فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الكيانات التي تزود برنامج الصواريخ الباليستية الباكستاني بمواد يمكن استخدامها في صناعة الصواريخ الطويلة المدى. وبحسب بيان رسمي لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن العقوبات شملت ثلاث شركات صينية، وشركة مقرها بيلاروس. وذكر البيان أن “وزارة الخارجية تدرج في قائمة العقوبات أربعة كيانات بموجب المادتين (1/ أ) و(2) من الأمر التنفيذي رقم 13382، الذي يستهدف ناشري أسلحة الدمار الشامل، ووسائل إيصالها”، فيما حذرت الولايات المتحدة باكستان من العقوبات بعد أن وقعت الحكومة في إسلام آباد اتفاقيات أمنية واقتصادية مع إيران خلال زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي للبلاد. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل: “ننصح أي شخص يفكر في عقد صفقات تجارية مع إيران أن يكون على دراية بالمخاطر المحتملة للعقوبات”.
وذكرت وكالة أنباء أسوشيتد برس الباكستانية أن رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، شهدا التوقيع على ثماني اتفاقيات في إسلام آباد، منها إنشاء منطقة اقتصادية خاصة. ويتطلع البلدان إلى إصلاح العلاقات بعد إطلاق كل منهما الصواريخ على الآخر في يناير (كانون الثاني) لاستهداف مخابئ المتشددين على جانبي حدودهما المشتركة. وتتطلع باكستان إلى إحياء مشروع لبناء خط أنابيب للغاز من إيران، تأخر عقودًا بسبب خطر العقوبات من الولايات المتحدة. وفي الشهر الماضي، قال مساعد وزير الخارجية دونالد لو، في جلسة استماع بالكونغرس، عندما سُئل عن خط الأنابيب الباكستاني الإيراني: إن إدارة بايدن ستتمسك بجميع العقوبات المتعلقة بإيران.
خلال الحرب الباردة، اكتسبت باكستان في الإستراتيجية الأمريكية أهمية جيو- إستراتيجية كبيرة؛ حيث ساعدت واشنطن على درء القوى التوسعية الشيوعية في جنوب آسيا. وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة، ظلت حليفًا مهمًّا، وقاعدة متقدمة لقوات التحالف الأمريكية التي تحارب الإرهاب في أفغانستان. مع صعود الصين، وتنامي شراكتها مع باكستان، انخفض اعتماد إسلام آباد على الولايات المتحدة للحصول على الأسلحة والمساعدات المالية إلى حد كبير، وأصبحت العلاقة بين إسلام آباد وواشنطن غير متوازنة، ولكن واشنطن لا تستطيع أن تتجاهل باكستان تمامًا، وفي ضوء أن الولايات المتحدة تحتاج إلى باكستان أكثر من حاجة باكستان إلى الولايات المتحدة، تستخدم واشنطن العقوبات في محاولة لقلب التوازن الإستراتيجي مع باكستان لصالحها، لكن إلى أي مدى يمكن أن تنجح السياسات الأمريكية المُتشددة مع باكستان؟
عام 1965، فرضت الولايات المتحدة عقوبات عسكرية على باكستان بسبب استخدامها المساعدات العسكرية الأمريكية في حربها على الهند، لكن سرعان ما بدأت إسلام آباد بتنويع مصادر السلاح، لا سيما من الصين، التي قدمت مساعدات عسكرية كبيرة، وسهلت توريد الدبابات وأسلحة المشاة، في حين قدّم الاتحاد السوفيتي مساعدات مالية، أما فرنسا فعقدت صفقة مربحة لطائرات “ميراج”. مكّن القرار الباكستاني تنويع الشراكات الإستراتيجية لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، من الشروع على نحو سري في برنامج لامتلاك أسلحة نووية بعد حرب بنغلاديش عام 1971. وكانت ولادة الطموحات النووية الباكستانية في ذاتها بمنزلة ضربة قوية لفعالية العقوبات الأمريكية وأهدافها. مع أن باكستان لم تُجرِ المجموعة الأولى من التجارب النووية إلا عام 1998، فإن التقدم في أجندتها النووية استمر في شكل تجارة اليورانيوم المخصب مع الصين، وبناء محطات نووية.
خلال سنوات الحرب الباردة، وبالرغم من فرض عقوبات أمريكية على باكستان، لم تكن واشنطن ترغب في تطبيقها؛ لأن إسلام آباد كانت تؤدي دور قناة أمريكية- صينية لوقف أي توسع سوفيتي، واصلت الولايات المتحدة نقل الإمدادات العسكرية إلى باكستان بوسائل غير قانونية، وسهلت بيع طائرات مقاتلة من خلال أطراف ثالثة، مثل إيران، والأردن. وأعلنت الولايات المتحدة أن الهند هي الطرف المعتدي خلال حرب 1965 بين باكستان والهند؛ وذلك لأن نيودلهي كانت حليفة للسوفيت. ومع ظهور العقوبات الاقتصادية والعسكرية استنادًا إلى تعديل سيمينغتون عام 1977، حظرت الولايات المتحدة المساعدات الاقتصادية للهند وباكستان، لكن وزارة الخارجية واصلت تقديم 50 مليون دولار أمريكي لباكستان سنويًّا، إلى جانب برنامج كبير للمساعدات الغذائية.
شهد عام 1979 عقوبات أمريكية جديدة على باكستان فيما يتعلق بشراء وحدات معالجة لمشروعها النووي من فرنسا، لكن سرعان ما رُفعت جميع العقوبات بسبب بداية الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكان هذا سببًا في اتخاذ واشنطن منعطفًا إستراتيجيًّا كاملًا، بعد أن أصبحت المساعدة الباكستانية أمرًا لا غنى عنه لها، ثم تحولت إسلام آباد إلى ملف خاص بالرئيس الأمريكي والمصالح العليا الأمريكية فيما يتعلق بتطبيق العقوبات المفروضة، وهذا سمح بتدفق مليار دولار سنويًّا من المساعدات الأمريكية، والسماح بالبيع التجاري للمعدات العسكرية. عام 1993، اكتفت الولايات المتحدة بتهديد باكستان بوضعها على قائمة الدول الراعية للإرهاب، دون اتخاذ أي خطوات في هذا الشأن. كما سمحت الولايات المتحدة لصندوق النقد الدولي بإقراض باكستان عام 1998، ليشهد هذا العام ست تجارب نووية ناجحة لإسلام آباد، وكان الرد الأمريكي محدودًا، وعوَّضت إدارة كلينتون باكستان بمبلغ (464) مليون دولار مقابل طائرات مقاتلة من طراز (F-16) بسبب العقوبات التي حالت دون تسليمها.
بعد شهر واحد من فرض العقوبات المرتبطة بالانقلاب العسكري على باكستان عام 1999، التي حظرت في البداية بيع المعدات العسكرية الأمريكية، والمساعدات الاقتصادية، مارس الرئيس الأمريكي سلطة التعطيل الذي سمح لوزارة الزراعة الأمريكية بمواصلة بيع السلع الزراعية لباكستان. كما سمح للبنوك الأمريكية بمواصلة تقديم القروض لباكستان. بالإضافة إلى ذلك، سُمح أيضًا بتقديم المساعدة المالية لباكستان لتمويل برامج التعليم الأساسي. ومرة أخرى، كانت أفغانستان ورقة مهمة في العلاقات الأمريكية- الباكستانية، حيث شهدت أواخر التسعينيات مرحلة ارتباط إسلام آباد المتزايد بنظام طالبان في أفغانستان، وحتى مع بداية الحرب الأمريكية على الحركة، ظلت باكستان تتمتع بعمق إستراتيجي في أفغانستان.
تاريخيًّا، ثبت فشل تنفيذ الإستراتيجية الأمريكية المتمثلة في محاصرة باكستان من خلال فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية. بمرور الوقت، وجدت باكستان طريقة للتحايل على الإجراءات التنظيمية والحظر الذي تعرضت له؛ مما أدى- على نحو فعال- إلى تقويض فاعلية العقوبات المفروضة. وقد أدى تنويع التحالفات على أساس المصالح الإستراتيجية المشتركة إلى تفاقم مشكلة الافتقار إلى فاعلية العقوبات المفروضة على الدول النووية مثل باكستان، لا سيما أن إسلام آباد خفضت اعتمادها على الولايات المتحدة في الحصول على المساعدات الاقتصادية والعسكرية؛ من خلال إقامة شراكات إستراتيجية مع لاعبين كبار آخرين في العالم، مثل الصين.
إن فاعلية العقوبات وفائدتها تصبح على النحو الأمثل عندما تصدر وتُنفَّذ على نحو متعدد الأطراف، وبالقوة الكاملة للدولة التي تفرضها، والتي تقف وراءها، على غرار ما حدث في كوريا الشمالية، وإيران. وقد يؤدي فرض عقوبات أكثر شمولًا من العقوبات المستهدفة إلى نتائج أفضل فيما يتعلق بفرض الامتثال على الدولة المستهدفة. ومع ذلك، لا يمكن استخدام مثال معين لنظام العقوبات نموذجًا قابلًا للتطبيق عالميًّا، وقد يتطلب التعديل بناءً على المصالح السياقية للدولة التي تفرض العقوبات. بالإضافة إلى ذلك، لم تعد الولايات المتحدة تسيطر على السلطة كما كانت خلال الحرب الباردة، كما تضاءل على مر السنين النفوذ الإستراتيجي الذي كانت تتمتع به ذات يوم على مستوى العالم. وعلى نحو فعال، هناك انخفاض حاد في النفوذ الذي كانت العقوبات الاقتصادية والعسكرية توفره للولايات المتحدة يومًا ما، خاصة في حالة باكستان. وقد أثبتت العقوبات الأمريكية على باكستان عدم جديتها؛ بسبب التنافر بين الأدوات المستخدمة لتفعيل هذه العقوبات وأهدافها الإستراتيجية المتمثلة في الحد من المشروع الصاروخي والنووي الباكستاني، وإقامة تأثير طويل المدى في الديناميكيات الإستراتيجية في بلدان جنوب آسيا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.