري معادٍ. في المقابل، فإن التخلي عن عضوية الناتو يمكن أن يُضعف موقف أوكرانيا الإقليمي، ويفقدها الدعم الدبلوماسي والعسكري الذي يُعد عامل ردع أمام أي تحركات عدائية مستقبلية.
دعم الولايات المتحدة العسكري لأوكرانيا مقابل التخلي عن عضوية الناتو
في المقابل، تعهدت الولايات المتحدة بمواصلة دعمها العسكري لأوكرانيا، على الرغم من التخلي المؤقت عن عضوية الناتو. الهدف من هذا الدعم هو تمكين أوكرانيا من الدفاع عن نفسها، ومنع روسيا من القيام بعمليات هجومية مستقبلية. يتجلى هنا أن إدارة ترمب سعت إلى تحقيق نوع من التوازن بين الحفاظ على أمن أوكرانيا، ومنع مزيد من التوسع الروسي، دون الدخول في التزامات رسمية قد تؤدي إلى تصعيد مباشر بين الناتو وروسيا.
إدارة منطقة منزوعة السلاح بمسافة 1300 كيلومتر
تضمنت خطة ترمب إنشاء منطقة منزوعة السلاح يبلغ طولها نحو 1300 كيلومتر، على أن تتولى كل من روسيا وأوكرانيا إدارة هذه المنطقة على نحو مشترك، دون تدخل مباشر من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أو الولايات المتحدة. يشير هذا الاقتراح إلى محاولة تجنب مزيد من التدخلات الدولية التي قد تؤدي إلى تعقيد الأوضاع الميدانية. يرى كثير من الأكاديميين أن إقامة مناطق منزوعة السلاح يمكن أن تساعد على تقليل حدة التوترات، ومنع تصاعد النزاعات، لكنه يتطلب التزامًا صادقًا من الجانبين، وضمانات بعدم العودة إلى التصعيد.
ردود الفعل الدولية تجاه خطة ترمب
أثار إعلان هذه الخطة ردود فعل متباينة على الساحة الدولية؛ ففي روسيا، رحب بعض المسؤولين بإمكانية إعادة ضبط العلاقات مع واشنطن، ورأوا في هذه الخطوة فرصةً لتحقيق مصالح روسيا الإستراتيجية دون اللجوء إلى مزيد من التصعيد العسكري. في المقابل، أبدت أوكرانيا تحفظها على بعض بنود الخطة، وخاصة فيما يتعلق بالاعتراف بسيطرة روسيا على أجزاء من أراضيها، والتخلي عن مساعيها للانضمام إلى الناتو.
أما على الصعيد الأوروبي، فقد انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض؛ فبعض الدول الأوروبية، خاصة تلك التي تخشى من توسع النفوذ الروسي، أبدت تحفظها على هذه الخطة، ورأت فيها تنازلًا كبيرًا لروسيا قد يهدد استقرار المنطقة، في حين اعتبرت دول أخرى أن أي خطوة نحو التهدئة ووقف النزاع يمكن أن تكون مفيدة للأمن الأوروبي عامةً.
مع أن خطة ترمب تحمل عناصر قد تسهم في تهدئة الأوضاع وفتح قنوات للحوار، فإنها تواجه تحديات كبيرة قد تعوق تنفيذها، منها:
المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة
قد يواجه ترمب معارضة قوية من الكونغرس، والمؤسسات السياسية الأخرى في الولايات المتحدة، حيث يرى بعض السياسيين أن الخطة تتضمن تنازلات كبيرة لروسيا، وقد تقوّض النفوذ الأمريكي في أوروبا.
موقف الاتحاد الأوروبي
الاتحاد الأوروبي هو لاعب أساسي في الأزمة الأوكرانية، وقد يعارض بعض أعضائه أي اتفاق يتضمن تنازلات لروسيا دون ضمانات واضحة لأوكرانيا. كما أن مسألة العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا قد تظل عائقًا أمام تحسين العلاقات.
التنفيذ العملي على الأرض
إدارة منطقة منزوعة السلاح بين روسيا وأوكرانيا قد تواجه صعوبات كبيرة، خاصةً في ظل انعدام الثقة بين الطرفين. كما أن عدم وجود قوات حفظ سلام دولية للإشراف على هذه المنطقة قد يؤدي إلى مشكلات في التنفيذ وضمان الاستقرار.
الآفاق المستقبلية للعلاقات الروسية الأمريكية
يمكن لخطة ترمب إذا نُفِّذَت بنجاح أن تفتح فصلًا جديدًا في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، إذ يمكن أن تؤدي إلى تخفيف حدة التوترات، وإعادة بناء الثقة بين البلدين. ومع ذلك، فإن هذه الخطة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على إرادة الأطراف المعنية، وقدرتها على تقديم التنازلات اللازمة لتحقيق السلام.
من جهة أخرى، فإن أي فشل في تنفيذ الخطة، أو العودة إلى التصعيد، قد يؤدي إلى تدهور أكبر في العلاقات، ويزيد من احتمالات اندلاع صراع أوسع في المنطقة؛ لذلك فإن النجاح في تنفيذ هذه الخطة يتطلب التزامًا جادًا من جميع الأطراف، ودعمًا دوليًّا لضمان استدامة أي اتفاق يتم التوصل إليه.
الخلاصة
تحمل خطة ترمب لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا، وحل الأزمة الأوكرانية، فرصًا وتحديات في آن واحد؛ فمن جهة، يمكن لهذه الخطة أن تؤدي إلى تخفيف حدة التوترات، وفتح قنوات دبلوماسية جديدة، ومن جهة أخرى، فإنها تتطلب تقديم تنازلات صعبة من جميع الأطراف المعنية.
إن نجاح هذه الخطة يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على قدرة الأطراف على تجاوز خلافاتها، والعمل معًا لتحقيق استقرار طويل الأمد. قد يكون فتح قنوات الحوار المباشر بين موسكو وواشنطن خطوة إيجابية نحو تحسين العلاقات الثنائية، لكن ذلك لن يكون كافيًا ما لم يكن هناك التزام حقيقي بحل النزاعات القائمة، وضمان مصالح جميع الأطراف على نحو عادل ومستدام.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.