مدخل
بالنظر إلى المناطق الشاسعة الممتدة بين سهول أواسط آسيا شرقًا حتى جبال الأورال في عمق روسيا غربًا، نجد أنه لا يوجد اتفاق في أدبيات الجغرافيا السياسية بشأن تعريف محدد لدول آسيا الوسطى، باستثناء الاتفاق على أنها تقع في قلب القارة الآسيوية، إذ تباينت الاتجاهات التي تُحدد تلك المنطقة، التي كانت تُعرف في الماضي ببلاد تركستان الكبرى، ثم انقسمت إلى تركستان الشرقية، وتركستان الغربية، حيث تخضع منطقة تركستان الشرقية الآن للسلطة الصينية، في حين خاضت منطقة تركستان الغربية صراع وجود لا تزال فصوله تدور إلى الآن. ورغم الجدل بشأن حدود منطقة آسيا الوسطى، فإنه لا يوجد أي خلاف على المكانة الإستراتيجية العظمى لتلك الدول التي وضعتها وسط مجموعة من التكتلات السياسية المؤثرة إقليميًّا ودوليًّا.
استمدت تلك البلدان مكانتها من كونها مركزًا إسلاميًّا تاريخيًّا ومعاصرًا مهمًّا، حيث يقطنها ما يزيد على 200 مليون نسمة من المسلمين، ما يفتح باب التساؤل عن المسارات التي مر بها الإسلام هناك وصولًا إلى الحقبة المعاصرة، وكيف أسهمت الجمهوريات الخمس في تشكيل ملامح الحضارة الإسلامية في القارة الآسيوية؟ وكيف حافظت الأقليات العربية بها على خصوصيتها في ضوء الثقافة الآسيوية؟ وما العوامل التي دفعت عرب آسيا الوسطى إلى تقديم نموذج فريد يوازن بين الدين والعرق؟
يرجع تاريخ دخول الإسلام وسط آسيا إلى حركة الفتوحات منذ عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، ثم على يد القادة والفاتحين في الدولة الأموية، ولم تدخل المنطقة كلها تحت حكم الإسلام إلا في عهد الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي، لتنطلق رحلة الحضارة الإسلامية في وسط آسيا، من أواخر القرن الأول إلى أوائل القرن السابع هجري كجزء من خطة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر، وهي البلاد التي تلي بلاد خراسان، وتفصل بينها وبين بلاد الصين.
وقد عرف التاريخ الإسلامي قيام عدد من سلالات الحكم والممالك الإسلامية في مناطق وسط آسيا، كان أساسها من الأقوام التركية المنتشرة في تلك البلاد، ومن أبرز هذه الدول؛ دولة القراخانيين (840- 1212)، والدولة الغورية (879- 1215)، والدولة الغزنوية (961- 1187)، ودولة السلاجقة (1037-1194)، والدولة التيمورية (1370- 1507)، وقد أدى طريق الحرير دورًا مهمًّا في نشر الإسلام في أواسط آسيا، فكانت العقائد والأفكار تنتقل مع البضائع إلى المنطقة.
في خضم هذا، كان المسلمون في آسيا الوسطى تحت وطأة اضطهاد الحكم القيصري، وكان الزعماء البلاشفة يدركون هذه الحقيقة؛ لذلك سعوا إلى الحصـول على تأييد المسلمين لثورتهم؛ نظرًا إلى كثرة أعدادهم، ورغبتهم الشديدة في الخلاص من الحكم القيصري، وهو ما ظهر في خطابات لينين الموجهة إلى المسلمين، التي كانت تستميلهم، وتؤكد ضمان حريتهم في ممارسة عباداتهم، وضمان الحفاظ على هويتهم، وبدأت مجموعة من المسلمين بالتحرك منذ عام 1916 للاستقلال عن حكم الإمبراطورية الروسية، مستغلين انشغالها بالحرب العالمية الأولى، وأقاموا لهم دولة مستقلة في وادي فرغانة الذي تتقاسمه اليوم كل من أوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان، وكانت خوقند عاصمتها، وعقب قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 شن البلاشفة هجومًا عنيفًا على خوقند، وارتكبوا فيها مجزرة راح ضحيتها الآلاف؛ مما شكل ضربة لمحاولة إقامة أي إمارة إسلامية مستقلة عن حكم البلاشفة.
وبعدما استولى البلاشفة على السلطة، وبدأت الحرب الأهلية الروسية (1918- 1921)، شنت حركة “باسمشي”- وهي حركة لا مركزية من الشعوب الإسلامية في آسيا الوسطى- حربًا طويلة الأمد على الحكم الإمبراطوري السوفيتي، وتمكنت من السيطرة خلالها على أجزاء كبيرة من وادي فرغانة، وجزء كبير من مناطق آسيا الوسطى، إلا أنه بحلول أواسط عقد العشرينيات، تراجع الدعم الشعبي للحركة، وبدأ الاتحاد السوفيتي يحكم قبضته تدريجيًّا على آسيا الوسطى، وكان نتاج هذا أن قُسِّمت منطقة وسط آسيا إلى خمس جمهوريات؛ هي: كازخستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان، وتركمانستان، وأوزبكستان.
ومع تبني الاتحاد السوفيتي سياسة إلحاد الدولة، ضُيِّقَ على ممارسة الإسلام والأديان الأخرى في الجمهوريات الخمس، وهو ما اشتد تحديدًا بعد وفاة لينين عام 1924، وصعود ستالين إلى واجهة الحكم في الاتحاد السوفيتي، إذ شملت إجراءات التضييق إغلاق المساجد وهدمها، وإلغاء المحاكم الشرعية، ومنع الكتابة بالحرف العربي، وفُرضت اللغة الروسية على المسلمين، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 استعاد الإسلام سريعًا مكانة مهمة في جمهوريات آسيا الوسطى، وجاء هذا الصعود للإسلام بوصفه الموروث الروحي والمعنوي الوطني الذي لم تتمكن من محوه آلة الاضطهاد السوفيتية، وبرزت مظاهر العودة مع التوجه نحو التدين، وبناء المساجد والمدارس الدينية والجامعات الإسلامية، وتأسيس كثير من الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية في دول آسيا الوسطى.
نتيجة لسياق دخول الإسلام تلك البلدان، يغلب المذهب السني في الجمهوريات الخمس، باستثناء طاجكستان التي يغلب فيها المذهب الشيعي، وتحديدًا الاثني عشري، لكن خصوصية تلك المجتمعات تكمن في أن الاسلام لم يضطلع بدور محوري في توحيد هذه الشعوب، وربما يعود ذلك إلى استمرار ثقافة الحذر من التدين، بل رفضه أيضًا، وهي ثقافة موروثة عن العهد الشيوعي، ثم إن الاضطهاد الذى مارسته السلطة السوفيتية السابقة ضد التدين الإسلامي والمسيحي معًا، أدى إلى قيام حركات دينية سرية، خرجت إلى العلن تحت مظلة الاستقلال، لا سيما في وادى فرغانة، لكن هذه الحركات لم تكن حركات إصلاح فكرية متطورة، بقدر ما هي حركات تطرف تشدها العصبية أكثر من الثقافة الدينية، وهذا أمر طبيعي في ضوء ظروف نشأتها.
في ضوء هذا، تمثلت المجموعات الإثنية الخمس المهيمنة في آسيا الوسطى في: العرق الأوزبكي، والكازاخستاني، والطاجاكستاني، والتركماني، والقرغيزي. تتكلم هذه الأعراق لغات تنحدر من أسرة اللغات التوركية، وتشبه اللغة التركية، باستثناء الطاجيك الذين تقترب لغتهم أكثر من الفارسية الحديثة، ولكن منذ القرن السابع عشر، بسطت روسيا نفوذها على القسم الأكبر من آسيا الوسطى، واستمر حكمها حتى انحلال الاتحاد السوفيتي، وبسبب ذلك النفوذ الذي طال أمده، أصبحت الروسية- ولا تزال- لسانًا مشتركًا بين سكان آسيا الوسطى واللغة المشتركة للتجارة والدبلوماسية والأدب لجمهوريات آسيا الوسطى، خاصة في كازاخستان التي تهيمن فيها الروسية على وسائل الإعلام والمنتديات الثقافية، مثل المتاحف، والمعارض، والمسارح، وعلى أماكن العمل.
وفي مقابل هذا، حملت اللغة العربية في آسيا الوسطى طابعًا خاصًا، إذ تضمنت مجموعة متنوعة من اللغة العربية المستخدمة في أفغانستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، حيث كان يتحدث بها الجاليات العربية في آسيا الوسطى، الذين عاشوا في سمرقند، وبخارى، وقشقداريا، وسرخانداريا بأوزبكستان، وخاتلون بطاجيكستان الحالية، وحافظت الجالية العربية في تلك البلدان على هويتها، إذ عاش معظم عرب آسيا الوسطى في مجتمعات منعزلة، ولم يفضلوا التزاوج مع السكان المحليين، وقد ساعد هذا لغتهم على البقاء في بيئة متعددة اللغات حتى القرن العشرين.
وبالرجوع إلى تاريخ بداية الهجرة العربية إلى منطقتي بخارى وقشقدارا، تشهد المصادر التاريخية على وجود العرب في منطقة قشقداريا بآسيا الوسطى في القرنين السابع والثاني عشر، حيث يرتبط العرب الذين يعيشون في قشقداريا الحالية وأولئك الذين استقروا هناك في القرنين السابع والثاني عشر من خلال دليل مهم جدًّا لعالم الجغرافيا أبي القاسم إبراهيم الإصطخري، فيما يتعلق باستيطان عرب قريش في هذه المنطقة في العصور المبكرة، حيث يربط العرب الذين يسكنون هذه المنطقة في الوقت الحاضر بقبيلة قريش العربية.
ومن جانب آخر، يكشف التحليل اللغوي للهجة البخارية عن بعض ظواهر اللهجات المشتركة بين اللهجات العربية، التي لم تثبتها المصادر الأدبية إلا في القرن الرابع عشر. ووفقًا للتقاليد الشفهية، فإن أسلاف عرب بخارى قد استقروا في آسيا الوسطى على يد تيمورلنك؛ ومن ثم فإن مقارنة لهجة قشقداريا مع لهجة بخارى على مستوى البيانات اللغوية أتثبت أن العربية القاشقدارية أكثر قدمًا، وأكثر تشابهًا مع العربية الفصحى، وهو ما يمكن تفسيره بالعزلة الجغرافية واللغوية الطويلة لعرب القاشقداريا عن العرب، ومع هذا، يتحدث بلهجة بخارى ما يقرب من 3000 شخص من سكان جوغاري، وتشاغداره، وقرى شوهان بك، ومنطقة غيجدوفان، ومنطقة بخارى، وكذلك قرية عرب خانا، ومنطقة وبكند، في حين يتحدث بالعربية القاشقدارية ما يصل إلى 1500 شخص في قشلاق جيناو، وقاماشي، ومنطقة بشكند، بيد أن عدد السكان العرب في تلك المناطق يفوق كثيرًا عدد الناطقين بها.
الجدير بالذكر أن لهجات آسيا الوسطى العربية، لا سيما لهجات بخارى وقشقداريا العربية تنتمي إلى المجموعة الشرقية من اللهجات العربية، حيث تختلف اللهجات العربية بخارى وقشقداريا لغويًّا عن اللهجات العربية الأخرى، وتعد مجموعات مستقلة من اللهجات العربية. فضلًا عن هذا، فإن هناك أيضًا فرقًا بين هاتين اللهجتين؛ لذلك أحيانًا لا يفهم عرب بخارى وقشقداريا بعضهم بعضًا، ويفضلون التحدث بعضهم إلى بعض باللغة الأوزبكية، أو الطاجيكية، ويمكن تفسير الاختلاف اللغوي بين هاتين اللهجتين باختلاف موجات الهجرة من أجزاء مختلفة من الوطن العربي في أوقات مختلفة، وفي الوقت نفسه، يتأثر خطاب عرب قشقداريا في جيناو في الغالب باللغة الأوزبكية، أما اللهجة العربية البخارية فهي متأثرة في الغالب باللغة الطاجيكية، ورغم كل تلك التباينات يندمج عرب آسيا الوسطى ثقافيًّا في الغالب مع السكان المحليين، لكنهم يحافظون على لغتهم، ويكسبون عيشهم من الأنشطة التقليدية للعرب، مثل تربية الأغنام، والحرف اليدوية العربية، والزراعة.
ارتبطت آسيا الوسطى بالحضارة الإسلامية منذ فتحها العرب المسلمون، وأطلقوا عليها بلاد ما وراء النهر، لكن جمهوريات آسيا الوسطى تختلف بشكلها الحالي بعضها عن بعض من حيث إسهامها في الموروث الحضاري الإسلامي، والسبب يرجع إلى أن سكان أوزبكستان وتركمانستان عرفوا استقرارًا حول نهر جيحون نشأ عنه تحضر، في حين غلبت على سكان طاجيكستان وقرغيزستان وكازاخستان البداوة، فظل أغلبهم في ترحال مستمر، وقد أثرت ثنائية البدو والحضر في منطقة ما وراء النهر وخراسان، فظهرت في أوزبكستان الحالية مثلًا أغلب الحواضر ذات التأثير الثقافي والديني، كسمرقند، وبخارى، وترمذ.
منذ ذلك الحين، قدمت بلدان آسيا الوسطى كثيرًا من العلماء الذين كانت لهم إسهامات مشهودة في علوم الرياضيات، والطب، والفلسفة والحديث واللغة، وسرعان ما تتبادر إلى الأذهان أسماء كثيرة لشخصيات بارزة في التاريخ الإسلامي خرجت من تلك المناطق، ويؤشر ذلك- بلا شك- إلى أن تلك المناطق كانت مركزًا إسلاميًّا في الحقب التاريخية الماضية، ولعل أبرز هؤلاء العلماء الترمذي الذي ولد عام 209 هـ، وكان شيخًا ضريرًا من ترمذ بخراسان، في دولة طاجيكستان حاليًا، كما خرج من الأرض نفسها الإمام النسائي أحمد بن شعيب الذي ولد عام 215 هـ، وهو صاحب كتاب المجتبى في الحديث، وهو من الكتب الستة، ليكتمل العقد الفريد لأئمة علم الحديث.
وكذلك برز أئمة العلوم الأخرى، كالخوارزمي محمد بن موسى في العلوم الرياضية، وهو من خوارزم بتركمانستان، الذي ولد عام 164 هـ، ويعد أول من وضع الأساس الأول لعلم الجبر، وألف كتاب الجبر والمقابلة الذي تُرجم إلى لغات مختلفة في العالم بوصفه أول مرجع في هذا الاختصاص، وبرز في هذه البلاد أيضًا البيروني، الذي ولد في بيرون قريبًا من كاث عاصمة خوارزم عام 362 هـ، وكان رائدًا في الرياضيات والفلك والجغرافيا، وعرف بأنه أول من استعمل الأصفار لمقام الخانات، كما برزت أسماء أخرى منها الرازي، والجرجاني، والفارابي، وابن سينا، وغيرهم ممن كان لهم تأثير مهم في تطور العلم في أوروبا في القرون اللاحقة.
يضاف إلى هذا الرصيد العلمي رصيد عسكري جهادي مبهر، حيث عُرف المسلمون في منطقة آسيا الوسطى ببراعتهم في فنون القتال، يذكر آثاره جيدًا المغول، والصليبيون، والروس، ليس فقط في موطنهم بوسط آسيا، بل امتدت أمجادهم إلى قلب العالم الإسلامي في عصر المماليك، حيث كان أغلب حكام هذا العصر من بلدان آسيا الوسطى، فلم يكن ظهور المماليك بين عامي 929 م و1250 م عابرًا؛ بل تمكنوا في نهاية المطاف من قيادة دولة تحمل اسمهم، استمرت قرابة 3 قرون، حيث بسطت خلالها نفوذها على مصر، والشام، والحجاز، واليمن.
للوقوف على دور العرب في آسيا الوسطى، نجد أن نشأة العرب كانت في الركن الجنوبي الغربي لآسيا الوسطى، وبالتحديد في شبه الجزيرة العربية، ومنها انتشروا في القرن السابع شرقًا في اتجاه إيران وآسيا الوسطى، وصولًا إلى الصين، وشبه الجزيرة الكورية، والجزر الإندونيسية. كذلك اتجه العرب غربًا في اتجاه إفريقيا الشمالية، وبينما تحولت إفريقيا الشمالية إلى العروبة والإسلام، فإن إيران وآسيا الوسطى، ومعها باقي أجزاء آسيا، اعتنقت الإسلام، ولكنها لم تستعرب، ويبدو أن أحد العوامل التي أسهمت في عدم تحول آسيا الوسطى إلى العروبة، هو الدور الذي اضطلعت به إيران، بوصفها منطقة عازلة بين موجات الهجرة البشرية العربية والجمهوريات الخمس، مقارنة بالدور الذي اضطلعت به مصر بوصفها حلقة وصل بين العرب وباقي أجزاء القارة الإفريقية، فأمام العوامل السياسية الخارجية المتصارعة، والعوامل الإثنية المحلية المتخاصمة، برزت معادلة مفادها الحفاظ على الدين الإسلامي في الجمهوريات الخمس، لكن بخصوصية تتسق مع القيم الآسيوية التي رسختها السلطات بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.