مقالات المركز

العالم العربي يسير على طريق التعددية القطبية


  • 26 يونيو 2024

شارك الموضوع

في 8 يونيو (حزيران) 2024، انتهت صلاحية الاتفاقية الأمنية التي وقعتها السعودية والولايات المتحدة عام 1974، والتي رفضت الرياض تجديدها، وقد ألزمت هذه الوثيقة السعوديين ببيع النفط بالدولار فقط.

استقبلت الولايات المتحدة هذه الأخبار بالذعر. وفي الواقع، كان من المسلم به أن البترودولار كان حتى وقت قريب، أساس الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي. الآن سوف يتغير الوضع كثيرًا. سيؤدي قرار الرياض إلى تكثيف الهروب من الدولار في الاقتصاد العالمي، وقد أصبحت العملية لا رجعة فيها، ليس في روسيا فقط.

وإذا كانت موسكو قد فرضت في السابق قيودًا على التجارة بالدولار واليورو بسبب العقوبات، فإن تصرفات السعودية قرار طوعي تمامًا، ودافعه المصلحة العملية للمملكة في التحوط لمواقفها بسبب انخفاض قيمة الدولار وعجزه. ومع تداول منتجي النفط الرئيسين الآخرين، مثل إيران وروسيا، النفط بالعملات المحلية، فإن هذا الوضع سيغير هيكل سوق النفط. ومع تطبيق الحزمة الرابعة عشرة من العقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي على روسيا، حيث توجد قيود على بيع الغاز الطبيعي المسال، ستؤثر التغييرات في هذا المجال.

لقد أكدت المملكة العربية السعودية- على نحو واقعي- توجهها نحو التعددية القطبية- مرة أخرى- بعد رفض طلب جو بايدن تنظيم أسعار النفط بما يخدم مصالح واشنطن.

ماذا يمكن أن نتوقع من الولايات المتحدة الآن؟ أول ما يتبادر إلى الذهن هو رفض التعاون العسكري التقني مع المملكة العربية السعودية. حتى الآن، أكدت واشنطن- باستمرار- اعتماد الرياض على المساعدة الأمنية الخارجية منذ حرب الخليج، مع أن هجمات الحوثيين على البنية التحتية السعودية أظهرت أن الولايات المتحدة كانت عاجزة عن ضمان أمن المجال الجوي.

الآن، تشعر الولايات المتحدة بالقلق من أنه إذا استمرت إسرائيل في معارضة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، فإن السعودية لن توافق على تطبيع علاقاتها مع الدولة اليهودية. وفي المقابل، لن تقدم الولايات المتحدة ضمانات أمنية رسمية للرياض، وهذا مؤشر واضح لما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة للضغط على المملكة. وتعتقد الولايات المتحدة أنه لكي يكون اتفاق الدفاع بين الدول موثوقًا به سياسيًّا وفعالًا عسكريًّا، يجب أن يكون على ثلاثة مستويات: (عسكري، وإستراتيجي، ومؤسسي). ويجب أن تكون العوامل الثلاثة متكاملة، وفي حالة السعودية والولايات المتحدة، لن يكون أي من هذه المستويات واضحًا؛ لأن كلا البلدين أهمل أو قلل من أهمية التعاون الدفاعي الجاد عقودًا من الزمن.

من المحتمل أن تحاول واشنطن تخويف السعودية من خلال “وكلاء إيران” في العراق واليمن؛ من أجل فرض التزامات معينة تحت ستار هذا التهديد. وهنا يطرح السؤال عن البنية الأمنية للمنطقة ككل. لقد أظهرت الولايات المتحدة أنها غير مهتمة بالسلام الحقيقي في المنطقة، بل فقط بالقيام بمهام الشرطي، واتخاذ الإجراءات العقابية مع بريطانيا ضد حركة أنصار الله في اليمن لم تؤد إلى شيء.

تحتاج دول الخليج العربية وشمال إفريقيا إلى توفير ما يكفي من الطرق اللوجستية البحرية، وتشغيل المواني دون انقطاع، وغياب أي تهديدات.

هناك لاعبان آخران يمكنهما أن يحلا محل الغرب الجماعي، وهو ما ستستفيد منه دول المنطقة أيضًا، وأعني هنا الصين وروسيا. تنفذ الصين مبادرة الحزام والطريق؛ لذا فهي مهتمة أيضًا بالتشغيل السلس لسلسلة توريد السلع. بالإضافة إلى ذلك، أثبتت بكين أنها وسيط موثوق به عندما طبَّعت إيران والمملكة العربية السعودية علاقتهما الدبلوماسية.

وتتمتع روسيا بخبرة عملية في مجال الأمن، ويتجلى ذلك في الوجود المتزايد للجيش الروسي في الدول الإفريقية. إضافة إلى ذلك، فإن التفاعل بين روسيا وسوريا يظهر أن موسكو تفي بالتزاماتها، حتى لو كان الثمن باهظًا، ومن الضروري أن تدفعه من أرواح جنودها وضباطها. إن صورة روسيا عالية جدًّا في جميع دول غرب آسيا، وشمال إفريقيا تقريبًا؛ لذلك يمكن لموسكو أيضًا أن تعمل وسيطًا في مختلف القضايا المثيرة للجدل، والحساسة، على سبيل المثال، بين اليمن والسعودية. ويختلف نموذج التفكير الإستراتيجي لموسكو جذريًّا عما يمكن أن تقدمه لندن أو واشنطن، اللتان لديهما طموحات استعمارية جديدة، وعنصرية خفية تجاه الدول العربية.

المهم هو أن موسكو لا تطالب بالتحرك ضد الولايات المتحدة، والغرب الجماعي كله. إن موقف عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى هو الفرق الرئيس بين الدبلوماسية الروسية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما أن موسكو لن تعتمد على قوات معينة لاستخدامها حسب تقديرها. وفي عهد الاتحاد السوفيتي، كان لا يزال من الممكن اتهام قيادته بمساعدة الشيوعيين والأحزاب اليسارية في بلدان أخرى، ولكن الآن لا يوجد أي أثر لهذا. تدعم روسيا هوية الشعوب الأخرى، وتعزيز سيادة الدول الصديقة، على النقيض من الغرب، الذي يحاول، تحت ستار حقوق الإنسان، فرض نظامه الخاص في الحكم السياسي، وجلب عملاءه إلى السلطة.

ولذلك فإن التعاون المفتوح والصادق بين الدول العربية وروسيا يصب في مصلحة جميع الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لروسيا توفير عدد من التقنيات والسلع الفعالة للمنطقة. على الرغم من الاعتقاد السائد أن كثيرًا من منتجات التكنولوجيا الفائقة تُصنّع في الغرب، أو في الصين، فإن روسيا هي التي تنتج عددًا من المنتجات التي تُصدّر إلى الصين.

وأخيرًا، من الممكن أن يؤدي التعاون العلمي والتعليمي بين مجموعة من الدول، وخاصة أعضاء مجموعة بريكس، إلى نتائج مهمة. النظرة الحديثة للعالم تعتمد على المواقف والنماذج التقليدية (الدينية والثقافية) التي يتم الحصول عليها في أثناء العملية التعليمية. تخلق الممارسات الإنسانية الغربية أطرًا معينة تشكل نموذجًا ليبراليًّا للتفكير. ويجب الاعتراف بأنه في العقود الأخيرة كان هذا هو السائد في معظم دول العالم. ولكن بما أنه من الواضح أن الليبرالية هي أيديولوجية مدمرة، فإن كثيرًا من الدول تنتبه إلى ضرورة تغيير البرامج العلمية والتعليمية إلى تلك التي تعزز هويتها الخاصة، وفي الوقت نفسه تسمح لها بالحصول على المعرفة اللازمة للأنشطة الدولية، وتجميعها أعمال الإنتاج والاكتشافات العلمية.

كما يمكن للعالم العربي أن يسهم في تشكيل قاعدة علمية وتعليمية في إطار التعددية القطبية. إن ابن خلدون، والكندي، وابن رشد، وابن طفيل، وكثيرًا من العلماء العرب القدماء الآخرين، ليسوا فخرًا للبلدان الناطقة بالعربية فحسب؛ بل هم أيضًا ممثلون لخزانة العلوم والفنون العالمية. في القرن الحادي والعشرين، نحتاج إلى منظرين وممارسين جدد قادرين على تقديم أفكارهم الخاصة، وروح الثقافة العربية التي تعود إلى قرون مضت. كل هذا سيعمل على تأسيس التعددية القطبية الحقيقية، وخلق عالم مزدهر ذي مستقبل أفضل.

ينبغي أيضًا أن يصبح القانون الدولي موضوعًا للعمل النشط من جانب الدول العربية، أو على وجه التحديد، إصلاحه بما يخدم مصالح جميع الأطراف، وليس فقط الغرب الجماعي، الذي يدافع عن صيغة “النظام القائم على القواعد”. يمكن للمدارس القانونية التاريخية في الإسلام وتفسيراتها أن تكون نوعًا من النواة الأساسية التي يمكن للفقهاء المعاصرين البناء عليها لتطوير مقترحات جديدة ذات صلة بعصرنا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع