مقالات المركز

العلاقات الإماراتية- الباكستانية.. زيارة في لحظة اضطراب الشرق الأوسط


  • 29 ديسمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: skynewsarabia

في 26 ديسمبر (كانون الأول) 2025، وصل الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى إسلام آباد في زيارة رسمية هي الأولى له إلى باكستان بصفته رئيسًا للدولة. هذه الزيارة جاءت بدعوة من رئيس الوزراء الباكستاني محمد شهباز شريف، وحملت دلالات عميقة على مستوى العلاقات الثنائية والإقليمية، خاصة في ظل الاضطرابات الشديدة في غرب آسيا. وصل الشيخ محمد بن زايد إلى قاعدة نور خان الجوية في راولبندي، حيث كان في استقباله رئيس الوزراء شهباز شريف، ونائبه إسحاق دار، وقائد الجيش المشير عاصم منير، إلى جانب وزراء كبار ومسؤولين. رافق طائرة الرئيس الإماراتي سرب من طائرات JF-17 الباكستانية عند دخولها الأجواء الباكستانية؛ رمزًا للترحيب.

عقد لقاء ثنائي بين الشيخ محمد بن زايد وشهباز شريف، حضره من الجانب الباكستاني المشير عاصم منير. وركزت المحادثات على تعزيز التعاون الاقتصادي، والاستثمار، والطاقة، والبنية التحتية، والتكنولوجيا، والتبادل الشعبي. أكد البيان المشترك “تعزيز الروابط الأخوية التاريخية”، و”الشراكة الإستراتيجية”. وتعود العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وباكستان إلى عقود طويلة، حيث أقيمت العلاقات الدبلوماسية فور استقلال الإمارات عام 1971. كانت باكستان من أوائل الدول التي اعترفت بالإمارات، وتطورت العلاقات إلى شراكة إستراتيجية عميقة. يعيش في الإمارات أكثر من 1.8 مليون باكستاني، يسهمون إسهامًا كبيرًا في الاقتصاد الإماراتي، ويحوّلون تحويلات مالية تصل إلى مليارات الدولارات سنويًّا؛ مما يجعل الإمارات مصدرًا مهمًّا للدخل الأجنبي لباكستان.

في السنوات الأخيرة، تجاوز حجم التجارة الثنائية 10 مليارات دولار، مع استثمارات إماراتية كبيرة في باكستان، خاصة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية. أما دفاعيًّا، فقد تعاون البلدان في تدريبات عسكرية مشتركة، ودعمت الإمارات باكستان في أزمات اقتصادية متعددة. ومع ذلك، شهدت العلاقات تقلبات، مثل انتقاد الإمارات موقف باكستان المحايد في حرب اليمن عام 2015، لكن العلاقات تعافت سريعًا، خاصة مع اتفاقيات استثمارية جديدة عام 2019 وما بعده. في 2025، تأتي الزيارة في سياق تعزيز الإمارات لدورها الإقليمي بوصفها وسيطًا وشريكًا اقتصاديًّا، في حين تسعى باكستان إلى جذب استثمارات خليجية لدعم اقتصادها المتعثر. هذه الزيارة الثانية للشيخ محمد بن زايد إلى باكستان هذا العام (بعد لقاء غير رسمي في يناير)، لكنها الأولى الرسمية، مما يبرز أهميتها.

يُمكن تحليل زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى باكستان في بُعدها النظري من أجل فهم أدق بعيدًا عن انعكاسات الصراعات الإقليمية التي قد تشوش بعض القراءات السياسية في لحظات الاستقطاب الحادة، وإخضاع الزيارة لنظريات العلاقات الدولية -خاصة الواقعية- ونظرية توازن القوى، بما يوضح دلالات هذا الحدث الدبلوماسي إزاء الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، لا سيما أن الواقعية تعتمد على افتراض أن النظام الدولي فوضوي، حيث تسعى الدول إلى تعظيم قوتها النسبية وأمنها من خلال التحالفات والتوازن ضد التهديدات، بدلًَا من الاعتماد على المؤسسات الدولية، أو القيم المشتركة.

من منظور الواقعية الكلاسيكية -كما صاغها هانس مورغنثاو في كتابه “سياسة بين الأمم”- تسعى الدول إلى القوة بوصفها غاية في ذاتها، مدفوعة بطبيعة بشرية تسعى إلى الهيمنة والأمن. والإمارات، بوصفها دولة متوسطة القوة، تعتمد على الدبلوماسية الاقتصادية والتحالفات لتعزيز نفوذها، خاصة في ظل تراجع الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة تحت إدارة ترمب الثانية. أما باكستان، فتسعى إلى دعم اقتصادي واستثماري من الخليج لمواجهة تحدياتها الداخلية، مع الحفاظ على قدراتها العسكرية النووية كعامل ردع غير مباشر. أما النيو- واقعية -كما في أعمال كينيث والتز في أصول التحالفات- فتركز على “توازن التهديدات” بدلًا من توازن القوى البحت. التهديدات هنا ليست المادية فقط؛ بل تشمل القرب الجغرافي، والنيات المتصورة، والقدرات الهجومية.

تعود نظرية توازن القوى إلى الكلاسيكيين مثل مورغنثاو، وتُعد التحالفات وسيلة للحفاظ على توازن يمنع هيمنة دولة واحدة. في الشرق الأوسط، الذي يُوصف بأنه نظام متعدد الأقطاب مع قوى إقليمية متنافسة (إيران، وتركيا، وإسرائيل، والسعودية، والإمارات)، تسهم الشراكة الإماراتية- الباكستانية في تشكيل محور خليجي- آسيوي يوازن المحور الإيراني، أو النفوذ التركي والإسرائيلي المُتصاعد. كما يشير غريغوري غوز في دراسته عن “التوازن في الخليج”، غالبًا ما تفشل التحالفات المضادة لإيران بسبب الخلافات الداخلية، لكن التقارب الحالي -مدعومًا باتفاقات اقتصادية وأمنية- يعكس جهودًا لتنويع التحالفات بعيدًا عن الاعتماد الأمريكي. ومن منظور نيو- كلاسيكي واقعي، كما في أعمال راندال شولر عن “توازن المصالح”، يدمج التحليل العوامل الداخلية مثل أمن النظام.

في باكستان، يعزز دور الجيش في السياسة الخارجية الثقة مع الإمارات، في حين تسعى أبو ظبي إلى تنويع شركائها لمواجهة التهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب والاضطرابات الإقليمية. ويعكس حضور قائد الجيش عاصم منير في الاستقبال والمحادثات “الواقعية الهجومية”، كما يصفها جون ميرشايمر، حيث تسعى الدول إلى تعظيم قوتها النسبية. باكستان تستفيد من الدعم الإماراتي في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، في حين يمكنها توفير قدرات عسكرية متقدمة. هذا التقارب يأتي في سياق اتفاق دفاعي سعودي- باكستاني في سبتمبر (أيلول) 2025، يُعتبر أي هجوم على أحدهما هجومًا على الآخر، مما يعزز الردع ضد التهديدات المتعددة في الإقليم (جاءت الاتفاقية بعد الضربة الإسرائيلية في قطر).

تتبع الإمارات سياسة خارجية براغماتية تهدف إلى التوازن بين الهند وباكستان. دول الخليج، ومنها الإمارات والسعودية، تسعى إلى الحفاظ على علاقات قوية مع كلا البلدين لأسباب اقتصادية وأمنية، مع مراقبة نيودلهي لأي تعاون خليجي- باكستاني يحمل أبعادًا أمنية. زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى باكستان، التي ركزت على الجوانب الاقتصادية (التجارة، والاستثمار، والطاقة)، تأتي كجزء من هذا التوازن، ولم تُسجل ردود فعل سلبية رسمية من الهند تجاه الزيارة، مما يعكس قبول نيودلهي لهذا التوازن، ما دام لا يمس مصالحها الأمنية، بل إن الإمارات أدت دورًا في تهدئة التوترات بين الهند وباكستان في السنوات السابقة، كما شكر رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف الإمارات في يونيو (حزيران) 2025 على جهودها في تعزيز الحوار والاستقرار الإقليمي بين البلدين.

وبالرغم من تحول العلاقات الإماراتية- الهندية إلى شراكة إستراتيجية شاملة منذ 2017، مع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) في 2022 التي دفعت حجم التجارة إلى أكثر من 80 مليار دولار في 2025، فالإمارات هي شريك تجاري رئيس للهند، مع استثمارات إماراتية تصل إلى عشرات المليارات في البنية التحتية والطاقة المتجددة، ووجود أكثر من 3.5 مليون هندي في الإمارات. هذه الشراكة أقوى اقتصاديًّا من تلك مع باكستان، مما يجعل الهند أولوية لأبو ظبي في جنوب آسيا، لكن أبو ظبي تسعى إلى الحفاظ على توازن إستراتيجي بين الجارتين النوويتين، دون الإضرار بأي من الشراكتين.

ويُعد تنويع الشراكات الإستراتيجية إحدى أبرز سمات السياسة الخارجية الإماراتية في العقد الأخير. في نظرية العلاقات الدولية كما يصفها أندرو كوبر في دراسته عن “القوى المتوسطة في عالم متعدد الأقطاب”، تعتمد هذه الدول على “الدبلوماسية المتعددة الأطراف”، والتنويع الإستراتيجي لتعظيم نفوذها النسبي. الإمارات، بفضل موقعها الجغرافي الإستراتيجي، اقتصادها المتنوع، وصناديقها السيادية الضخمة، تُجسد هذا النموذج. ومن خلال تنويع الشراكات في جنوب آسيا، تحافظ الإمارات على علاقات قوية مع باكستان، التي توفر عمقًا عسكريًّا ودفاعيًّا تاريخيًّا، مع تدريبات مشتركة وتعاون في مكافحة الإرهاب، في حين تعمق الشراكة مع الهند. هذا التنويع لا يقتصر على جنوب آسيا؛ فالإمارات توسع شراكاتها مع الصين، وروسيا، وتركيا (رغم الخلافات السابقة والحالية)، وإسرائيل (باتفاقيات إبراهيم)؛ مما يمنحها مرونة في المناورة الجيوسياسية.

تمثل الزيارة إشارة إلى توازن قوى جديد يعتمد على التنويع الإستراتيجي. الإمارات، بوصفها قوة متوسطة، تستخدم “الدبلوماسية الاقتصادية” لتعزيز نفوذها، في حين توفر باكستان عمقًا عسكريًّا. هذا يقلل نفوذ القوى الاقليمية المتنافسة مع أبو ظبي في بعض الملفات، ويعزز الاستقرار النسبي من خلال التنسيق السياسي والأمني. ومع ذلك، كما تحذر الواقعية، فإن التوازن غير مستقر دائمًا؛ فقد يؤدي إلى سباق تسلح أو تصعيد إذا تغيرت التهديدات المتصورة، لكن الزيارة -بتركيزها على التعاون الاقتصادي والتنموي- تعكس واقعية دفاعية تسعى إلى الاستقرار دون هيمنة. ويتيح تنويع الشراكات للإمارات تجنب الوقوع في محور واحد، سواء أكان غربيًّا أم شرقيًّا، ويمنحها نفوذًا في المحافل الدولية. ويفسر إطار الواقعية وتوازن القوى هذه الزيارة بوصفها خطوة إستراتيجية تعزز الأمن المتبادل، وتسهم في توازن إقليمي يواجه التحديات المعقدة في الشرق الأوسط، مع الحفاظ على مصالح الدولتين في نظام دولي فوضوي. لكن برغم النجاحات، يواجه هذا النهج تحديات مثل الحفاظ على التوازن بين مصالح الشركاء المتنافسين، وإدارة الضغوط الخارجية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع