مقالات المركز

التعامل مع مخلفات الصراع العسكري

الطريق نحو السلام بين روسيا وأوكرانيا


  • 30 مارس 2025

شارك الموضوع

تحييد دور المجموعات شبه العسكرية وتجارة السلاح

ظهرت خلال الحرب مجموعات شبه عسكرية في كل من روسيا وأوكرانيا، بعضها مرتبط بجهات رسمية، وأخرى تعمل مستقلة. كما انتشر السلاح في أيدي المدنيين انتشارًا كبيرًا في بعض المناطق. هذه الحالة تمثل تحديًا كبيرًا أمام أي اتفاق سلام، إذ قد ينتهي المطاف ببعض العناصر المسلّحة إلى ممارسة أعمال خارجة عن القانون، أو تشكيل عصابات جريمة منظمة إذا لم تُعالَج على نحو منظم.

من هنا تبرز أهمية نزع سلاح هذه المجموعات، أو دمجها في القوات النظامية على نحو شرعي، ووفق معايير واضحة، إضافة إلى إطلاق برامج لإعادة تأهيل المقاتلين ودمجهم اجتماعيًّا، فتجارب ما بعد الحروب في أماكن عدة من العالم أظهرت أن إهمال ملف المقاتلين السابقين يخلق قنابل موقوتة تهدد الأمن والاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع.

البعد القانوني والدولي.. ضرورة محاسبة مسؤولي الجرائم

لم تخلُ هذه الحرب من اتهامات خطيرة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من جانب الطرفين. تحدثت منظمات حقوقية دولية عن انتهاكات جسيمة في عدة مناطق، شملت قتل المدنيين، واستهداف البنى التحتية الحيوية، وارتكاب أعمال تعذيب وإخفاء قسري. ولأن استدامة السلام تتطلب إنهاء شعور الضحايا بالظلم، فإن آليات المحاسبة تصبح واجبًا لا بد منه.

قد يشمل ذلك محاكمات دولية أو لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة. ويمكن أن تُستحدث محكمة متخصصة على غرار محكمة يوغوسلافيا السابقة، أو محكمة سيراليون، تُناط بها مهمة التحقيق في أحداث الحرب الأوكرانية، ومحاكمة المسؤولين عنها. ومع أن هذه الخطوة قد تواجه مقاومة شديدة، سواء من موسكو أو حتى من كييف، فإنها تشكل إشارة واضحة بأن المجتمع الدولي لن يسمح بتمرير الانتهاكات دون عقاب. ويُعدّ هذا جزءًا من العدالة الانتقالية التي تتيح الفرصة للضحايا لاستعادة بعض حقوقهم، وللمجتمع الأوكراني لاستخلاص الدروس وتجنب تكرار المأساة في المستقبل.

تدريب الكوادر الأمنية والشرطة على حفظ الأمن في فترة ما بعد الصراع

مرحلة ما بعد الصراع غالبًا ما تتسم بالهشاشة الأمنية، وعودة بعض الأفراد المنخرطين في المجموعات المسلحة إلى المجتمع. ويصبح السؤال المطروح: كيف يمكن ضمان أمن المواطنين دون السقوط في دائرة انتهاكات حقوق الإنسان؟ الحل يكمن في تدريب الشرطة والقوات الأمنية بأساليب حديثة تركز على حفظ النظام العام، وحماية حقوق المواطنين. ويمكن الاستفادة من برامج دولية في هذا المجال، تشارك فيها دول تمتلك خبرات ناجحة في إصلاح القطاع الأمني بعد النزاعات، ويفترض في هذا التدريب أن يشمل:

القيم المهنية والأخلاقية

ترسيخ مبدأ احترام القانون، وعدم التمييز على أساس الانتماء العرقي أو السياسي.

التعامل مع ضحايا الحرب

تطوير مهارات للتعامل بحساسية مع النازحين والعائدين من مناطق القتال، وضحايا العنف الجنسي أو التعذيب.

تقنيات فض النزاعات

 تعليم ضباط الشرطة كيفية التوسط في الخلافات المحلية بالطرق السلمية، وتشجيعهم على تفادي استعمال القوة المفرطة.

من شأن هذه الإصلاحات أن تعزز ثقة السكان بأجهزة الدولة، وتقلل احتمالية تصاعد موجات عنف جديدة نتيجة تجاوزات أمنية، أو اشتباكات غير ضرورية.

إستراتيجية تخفيف التسلح.. منع سباق التسلح الإقليمي

عقب أي هدنة أو اتفاق سلام محتمل، يظل هاجس التسلح قائمًا لدى كل طرف؛ خشية عودة الصراع، أو انتهاك الاتفاقيات، وقد يؤدي هذا إلى سباق تسلح بين روسيا وأوكرانيا، وحتى الدول المجاورة التي تستشعر تهديدًا محتملًا؛ ومن هنا تأتي أهمية صياغة إستراتيجية واضحة لتخفيف التسلح في المنطقة، تشمل وضع حدود للقدرات الصاروخية، وتقنين حيازة الطائرات المسيّرة، والأسلحة الثقيلة.

يمكن لمنظمات دولية، مثل الأمم المتحدة، أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أن ترعى عمليات تفتيش وتحقق دوري للتأكد من التزام الأطراف بتخفيض ترسانتها العسكرية. وفي الوقت نفسه، يجب توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا تغنيها عن تطوير قدرات عسكرية ضخمة، وضمانات لروسيا بأن عدم توسع الناتو شرقًا لن يهدد أمنها القومي. هكذا تُرسم معالم معادلة توازن تمنع الأطراف من الانزلاق مجددًا في دوامة التسليح والتصعيد.

تحدي دمج قدامى المحاربين في الحياة العامة

لا يمكن تجاهل قضية الجنود السابقين والعناصر التي شاركت في القتال. هؤلاء سيعودون إلى الحياة المدنية محملين بتجارب عنيفة، وقدرة على استخدام السلاح؛ ما يجعل اندماجهم في المجتمع مهمة دقيقة؛ لذا قد يكون من الضروري وضع برامج تأهيل نفسي واجتماعي تستهدف هؤلاء الأفراد، وتوفر لهم فرص عمل، أو دعمًا ماليًّا لإقامة مشروعات صغيرة. الفشل في هذا الملف قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة، أو انتشار الجماعات الخارجة عن القانون.

تستطيع الدولة الأوكرانية إشراك قدامى المحاربين في مشروعات البنى التحتية، أو في قطاعات تحتاج إلى مهارات خاصة، مستفيدة من انضباطهم وخبراتهم. كذلك، يمكن إشراكهم في قوات أمن رسمية، بعد تدريب إضافي يضمن التزامهم بالقواعد القانونية والمهنية. هذه الخطط تسهم في إعادة بناء النسيج الاجتماعي، وتحويل مصادر العنف المحتملة إلى عناصر بنّاءة.

أخطار التدخلات الإقليمية والدولية غير المنسقة

إن تداخل المصالح الدولية في الملف الأوكراني قد يكون فرصة لدعم الحل، لكنه أيضًا يحمل خطر الدخول في تجاذبات؛ فالأزمة الأوكرانية أصبحت جزءًا من لعبة شد وجذب بين روسيا والغرب، كما تظهر قوى أخرى، كالصين وتركيا والسعودية، تسعى كل منها إلى تحقيق مكاسب إستراتيجية أو اقتصادية. إذا لم تُنسَّق هذه الجهود ضمن إطار دولي واضح ومتفق عليه، فقد تتحول تعددية الوسطاء إلى عامل لتضارب المسارات، وزيادة التعقيد.

ينبغي للأمم المتحدة، أو أي منظمة ذات مصداقية دولية، أن تتولى دورًا محوريًّا في تنسيق المبادرات، وتقديم الضمانات. كما ينبغي تأكيد أهمية أن تصبّ جميع الجهود في مصلحة إنهاء النزاع على نحو شامل، بدلًا من إعطائه هدنة قصيرة لاستمرار مصالح دول بعينها. وقد يكون من المفيد تشكيل تحالف دولي لدعم أوكرانيا وروسيا في مسار التسوية، يتكون من مجموعة كبيرة من الدول والمؤسسات التي تلتزم بتقديم المساعدة والرقابة على تنفيذ الاتفاقات.

الانخراط في مبادرات إقليمية أكبر.. الرؤية المستقبلية للعلاقات الأوروبية الشرقية

على المدى البعيد، لا ينبغي أن ينحصر حل الصراع الأوكراني في مجرد إيقاف الحرب؛ ومن ثم الانتقال إلى حالة من الهدوء الحذر؛ المطلوب هو إطلاق عملية تحول شاملة في منطقة أوروبا الشرقية، بحيث تتجاوز التوتر التاريخي بين روسيا وجيرانها. قد يتطلب ذلك التفكير في إنشاء اتحاد إقليمي اقتصادي- سياسي يضم دولًا من المنطقة، يهدف إلى تسهيل تبادل السلع ورؤوس الأموال، وتنقل الأفراد. هذا الاتحاد لو أُدير بنجاح، يمكنه أن يكون مساحة تلتقي فيها أوكرانيا وروسيا ودول أخرى، مثل بيلاروس ومولدوفا وجورجيا، مع احتفاظ كل منها بسيادتها واستقلاليتها.

إن هذه الرؤية الإستراتيجية الطويلة المدى قد تصطدم بتوجسات موسكو من توسع أي نفوذ غربي، وبسعي كييف إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن التاريخ أثبت أن الأقاليم التي تتعاون اقتصاديًّا وتتداخل مصالحها تقل احتمالية اندلاع الحروب بينها. وربما يفتح نجاح أي تسوية في أوكرانيا بابًا للتفكير بمبادرات إقليمية أكبر تضبط إيقاع العلاقات بين روسيا والدول المحيطة بها، وتجعل إعادة رسم الحدود بالقوة أمرًا غير مقبول دبلوماسيًّا، أو جماهيريًّا.

الأخطار المحتملة لتمدد الصراع إقليميًّا

يتمثل هاجس خطير في إمكانية امتداد الأزمة الأوكرانية إلى مناطق أخرى إذا لم تُحسَم جذريًّا؛ فبعض الدول المجاورة، مثل مولدوفا وجورجيا، لديها أيضًا نزاعات مجمَّدة مع روسيا (ترانسنيستريا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية). كما أن حلف الناتو عزز وجوده العسكري في دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) التي تخشى تهديدًا روسيًّا. هذا الوضع قابل للانفجار إذا تصاعدت الاستفزازات، أو تزايدت التحركات العسكرية؛ لذلك فإن التوصل إلى صفقة شاملة في أوكرانيا قد يُسهِم في تهدئة مخاوف باقي الدول، ويقلل احتمال تصاعد التوتر في أماكن أخرى. كما أنه قد يشجع روسيا على انتهاج سياسات أكثر اعتدالًا مع جيرانها، ويمنح حلف الناتو سببًا لتخفيف أو إعادة تنظيم انتشاره في شرق أوروبا. في المقابل، إذا فشل المسار التفاوضي في أوكرانيا، واستمرت المواجهات، فقد تجد دول أخرى نفسها في عين العاصفة؛ ما يوسّع رقعة عدم الاستقرار في كل أوروبا الشرقية.

مبادرات ثقافية لتوثيق الذاكرة وتخليد ضحايا الحرب

للحرب ذاكرة جماعية قد تشكل وعي الأجيال القادمة؛ ولذلك من الضروري إرساء ثقافة إنسانية تكرّم الضحايا، وتدعو إلى التعلم من الأخطاء. يمكن إنشاء متاحف ومراكز توثيق تعرض قصص المدنيين والعسكريين الذين دفعوا ثمن النزاع، وتبيّن الجانب الإنساني الكارثي للحروب. كما يمكن إنتاج أفلام وثائقية أو روائية تتناول المعاناة والأمل، وتبرز كيف أن “الآخر” ليس وحشًا مطلقًا؛ وإنما إنسان يشاطرك الخسائر والحزن.

هذه المراكز والفعاليات تسهم في بناء ذاكرة جمعية تدفع باتجاه نبذ الحروب مستقبلًا. قد يكون من المفيد إشراك خبراء في التاريخ والأنثروبولوجيا وعلم النفس في تصميم هذه الفعاليات؛ لضمان تقديم سردية موضوعية ومتعددة الأصوات؛ فالتوثيق السليم يقطع الطريق أمام محاولات تزييف التاريخ، أو توظيفه للدعاية في العقود اللاحقة.

إن المنعطف الراهن الذي وصلت إليه الأزمة الأوكرانية يتيح نافذة نادرة لاستئناف محاولات التسوية الشاملة. ليس خيار وقف إطلاق النار ثلاثين يومًا في اجتماع جدة سوى بداية لمسار طويل ومعقد. لقد سبقت هذه الخطوة محاولات كثيرة حملت بوادر أمل، ثم اصطدمت بالواقع المرير، ومع ذلك يبقى الأمل ممكنًا عند توافر خطة متكاملة تعالج الجوانب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والإنسانية، والثقافية.

ما يحدث اليوم يشبه مفترق طرق يجتمع فيه المبعوثون الدوليون، والمفاوضون الروس والأوكرانيون، وممثلون عن قوى كبرى، كالصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أطراف إقليمية كالأتراك والخليجيين. كل طرف يقدم مصالحه، ورؤيته، ورهاناته الخاصة، لكن في قلب هذا المشهد المعقّد يقف ملايين الأوكرانيين الذين أنهكتهم الحرب، وملايين الروس القلقين من العقوبات والعزلة، ومجتمع دولي يخشى توسع رقعة الصراع، وما يترتب على ذلك من أزمات اقتصادية وأمنية عالمية.

إن الوصول إلى سلام حقيقي يتطلب توافقًا يستند إلى قيم العدالة والاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا بد أن يُدعَّم هذا التوافق بخطط مُحكَمة لبناء الدولة الأوكرانية على أسس دستورية وديمقراطية صلبة، مع عدم إهمال المخاوف الأمنية الروسية. كما يحتاج إلى التزام جادّ من المجتمع الدولي في مراقبة تنفيذ الاتفاق، وتمويل إعادة الإعمار، وإنهاء مأساة النزوح والتهجير.

قد نشهد نجاحًا في بناء إطار يسمح لشرق أوكرانيا بالتعبير عن خصوصيته، ولشبه جزيرة القرم بأن تجد حلًا عادلًا، ولروسيا بأن تشعر بالأمان الإستراتيجي، ولأوكرانيا بأن تستعيد سيادتها، وتحافظ على خياراتها المستقبلية في السياسة والاقتصاد. كل ذلك مشروط بصدق النيات، والتعاون المستمر على مدى السنوات المقبلة؛ لبناء سلام حقيقي لا ينهار مع أول اختبار. وفي ظل هذه الصورة المركبة، يبقى كل شيء ممكنًا ما دام هناك سعي إلى تسوية تراعي مصالح الجميع، وتحول دون التضحية بالأجيال المقبلة فوق مذابح السياسة والقوة.

أهمية دور الأمم المتحدة في إعادة صياغة شرعية دولية للصراع

يشعر بعض الأوكرانيين بأن المجتمع الدولي تخلى عنهم، أو لم يتحرك بالسرعة الكافية عند ضم القرم والتدخل العسكري اللاحق. في المقابل، ترى روسيا أن الأمم المتحدة منحازة إلى الغرب في كثير من القرارات المتعلقة بالعقوبات والإدانات. لإعادة ثقة الجميع بالشرعية الدولية، قد يكون من المفيد طرح المسألة الأوكرانية مجددًا في مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة؛ بهدف الوصول إلى قرار دولي متكامل يُشكّل الأساس القانوني الملزم لحل النزاع.

يمكن لهذا القرار أن ينص على الخطوط العريضة للاتفاق السياسي، وآليات مراقبة وقف إطلاق النار، والتزامات الأطراف بسحب الأسلحة الثقيلة، وسبل حماية المدنيين. كما يمكنه توفير مظلة أممية لدعم برامج إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية. وكلما زادت درجة مشاركة المجتمع الدولي في صياغة هذا القرار، قلّ احتمال نقضه، أو التفاف أحد الأطراف عليه مستقبلًا.

الاستفادة من خبرات دول خرجت من حروب دامية

عند النظر إلى التجارب الدولية، نجد نماذج مثل البوسنة والهرسك التي شهدت حربًا أهلية مدمرة في تسعينيات القرن العشرين، وانتهت باتفاق دايتون الذي فرض إطارًا معقدًا لحكم البلد، ولكنه أوقف الحرب. كذلك تجربة أيرلندا الشمالية التي توصلت إلى “اتفاق الجمعة العظيمة” بعد عقود من الصراع الطائفي، وتجربة جنوب إفريقيا في مواجهة إرث الفصل العنصري من خلال لجنة “الحقيقة والمصالحة”. كل هذه الأمثلة تشير إلى أن صنع السلام عملية طويلة الأمد، تتضمن مصاعب جمّة، ولكنها ليست مستحيلة.

بوسع أوكرانيا وروسيا أن تتعلما من هذه الدروس أهمية الحوار الصادق، وضرورة ضمان تمثيل كل الفئات المجتمعية المتضررة في أي مفاوضات، وعدم إقصاء أي صوت يمكن أن يؤدي دورًا في تهدئة الساحة؛ فتنوع المبادرات، وتعدد أطراف الوساطة، قد يكونان عامل قوة إذا أدير بحكمة، وقد يصبحان عامل فوضى إذا اختلطت الأجندات، وافتقدنا خطة واضحة المعالم.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع